حول ندوة القاهرة الكبرى

حول ندوة القاهرة الكبرى2019-12-11T14:58:58+00:00

حول ندوة القاهرة الكبرى

       دكتور عبد الباقي إبراهيم

    كبير خبراء التخطيط العمراني بالأمم المتحدة سابقاً

 

طالعتنا صحف الثاني والعشرين من شهر يناير 1978 بإعلانات على صفحات كاملة كما تعلن عن التوصيات التي توصلت إليها ندوة القاهرة الكبرى مع كلمة السيد محافظ القاهرة في نهاية هذه الندوة .. وليس من الغريب أن يتم الإعلان عن هذه الندوة بهذه الصورة فقد نظمتها شركة استثمارية أمريكية تملك المال بالإشتراك مع أحد شركات التعمير المصرية. ولكن الغريب في الأمر أن يستغل اسم رئيس مجلس إدارة الوزراء المصري وأعضاء من وزارته وبعض كبار المهندسين المصريين كمادة للإعلان عن هذه الندوة بغية إعطائها الصورة الرسمية التي تظهر فيها كذلك بعض الأسماء التي دعتها الشركة الإستشارية الأمريكية وهذه بطبيعة الحال خطوة ذكية تقدم عليها الشركة الإستشارية لتمكنها من وضع قدميها على أرض صلبة في مصر مستندة إلى هذا العدد الهام من المسئولين في الدولة وبالأخص سيادة محافظ القاهرة والشركة في سبيل ذلك لا تتردد في دفع تكاليف مثل هذا الإعلان الكبير للوصول إلى هذا الهدف والشركة تعلم أن تكاليف الإعداد والإعلان لهذه الندوة سوف تخصم مما تدفعه من ضرائب في الولايات المتحدة ولهذا تكثر مثل هذه الندوات الهادفة التي تقوم بها الشركات الخاصة في كثير من الدول النامية وهى بذلك تصيب عصفورين بحجر واحد.

ومن المؤسف أن المسئولين في مصر لم يتنبهوا حتى الآن إلى الدور الذي تقوم به مثل هذه الشركات في المنطقة العربية في الوقت الذي يقف فيه المسئوولون في الدول العربية الأخرى بالمرصاد لمثل هذه الشركات بعد أن تكشف لهم تلاعب بعضها وعدم جدية أعمالها ويبدوا أن المنطقة تتعرض في الوقت الحاضر إلى حملة اقتصادية ظاهرها تقديم الخبرة المتطورة في المجالات العلمية. هذه الحملة التي تنبه لها بعض شباب المهندسين العرب في الكويت وكتبوا عنها في المجلات العالمية منددين بدورها التخريبي لحضارة الشرق الأوسط. وإذا كانت الظروف السائدة في بعض الدول العربية تضطرها إلى الإستعانة بالشركات الأجنبية بسبب النقص الكبير في الخبراء أو الفنيين … ولكن ما حجة مصر في هذا الشأن وهى تصدر للدول الأجنبية مئات من أبنائها الخبراء والفنيين الذين يقومون في الوقت الحاضر وفي مجال التخطيط العمراني بصفة خاصة بأدوار قيادية في تعليم المادة لهؤلاء الذين يقيدون كخبراء لمثل هذه الشركات الأجنبية، فأي وضع هذا ؟

ويظهر أن بعض المسئولين قد فهموا سياسة الإنفتاح على أنها استيراد للمواد الإستهلاكية وليست لمقومات التنمية. كما أنه ليس لديهم مانع من قبول التبرعات الخارجية حتى ولو كانت في صورة أعمال استشارية لا تلتزم بنقل الخبرة العالمية إلى الإنسان المصري … من هنا وقف كثير من شباب مصر في ظلال الصورة لا يدرون موقعهم منها وتصبح الدراسات الإستشارية بهذه الصورة مثلها مثل المواد الإستهلاكية المستوردة لا تفيد في تنمية الموارد البشرية التي هى أهم واحدة على المدى البعيد. إن عدم التزام الشركات الأجنبية بنقل خبراتها الى الموارد البشرية المحلية قد خلق طبقة من سماسرة المكاتب الإستشارية التي تسىء إلى سمعة الخبرة المصرية العريقة التي عزلتها الظروف الماضية عن ملاحقة التقدم التكنولوجي في العالم.

وبالعودة إلى ما تمخضت عنها ندوة القاهرة الكبرى من توصيات نجدها صورة طبق الأصل لما سبق أن صدر عن كثير من الندوات والمؤتمرات التي عقدت خلال العشرين سنة السابقة وكثير من المشتركين في هذه الندوة يعلمون ذلك بل لقد قدم الخبراء المصريون من قبل كثير من الدراسات والبحوث التي لم تصل إلى رؤوس المسئولين لأنها لم تأخذ الرعاية الكافية أو الإخراج المناسب أو ربما لأنها لم تقدم إليهم بلغة غير اللغة العربية الأمر الذي دعى كثير من الخبراء المصريين إلى الهجرة للدول الأجنبية حيث وجدوا من يقدر مجهوداتهم العلمية والفنية حتى أصبحوا يحتلون مناصب قيادية في مجال التعليم أو الإستشارات العمرانية .. وهكذا خلت أرض مصر من خبرائها وانفتحت للأجانب الذين وجدوا من يرحب بهم ويستمع إليهم حتى أصبح الخبير المصري غريباً في بلده.

ويؤسفنا أن نذكر أن توصيات ندوة القاهرة الكبرى لم تتطرق الى الخطوات العلمية التي تحقق الأهداف التي دعت إليها اللهم إلا إذا كانت الشركة المنظمة للندوة ترى أن تحتفظ لنفسها بهذه الخطوات عندما تتعاقد على تخطيط القاهرة الكبرى ومشروعاتها العمرانية الكبيرة بالتعاون مع سماسرة المكاتب الإستشارية. وأخشى ما تخشاه أن توكل أمور العاصمة المصرية إلى الشركات الأجنبية كما بيعت لها هضبة الأهرام من قبل ويصبح الإنسان المصري متطفلا في وطنه. إن المعونات الفنية التي تقدم إلى مصر لا بد وأن يعاد تقديرها بحيث لا تنم على حساب الإنسان المصري الذي هو أساس التنمية والتقدم وأبقى لخير مصر ورفاهيتها وأهم مصادر ثروتها .

word
pdf