حضارة التحنيط وحيوية التغيير

حضارة التحنيط وحيوية التغيير2019-12-10T12:08:40+00:00

حضـــارة التحنيــط وحيويــة التغييــر

دكتور عبد الباقي إبراهيم

رئيـس تحريــر مـجـلة عالـم البنــاء

حاول الدكتور ممدوح البلتاجى رئيس الهيئة العامة للاستعلامات أن يجد فى مقاله الذي نشر بالأهرام بتاريخ 26/7/1986 تفسيرا لمجموعة من الظواهر التى يعيشها مجتمعنا ويتلمس أحيانا السبل للفكاك من أسوارها وأثارها.. ربما دون فعالية كبيرة ويفسر سيادته سبب وجودها بأننا مجتمع شديد المحافظة، مجتمع يخشى التغيير وارتياد المجهول، مجتمع يحافظ على القديم ويحاول دون جدوى بعثه فى المستقبل. ويرجع سيادته ذلك – كما يبدو له – إلى جذور حضارة قامت جوهرها على السعي للخلود وابتدعت – فيما ابتدعت – تحنيط الملوك ويستدل سيادته على هذا بمجموعة من الظواهر منها استمرار مثول أبطال الحياة السياسية فى الماضي على مسرح الحاضر رغم انتهاء دورهم تماما، وكأن سيادته يريد أن يوقف الاستمرار التاريخي ويقفل كتبه. فما باله إذن بقصص القرآن الكريم وما فيه من عبر ؟ ومن الظواهر الأخرى تلازم وجود أجهزة التوثيق الميكروفيلمي مع الأضابير والملفات الهالكة.. هو يعلم تمام العلم أننا أصبحنا بحكم السياسات المتعاقبة دولة تابعة تستورد التكنولوجيا ولا نشارك فى صنعها ونتصور أننا نواكب أحدث ما أنجزه العلم من تكنولوجيا. فليس ذلك إلا ظاهرة من ظواهر ” التحنيط الفكري ” الحديث وانني أتساءل هل شعر سيادته فى يوم من الأيام كما أشعر أنا كل يوم بالخجل من رباط العنق الذي ألفه حول عنقي صباح كل يوم وأنا لا أدرى له سببا أو منطقا وأعلم أن الحضارة الغربية هي التى تحاول أن تحكم الخناق حول عنقي رمزا للأسر والعبودية الحضارية.. وما ينطبق على رباط العنق ينطبق على كل مظاهر الحياة الذي يحاول سيادته أن يفهم مظاهرها الاجتماعية فى محاولة للتحرر منها – لأن الظاهرة – كما يقول سيادته – جسيمة ومضادة لروح الريادة واقتحام الجديد والحرية وقدرة التطور وحيوية التغيير.. ويظهر أننا ندعو إلى الحرية ونحن مقيدون بما فرضته علينا الحضارة الغربية فألبستنا الطربوش النمساوي.. بدلا من أن تلبسنا القبعة الأنسب لجونا الحار.. وألبستنا البدلة التى تقيد حركتنا للصلاة فى أوقاتها وألبستنا رباط العنق الذي يخنق أنفاسنا.. وبعد ذلك نتغنى بحضارة سبعة ألاف سنة دون أن نشارك فى استمراريتها.. ونحن على مدى خمس قرون لم نستطع أن نطور ملبسنا بأيدينا.. ونتطلع دائما إلى أحدث ما ينتجه الغرب لنا من موضة العصر.. وليس هذا إلا ظاهرة من ظواهر “التحنيط الفكري” الحديث.. هذا فى الوقت الذي تحافظ فيه شعوب غيرنا ممن أصابها الاستعمار الغربي بكل قيمها الحضارية وشخصيتها مثل الهند واليابان التى قفزت إلى أعلى درجات التقدم التكنولوجي والانطلاق العلمي ولكنها لا تزال ترتبط بقيمها الحضارية وشخصيتها الذاتية… ولم يقولوا عنها أنها تعيش فى حالة من “التحنيط الفكري” فالارتباط الحضاري هنا لا يتعارض مع التقدم العلمي بل هذا يعتبر أعلى درجات التحضر الذي تتوازن فيه القيم الحضارية بالإنجازات العلمية بخلاف الحضارة الأمريكية التى تغلب فيها الإنجازات العلمية على القيم الحضارية إن وجدت. هنا يظهر مفهوم الاصالة والمعاصرة.

ويفسر الدكتور ممدوح البلتاجى ظاهرة التحنيط أيضا بتكدس أسطح بيوت القاهرة بالمخلفات البالية “الكراكيب” عديمة الفائدة.. كما تتكدس مخازن البيوت بالمستلزمات المنزلية ما يستعمل منها أو لا يستعمل.. وهذه ليست ظاهرة من ظواهر التحنيط بقدر ما هي ظاهرة من ظواهر عدم الاطمئنان الاقتصادي فعادة التخزين هنا هو تعبير عن الخوف من السنوات العجاف فى المستقبل والكل يعتقد أن هذه “الكراكيب” سوف تكون ذات فائدة ما فى المستقبل. والناس تبنى مساكن لها ولأولادها خشية ألا يجدوا مسكنا فى المستقبل حتى ولو تركوا هذه المساكن دون عائد لمدد طويلة ويرجع كل ذلك إلى الخوف من المستقبل.. وليس إلى الجذور الحضارية التى قامت فى جوهرها على السعي للخلود وتحنيط الملوك. ويقول الدكتور ممدوح البلتاجى فى نهاية كلمته أنه كلما تعقدت ظروف الحياة المادية أو الروحية ازداد جنوح الإنسان المصري إلى الماضي يهجع بحنين إلى أمجاده وقيمه بل وإلى رموزه. والماضي هنا بالنسبة للإنسان المصري هو تاريخه الفرعوني أو الإسلامي الذي بهر العالم بإنجازاته العلمية والفكرية. والذي يجد فيه الإنسان المصري بداية الانطلاق والابتكار والإضافة فى العلوم والثقافة. وليس فى ذلك معنى الإبقاء على الواقع والعودة إلى الماضي – المحنط – فكرا وأشخاصا وممارسات و إلا بطلت تعاليم الرسالات السماوية فى الارتقاء بالمستوى الحضاري والفكري للإنسان والإنسان المصري متدين بطبيعته يرجع إلى الله كلما تعقدت ظروف الحياة المادية أو الروحية.

وهنا نسأل السيد رئيس هيئة الاستعلامات وهى من أهم أجهزة الدولة الإعلامية.. هل معنى التجديد والتغيير والتطوير والتقدم هو إطلاق مسميات أجنبية على المحلات والمؤسسات.. أو هو فى تعلم الشباب الأغنيات الأجنبية مع شرح لتاريخ أصحابها أو هو فى تغيير رباط العنق كلما تغير لون البدلة كل صباح، وبعضاً يلبس الجلباب وبعضاً يلبس العمة أو الطربوش. أو هو فى ملء الشوارع والميادين بالإعلانات المبتذلة – أو أن معنى التجديد والتغيير والتطوير والتقدم هو فى استيراد التكنولوجيا التى لا نستطيع تطويعها بدلا من التكنولوجيا المتوافقة أو هو فى استيراد الكتب والمجلات الأجنبية لتكون لنا مرجعا فى كل أوجه الحياة عندنا أو هو فى شرب نخب الملوك والرؤساء تقليدا للبروتوكول الغربي أو هو فى الحديث باللغات الأجنبية بدلا من اللغة القومية حتى فى المناسبات الرسمية.. وليس كل هذا فى الواقع إلا تحنيط للفكر المصري مسخ للشخصية المصرية.. إن حيوية التغيير هي فى حركة الحياة التى ترتبط فيها الاصالة بالمعاصرة.. هي المشاركة فى الإنجازات العلمية مع المحافظة على الشخصية الحضارية.. هي فى إتباع الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضاليــــن…..

word
pdf