خصخصة المدن الجديدة

خصخصة المدن الجديدة2019-12-01T11:05:33+00:00

خصخصة المدن الجديدة

وكبير خبراء الأمم المتحدة فى التنمية العمرانية

الأهرا م الاقتصادى 16/5/1994

تعطى الدولة أهمية خاصة للمدن الجديدة حيث أفردت لها وزارة خاصة تسعى إلى تعمير الأرض من الاسكندرية شمالا إلى شلاتين جنوبا، ومن حدود مصر الشرقية إلى الحدود الغربية … وهذه خطوة طموحة تعمل على جذب الفائض السكانى من الوادى إلى المجتمعات الجديدة حتى تحقق أهدافها التى لم تستكمل … فقد فاقت معدلات الاستيطان الصناعى بكل المقاييس معدلات الإسكان البشرى الذى لا يزال متخلفا عن البرامج التى أعدت له … وقد أهتدت الدولة أخيرا إلى فكرة عبقرية وهى بيع الاراضى فى المجتمعات الجديدة إلى كبار المستثمرين لاستثمارها كأحياء سكنية متكاملة فى اطار المخططات العامة للمدن. وهكذا تمتد الخصصة إلى مشروعات التعمير لتعيد بذلك اسلوب البارون امبان فى تنمية ضاحية عين شمس – (مصر الجديدة)  منذ أكثر من ثمانين عاما ولكن مع الفارق الكبير فى الادارة والتمويل والتعيمر مع توفير عوامل الجذب بذكاء وحكمة … دعنا إلى ما آلت إليه مصر الجديدة الآن بعد التأميم من نكسة عمرانية شهد بها حفيد البارون الذى كان يغمض عيناه عندما يجىء لزيارة قبر جده المدفون فى البازيليك القائمة فى وسط مدينته القديمة.

وإذا كانت الدولة تسعى إلى إعطاء الفرصة لكبار المستثمرين لتنمية أحياء بأكملها داخل المدن الجديدة… أو خارجها وبالطبع فى إطار مخططات تربط هذه الأحياء … فهى بذلك تدفع عمليات الخصخصة لتزحف إلى المدن الجديدة. حيث يتولى كل مستثمر توفير المرافق العامة من شبكات الصرف الصحى والطرق والمياه والكهرباء من مصادره الخاصة وعلى حسابه الخاص … الأمر الذى يدخل فى نطاق دراسات الجدوى التى يعدها كل مستثمر للحى الذى يتولى تعميره مع بحثه عن مصادر المياه التى يحتاجها … وهنا ينبغى الربط بين أحياء المستثمرين والأحياء القائمة أو التى تحت التعمير فى خطة متكاملة المراحل … ومن طبيعة الأمور أن يستحوذ كل مستثمر على حى سكنى من ناحية ومنطقة للتنمية الصناعية من ناحية أخرى حتى يضمن جدوى استثماراته … وقد يرى مستثمر آخر أن من الأجدى له اقتصاديا أن يستثمر الحى الذى اشتراة فى تنمية سكنية وخدمية وذلك بإقامة معاهد أو جامعات أهلية … فدراسات ما قبل الاستثمار هنا هى الموجة الأساسى للتنمية العمرانية فى منهج الخصخصة. ويتساءل البعض إذا كان الأمر كذلك فلماذا لا تشمل الخصخصة كل عناصر ومكونات المدن الجديدة إلا الأمن والقضاء. ويتساءل البعض الآخر ولماذا التركيز على المدن الجديدة التى بدأ إنشائها على أساس فكر محدد وفى إطار خطط مرسومة وأهداف معينة لا تقبل الزيادة أو التضخم، ولماذا لا تطرح مواقع أخرى فى مناطق أخرى للتعمير كمجتمعات صغيرة تحددها المخططات الإقليمية حول المدن الجديدة وبأن تكون مدينة العاشر من رمضان مثلا مركزا لتجمعات سكنية أصغر تنتشر فى نظام هرمى ومنظومة إقليمية على المناطق الصحراوية حول المدينة الجديدة الأم إذا ما توافر الماء والكهرباء. ولابد وأن كل هذه التساؤلات قد تعرض لها الخبراء والمتخصصون فى التنمية العمرانية من خبراء مصر … ولا شك أنهم قد أستعرضوا أيضا تجارب الدول الأخرى فى أساليب ادارة التنمية العمرانية فى المناطق الجديدة وأستفادوا منها … وقطعا لم يفوتهم أثناء زياراتهم المتعددة للمدن والمجتمعات الجديدة فى الخارج أن يتعرفوا على أساليب الجذب السكنى من المناطق المزدحمة إلى المناطق النامية، وقد علموا أن ذلك قد تم فى إطار من الاجراءات والتشريعات التى تساعد على زيادة عوامل الطرد من المناطق المزدحمة وزيادة الجذب إلى المناطق الجديدة.. ولا شك أنه بعد توجيهات القيادة السياسية قد أخذ الخبراء المصريون فى الحسبان تنظيم وإدارة آليات التنمية العمرانية فى المدن القديمة بالتوازى مع مقابلها فى المدن الجديدة بوصفها آليات دافعة من ناحية وجاذبة من ناحية أخرى … ولا شك فى أن الخبراء المصريين قد راجعوا أيضا الدراسات والمخططات الأجنبية لتعمير سيناء، أو لتحديد الاستراتيجية العمرانية للدول أو لتخطيط المدن الجديدة. وقد رأوا فيها ما ينفعهم وما لا ينفعهم عن إعادتهم لتخطيط سيناء أو الصعيد أو المدن الجديدة وخاصة فيما يرتبط بآليات التنمية إداريا وتنظيميا وتمويليا باعتبار أن التنمية العمرانية لا تنفصل عن جذورها فى التنمية الاقتصادية والاجتماعية. ولا شك أيضا أن الخبراء المصريين قد وضعوا فى الحسبان بناء الأجهزة القادرة على دفع عمليات التنمية العمرانية فى المجتمعات الجديدة باعتبارها أجهزة لها مقوماتها الخاصة وقدرتها على اتخاذ القرار وذلك على نمط شركات قطاع الأعمال قبل انتقالها بالخصخصة إلى شركات خاصة يساهم فيها المستثمرون والسكان وتديرها مجالس محلية منتخبة من أصحابها الأحرص على إدارتها وتنميتها وصيانتها وإضفاء الطابع العمرانى المتميز عليها باعتبار أن الطابع المعمارى عنصرا جاذبا اجتماعيا وسياحيا.

وإذا كانت الدولة تبدى أهتماما كبيرا لدفع التنمية العمرانية فى المدن الجديدة بكل الطرق والوسائل بعد تأخر تنميتها بسبب ضعف عوامل الجذب إليها مع قوة عوامل الجذب إلى المدن القديمة، فإن الأمر هنا يخرج عن صلاحيات الأجهزة القائمة على هذه المدن ليدخل فى اختصاصات وزارة التخطيط التى تضغ الاستراتيجية القومية للتنمية الاقتصادية الاجتماعية العمرانية المتكاملة بآلياتها القادرة على تحقيقها ومواجهة المتغيرات التى قد تؤثر عليها حتى لا تنحصر الاستراتيجية فى قوالب الدراسات والحسابات والتوصيات التقليدية. ولا شك أن وزارة التخطيط بخبرائها المصريين الدوليين لقادرة على تحديد الآليات التنظيمية والاجرائية والتنفيذية القادرة على اتخاذ القرار لتحقيق أهداف الاستراتيجية القومية للتنمية والتعمير كأولوية أولى لأخذ القرار بشأنها قبل البدء فى استكمال تفاصيل الاستراتيجية وحتى لا تترك آليات التنمية بعد ذلك لنظام اللجان المركزية والمحلية ثم لجان اللحان وتتوه المعالم. وإذا كانت قوانين الإسكان المتراكمة قد أدت بطريقة أو بأخرى إلى التعثر الكبير فى الاستيطان البشرى فى المدن الجديدة، إلا أن اتجاه الدولة لمواجهة هذه المشكلة باصدار القوانين الجديدة التى تحدد العلاقة بين المالك والمستأجر على مرحلتين مع تطوير قوانين تنظيم البناء سوف تساعد كثيرا على زيادة عوامل الجذب للمجتمعات الجديدة حيث تتوافر فرص العمل وأراضى البناء والمرافق والخدمات إذا ما توافرت مصادر المياه التى منها كل شىء حى.

وفى الضوء هذه الخطوات الجادة التى اتخذتها الدولة بتوجيهات القيادة السياسية سوف يضاف إلى أجهزة التنمية المحلية للمدن الجديدة عبئا جديدا فى توفير المساكن خاصة للفئات غير القادرة على دفع مقدمات الوحدات السكنية التى تصل فى أقل الحدود الى خمسة عشر ألف جنيه، ومن المحتم أن الخبراء المصريين الشبان الذين يقومون باعادة المخططات الجديدة للمدن الجديدة قد تنبهوا لهذه الناحية وقدموا أقتراحاتهم بانشاء مراكز للبناء بالجهود الذاتية مع توفير فرص العمل مع مكان السكن فى موقع واحد … وهنا قد يظهر دور آخر لتعاونيات البناء والإسكان فى إقامة المجتمعات الجديدة بنفس الاسلوب الاستثمارى ليس فقط بتوفير السكن الجديد للفئات غير القادرة ولكن أيضا بتوفير فرص جديدة للعمل فى إطار نظام التعاون الانتاجى الاسكانى. ولابد وأن الخبراء المصريين قد درسوا هذا الاتجاه بكل جوانبه من خلال التجارب العالمية وخاصة التجربة التركية التى شاهدوها مع غيرها من التجارب فى تنزانيا الأفريقية ودول النمور الخمس فى جنوب شرق آسيا.

إن المجهودات الجادة التى تقوم بها الدولة فى تطوير المدن الجديدة وتعديل استعمالات الأراضى فيها واستقطاب الأنشطة الاستثمارية الخاصة إليها من مصانع ومعاهد وجامعات ومستشفيات خاصة فى المدن الجديدة الملاصقة لمدينة القاهرة قد تؤدى إلى تضخم العاصمة أكثر مما يخفف الأعباء عنها. فقد أصبحت مديننتا الشروق والعبور الموعودتان قاب قوسين أو أدنى لإعتبارهما من الأحياء الجديدة فى القاهرة مثل مدينة نصر أو مدينة السلام، ولكن لابد وأن الخبراء المصريين القائمين بهذه الجهود المكثفة قد تنبهوا إلى هذه الحقيقة مع خبراء الاستثمار والتنمية الصناعية والتنمية الاجتماعية بعد أن أقروا المواقع الجديدة للمستشفيات والمصانع وللجامعة المصرية الدولية الخاصة – التى تزعم الدولة بنائها – على طريق القاهرة الاسماعيلية الذى أصبح يسمى بطريق المدارس لكثرة ما أنشىء على جانبه الغربى من منشآت تعليمية وترفيهية، فالجامعات الجديدة والمدارس سوف تجذب إليها مزيدا من الاسكان والخدمات لتمتد على جانب الطريق السريع الذى سوف يتحول إلى طريق بطىء … وكذا سوف تمتد شرايين التعمير من القاهرة فى كل اتجاة حتى تخترق العاصمة بسكانها حاجز العشرين مليون فى بداية القرن الواحد والعشرين ومثلها تمتد مدن الدلتا والصعيد القائمة فى الأراضى الزراعية حتى ينتهى الخير من مصر، إن الزيارات المتكررة لرئيس الدولة إلى المدن الجديدة وحرصه على دفع حركة التنمية العمرانية فيها لدليل على قناعة القيادة السياسية بالاستراتيجية العمرانية للدولة التى تهدف إلى الامتداد العمرانى على الأراضى الصحراوية بعيدا عن المدن والقرى القائمة وبالتالى تهدف إلى توجيه الاستثمارات إلى حيث ما يجب أن يقيم الناس أكثر من حيث ما هم مقيمون. الأمر الذى يستدعى بالتالى إلى إيجاد الآليات التى تعمل على تحريك السكان بقوالبها الاجتماعية المتكاملة إلى المجتمعات الجديدة وهو ما يتم بواسطة ما نسميه أجهزة الدفع والارسال فى المجتمعات القديمة وأجهزة الاستقبال والاستيطان فى المجتمعات الجديدة، الأمر الذى لم ولن يغيب عن فكر الخبراء المصريين الذين يتصدون وفى مجموعات متكاملة لهذا التحدى الحضارى الذى تتطلع إليه القيادة السياسية فى المستويات المختلفة لاتخاذ القرار، وذلك بمشاركة الجماهير فى كل المحليات سواء فى إعداد الخطط والمخططات وبالتالى فى مراحل التطبيق والتنفيذ حتى لا تفقد عمليات التنمية المتوصلة بعدها الاجتماعى.

والخصخصة فى كل ذلك تحاول أن تجد لها دورا فى مشروعات التنمية العمرانية فى المدن الجديدة، ولا ينحصر دورها فى تقسيم الأراضى وبيعها أو المضاربة عليها كما قد يتصور البعض عندما توفر الدولة الأراضى بأرخص الأسعار وبلا مرافق للمستثمرين ليتولوا تعميرها ولكن لابد وأن تتم الخصخصة من خلال شركات لها مقوماتها المالية والادارية والتنظيمية التى تهدف إلى تنمية المواقع الجديدة اقتصاديا واجتماعيا وعمرانيا على غرار شركة عين شمس أو مصر الجديدة فى بداية قيامها منذ أكثر من ثمانين عاما … أما الاستثمار فى تعمير الأحياء السكنية فى المدن الجديدة فسوف يولد الكثير من المشاكل الادارية والتنسيقية بين الأحياء وبين إدارة المدينة، سواء فى توفير الخدمات أو المرافق وبالأخص توزيع أنصبة المياه على المستثمرين الجدد، فالخصخصة هنا لابد وأن تبنى على أساس استقلالية القرار فى التنمية المتكاملة، وهذا لا يتوافر إلا فى مجتمعات عمرانية مستقلة تتولى كل منها شركة خاصة كما هو حادث فى العديد من التجارب الدولية حاليا كما تم فى مصر سابقا.

إن تطور المدن الجديدة أو بناء تجمعات عمرانية جديدة لا يتم باسلوب الانفعالات العنترية أو القرارات العشوائية أو التصريحات المظهرية، ولكن بعمق الفكر وخلاصة التجربة خاصة فى هذا المجال الذى يمس مستقبل الدولة بصورة مباشرة.

 

word
pdf