خسائرنا من المعونة في الاستشارات

خسائرنا من المعونة في الاستشارات2019-12-04T08:46:20+00:00

خسائرنا من المعونة في الاستشارات

الدكتور عبد الباقي ابراهيم

بدأت موجة المعونة الخارجية في مجال الأعمال الإستشارية في نهاية السبعينات حيث كانت المعونة الخارجية مرتبطة بضرورة التعاقد مع المكاتب الإستشارية في الدول المانحة والتي بدورها تتعاون مع المكاتب المحلية للقيام عادة بالمساعدة في تجميع البيانات والمعلومات اللازمة للدراسات المختلفة أكثر منها في المساهمة العملية في إنجاز هذه الدراسات حتى أن الكثير من الشركات الإستشارية التي كانت تعمل في تخصص معين كانت تميل إلي التعاقد مع المكاتب المحلية البعيدة عن هذا التخصص حتى تستقل هى بتوجيه الدراسات وتحديد النتائج . ولما كانت الأجهزة المحلية في ذلك الوقت ليس لها الخبرة الكافية في وضع شروط التعاقد ونطاق الأعمال الإستشارية لجأت بعض الوزارات إلي التعاقد مع شركات أجنبية للقيام بهذه المهمة نيابة عنها. وهكذا كانت الشركات الإستشارية الأجنبية تضع نطاق العمل الإستشاري للشركات الإستشارية الأجنبية الأخرى .. والتي يتم التعاقد معها على أساسها.
وتدفقت المعونات الأجنبية وتراكمت الديون وانتعشت السوق الإستشارية الأجنبية خاصة في الولايات المتحدة حيث كان المصدر الرئيسي للمعونات. وفتحت الشركات الإستشارية لها فروعا في واشنطن لتكون قريبة من مجريات الأمور سواء في الإدارات المختصة أو في البنك الدولي كما نشطت السوق الإستشارية أيضاً في انجلترا وفرنسا وغيرهما من الدول الغربية وتدفقت أثر ذلك جموع الخبراء الأجانب وفتحت لهم جميع الأبواب كما فتحت لهم الخزائن ليتقاضوا منها أعلى المرتبات حتى وصلت التكاليف الشهرية للخبير الواحد في أحد المشروعات 10730 ( عشرة آلاف وسبعمائة وثلاثين دولار أمريكياً ) بالتمام والكمال هذا في الوقت الذي كان فيه الخبراء المصريون يحتلون أعلى المناصب الإستشارية في العديد من المنظمات الدولية والجامعات الأجنبية وحصل منهم من حصل على الجنسيات الأجنبية حتى يتمكنوا من الحصول على المرتبات التي تمنح لزملائهم من نفس الجنسية. ومع ذلك فإذا ما انكشف أمر أحدهم وعرف أصله وفصله تراجعت أوضاعه وتقلصت مرتباته مما اضطر الكثير منهم إلي العودة إلي وطنهم الثاني حيث لم يعترف بهم وطنهم الأول. وسموا بعد ذلك بالطيور المهاجرة التي تسعى الدولة إلي استقطابهم مرة ثانية للعمل ولو على فترات قصيرة من الزمن .. ومن خلال المنظمات الدولية ذراً اللرماد. ولكن لم تؤت هذه المحاولات ثمارها بل بدأ العديد من الخبراء المصريين المضحين في مصر الهجرة إلي الخارج للعمل مع المكاتب الإستشارية الأجنبية التي تعمل في الدول العربية والأفريقية.. وهكذا انحسرت السوق الإستشارية في الداخل وقلت الكفاءات والخبرات فيها. وقد تنبه إلي ذلك بعض المكاتب الإستشارية الأجنبية – والعربية منها على وجه الخصوص – فأقامت لها مراكز إستشارية في مصر تستغل فيها الخبرات المحلية وتوظفها في المشروعات الخارجية التي تتقاضى عنها المبالغ الطائلة وتدفع لهم نصف ما يمكن أن يتقاضوه في الخارج وهى في حقيقتها تمثل أضعاف ما يتقاضوه من المكاتب الإستشارية المحلية في الداخل .. الأمر الذي زاد من خلل السوق الإستشارية المصرية التي تتعامل معها النظم واللوائح كتعاملها مع شراء المواشي والأدوات الكتابية. وهكذا خسرت الدولة القسط والسقط وخسرت أموالها التي دفعتها للمكاتب الإستشارية ولم تقدم لها غير المجلدات وخسرت خبراءها الذين هاجروا إلي الخارج أو الذين هاجروا إلي الداخل للعمل في مشروعات في الخارج. هذا في الوقت الذي كان يجب أن تعمل الدولة فيه على الإرتقاء بمستوى أداء المكاتب الإستشارية الأجنبية في السوق الإستشارية العالمية بدلاً من أن تسمح لها بأن تقيم في قلب القاهرة لتنافس المكاتب المصرية في عقر دارها ثم تتباكى على عدم الإنتماء الذي أصاب المجتمع المصري.

لقد أنفقت الدولة على الخدمات الإستشارية الأجنبية أموالاً طائلة منها ما يدخل ضمن القروض بالعملات الصعبة لترد إلي أصحابها مرة أخرى وتتحمل الدولة فوائدها بعد ذلك ومنها ما يدخل في المكون المصري بالعملة المحلية والخسارة هنا مضاعفة إذا ما قيس العائد الإستثماري لكل هذه الأموال التي أنفقت على العديد من الدراسات التي قدمت في العديد من المجلدات لتحتل العديد من الأرفف في الوزارات لا  تجد من يتابعها أو يطورها أو حتى ينفذ بعض نتائجها.. ومنها ما كان ضد الإستراتيجية القومية وكان من نتيجة ذلك أن انخفض مستوى الأداء في الأجهزة الفنية إلي الحد الذي بدأت معه تسعى إلي الإستعانة بالمكاتب الإستشارية والخبرات المحلية. ولكن في إطارات مبهمة من نطاقات الأعمال التي كانت تعد مثلها المكاتب الأجنبية نفس الأجهزة الفنية التي لم تستوعب الدرس فهبط بذلك مستوى الأداء في الأجهزة الفنية المحلية كما هبط في المكاتب الإستشارية المحلية التي تعاملها الدولة كموردي الأعشاب أو الأخشاب حتى أن بعض هذه الأجهزة الفنية قامت بدعوة بعض المكاتب الإستشارية لتورد لها بالمقطوعية عدد معين من اللوح الهندسية على نفس الإستمارة التي أعدتها لتوريد الأدوات الهندسية وإن دل ذلك على شىء فإنما يدل على مدى المستوى الهابط الذي وصلت إليه أجهزة الدولة في الأداء ولم تترك الشركات الإستشارية الأجنبية أي أثر للإرتقاء بمستوى أداء الأجهزة المحلية وكان الأجدى أن ترتبط الخدمات الإستشارية بتطوير الأجهزة المحلية وأقرب الأمثلة على ذلك ما تم  في مجال التنمية العمرانية حيث انفقت الملايين على الخبراء والدراسات وخلت المحافظات من أجهزة التخطيط المحلي القادرة على دفع التنمية العمرانية لها أجهزة محلية قادرة على التعامل المستمر مع التنمية العمرانية بمساعدة الخبراء المصريين .

هذه بعض الأدلة على ما أنفق على الدراسات التي قامت بها المكاتب الإستشارية الأجنبية في مجال التنمية العمرانية ولم تتطور معها الأجهزة المحلية .
ومن أمثلة العقود الإستشارية مع المكاتب الأجنبية ما هو مفتوح لتقديم الخدمات اليومية في أحد الوزارات مثل التحضير للمشروعات وإعداد نطاق العمل لكل مشروع وإعداد الدعوات وتقويم العروض واختيار المقاولين ومتانة العقود والتنسيق بين عقود الدراسات التخطيطية والهندسية والإقتصادية ومتابعة تنفيذ الأعمال ومد الوزارة بأي من الخبرات التي تطلبها للإشراف على المشروعات وجمع المعلومات والبيانات وتدريب عدد محدود من الفنيين المحليين في الخارج لمدد قصيرة. وتقوم الوزارة من ناحيتها باستخراج التأشيرات وتراخيص العمل للخبراء الأجانب وعدم تحميلهم أي ضرائب وإعفاء أجهزتهم من الرسوم الجمركية وتوفير مكان العمل وحرية لزيادة مواقع المشروعات ودفع تكاليف سفر منسوبيها للفترات التدريبية في مكاتب الشركة بالخارج وفي المقابل تدفع الوزارة أتعاب الخبراء شاملة المرتبات وبدلات الإقامة والتعليم والسفر والتأمينات وإيجار المكاتب وتجهيزها والمكالمات التليفونية والتلغراف والتلكس وفوق كل ذلك نسبة لأرباح وتكاليف المكتب في الخارج وبهذا كله يصل إجمالي ما يتكلفه الخبير في أشهر 10730 دولار أمريكي، هذا بخلاف الميزات الأخرى من توفير سيارات الركوب وبدلات السفر والعمولة على توظيف العاملين المصريين وسفر رئيس المكتب بالدرجة الأولى والعائد بعد ذلك لا يتناسب مع كل هذا الحجم من الإنفاق بل هبط مستوى الأداء في الأجهزة المحلية مع ركود العمل فيها اعتماداً على ما يقوم به المكتب الإستشاري الأجنبي من مهام يومية والمؤسف أن يتم كل ذلك في نفس الوقت وبالتحديد عندما كانت دول عربية من حولنا تستغني عن مثل هذه المكاتب الإستشارية الأجنبية وتعمل على الإرتقاء بمستوى أداء أجهزتها المحلية في مجال التنمية العمرانية كنتيجة للمشورة الفنية المخلصة للخبرات المصرية التي كانت تعمل في المنظمات الدولية .

لقد آن الأوان للعمل على الإرتقاء بمستوى أداء الأجهزة الفنية في الدولة سواء في القطاع العام أو في القطاع الخاص وهذه من مسئولية النقابات المهنية والمنظمات العملية أساساً ثم دعم الدولة ثانياً مع ضرورة الإطلاع على الخبرات الأجنبية في هذا المجال فالهدف هنا ليس فقط في الإرتقاء بإدارة وتنظيم المكاتب الإستشارية المحلية في القطاعين العام والخاص ولكن في المنافسة في سوق الإستشارات على المستوى الدولي العربي والأفريقي بصفة خاصة فتصدير الخبرات والعمالة الفنية لا يقل أهمية عن تصدير المنتجات الصناعية أو الزراعية التي تعني بها الدولة وتوفر لها كل الإمكانيات والتسهيلات حتى تخرج بعد التأكد من صلاحيتها مغلفة في أحسن تنافس بها المنتجات العالمية فلا أقل من أن تعطي الخبرات والعمالة الفنية نفس الأهمية حتى تخرج للسوق العالمية في أحسن صورة شكلاً وموضوعاً . 

word
pdf