دور البحث العلمى فى التنمية العمرانية

دور البحث العلمى فى التنمية العمرانية2019-11-20T14:54:24+00:00

دور البحث العلمى فى التنمية العمرانية

دكتور عبد الباقي إبراهيم

رئيس قسم العمارة بهندسة عين شمس

 

 

قد يعجب المرء من التردى المستمر فى حالة العمران فى مصر.. سواء فى مجال الإسكان الريفى أو الحضرى أو فى المرافق العامة أو المبانى العامة.. ويعجب أيضا لاستشراء الزحف العمرانى على الأراضى الزراعية دون توقف.. ومع ذلك لا يتوقف الحديث عن البحث العلمى ودوره فى الارتقاء بالمستوى العمرانى لمدن مصر وقراها.. وتشكل اللجان النوعية وتوزع المهام وتجرى البحوث والحالة لم تتغير.. وتظهر الدعوة مرة أخرى إلى ضرورة دعم البحث العلمى بكل الإمكانيات المادية والعلمية وتحدد الاستثمارات وتشكل مجموعات العمل التى تنتهى من دراساتها إلى نتائج معينة.. وتتكرر الصورة وتطبع المجلدات والرسائل لتوضع فى موضعها الطبيعى على أرفف المكتبات.. حتى اختلط الأمر على المرء إلى درجة يحس فيها أن ما يجرى من بحوث ودراسات فى الوقت الحاضر ما هو إلا امتداد لبحوث ودراسات سابقة لا تنتهى إلى قلب المشاكل للمساهمة فى حلها.. فقد كثرت البحوث والدراسات إلى درجة أنها تتكرر فى كثير من الأحيان دون علم أصحابها والبحوث هنا تجرى اما لمنفعة عامة للوصول إلى حل لبعض المشاكل أو لمنفعة خاصة يطمح بها الباحث فى الترقى إلى درجات أعلى، ومع ذلك لا نرى أثرا لأى من هذه البحوث على أرض الواقع تحل مشكلة معينة فى مجال البناء أو التشييد أو الإسكان أو المرور أو المرافق العامة. فالإسكان يقام كيفما شاء وأينما كان فى نظام أو بدون نظام.. بتراخيص مسبقة أو بدونها.. ومنه ما يستمر متماسك الأوصال ومنه ما ينهار.. ونظم البناء فى المجموع العام لا تتغير ولا تتبدل.. وتقام مشروعات الإسكان دون اعتبار لربط العمل بالسكن أو السكن بالدخل أو استثمار الجهود الذاتية أو دون تطوير للتجهيزات الصحية أو الكهربائية أو مواد التشطيب.

وإذا تصورنا أن البحث العلمى فى مجال التنمية العمرانية بدأ فى مصر منذ أكثر من ربع قرن سواء فى المعاهد المتخصصة أو فى الجامعات أو فى أجهزة البحث العلمى لتصورنا الفجوة الكبيرة بين البحث العلمى وواقع الحال فيما يقام من مشروعات التعمير والإسكان. وهنا تبرز التساؤلات فيما آلت إليه الأمور بهذا الوضع الغريب.. فإما أن الأجهزة التنفيذية لم تتجاوب مع أجهزة البحوث العلمية لعدم قناعتها بنتائج البحوث أو لعدم قناعتها بنتائج البحوث أو لعدم قدرتها على استيعابها أو لما يكلفها من جهد ومشقة للتطوير أو لما قد يوقفها عن الاندفاع نحو التنفيذ بأى شكل وبأسرع ما يمكن دون انتظار لأى جديد. واما ان أجهزة البحث العلمى لم تستوعب متطلبات الأجهزة التنفيذية وتدرك منها العاجل أو الآجل أو الممكن تحقيقه أو الغير ممكن تنفيذه. أو أن البحث العلمى يدور حول النظريات ويفيض فى الدراسات ويأخذ من الوقت مالا يتناسب مع الاحتياجات العاجلة للجهاز التنفيذى الملتزم بخطط معينة ويعمل تحت ضغوط معينة لإنجاز الأعمال فى أوقات معينة.. أو أن البحث العلمى يستنفذ من الوقت الكثير فى تجميع البيانات وتحليلها وتوصيفها وفى تحديد المشاكل بكلياتها وجزئياتها ومؤثراتها وتفاعلاتها. وتأتى النتائج فى النهاية فى صورة توصيات أو اقتراحات عامة يصعب استعمالها المباشر فى ما يجرى من مشروعات أو فيما هو تحت الدراسة.

وقد يكون الأمر غير هذا أو ذلك وأن المشروعات العاجلة تدخل حيز التنفيذ فورا بعد دراسات عاجلة لا تنتظر نتائج أى بحوث علمية أو أن الأجهزة التنفيذية ليس لديها أجهزة للبحوث والدراسات التى تستطيع أن تعد للمشروعات الآجلة فى وقت كافى يمكن أن تتعامل فيه مع أجهزة البحوث العلمية.. أو أن أجهزة البحوث من ناحية أخرى تقفز إلى معالجة المشاكل الكبيرة المتشعبة مثل مشكلة الإسكان فى مصر.. أو مستقبل التجمعات السكنية فى عام 2000. أو التخطيط لتنمية الصحراء الغربية والشرقية أو تحديد محاور التنمية العمرانية.. ولا تهتم بالجزئيات.. كابتكار باب أو شباك أو تطوير صنبور المياه أو تجهيز الحمام أو المطبخ أو نوعيات الأرضيات أو وسائل عزل الرطوبة والحرارة. وهنا يظهر الفرق بين نوعيات البحوث التطبيقية ونوعية الدراسات المستقبلية البعيدة المدى.
ومع كل هذه التساؤلات يحاول المرء أن يجد وسيلة للربط بين أجهزة البحوث وأجهزة التنفيذ فلا يجد منها إلا النادر . ففى مجال العمارة والبناء لا توجد المجلات أو الدوريات العلمية التى تقدم كل جديد فى سوق البناء من الإنتاج المحلى أو الإنتاج الخارجى المعتمد للاستعمال محليا.. فوسائل النشر والإعلام فى هذا المجال تكاد تكون منعدمة وأهمية المجلات والدوريات العلمية ليست فقط للعاملين فى الأجهزة الفنية أو التنفيذية العامة أو الخاصة ولكنها هامة أيضا لأصحاب العقارات الخاصة الذين يبحثون عن الأفضل.. والأكثر أمنا والأرخص سعرا والأيسر تنفيذا.. والأطول عمرا.. والأجمل شكلا والأسهل استعمالا.. فالتوعية هنا ليست للفنيين بقدر ماهى لأصحاب المشروعات فى القطاعين العام والخاص.

وإذا كانت مصر غنية بعلمائها وخبرائها إلا أن هناك ظاهرة واضحة وهى أن هؤلاء العلماء والخبراء دائما ما يتفرقون فى الخارج أكثر مما يتفوقون فى الداخل.. حتى أن العديد منهم معروف على المستوى الدولى والعالمى ومع ذلك فهو مجهول فى بلده.. وربما يكون السبب فى ذلك النظام العام الذى يحكم عمليات البحث العلمى أو مناهج الدراسات فكثير ما يدعى العالم أو الخبير إلى دائرة اللجان فلا يلبث أن يدور فيها حول نفسه ولا يجد لنفسه نفعا أو ضرا.. ومصر من أغنى دول العالم بلجانها.. فالإسكان والتعمير مثلا يتناوله اللجان فى معهد أبحاث البناء والتخطيط والإسكان.. كما تتناوله اللجان فى أكاديمية البحث العلمى.. وتتداوله اللجان فى المجالس القومية المتخصصة كما تتناوله اللجان فى الجامعات والمعاهد العلمية.. وتتناوله اللجان فى وزارات الإسكان والتعمير كما تتناوله فى لجان الأحزاب.. وهكذا تدور الحلقة ويفقد العالم أو الخبير توازنه.. فإما أن يدور فى حلقة اللجان ولا يستطيع الفكاك منها فيفقد ذاته أو يجد نفسه خارجها بعيدا إلى دولة أخرى يستطيع فيها أن ينتج وينشر ويطبق ويحقق ذاته. وإذا كانت البشرية هى أغلى ما فى مصر فكيف إذن السبيل إلى المحافظة عليها ؟ والحل مع هذه التساؤلات هو العودة إلى المنهج التنظيمى والاسلوب العلمى فى تناول الأمور بهدف ربط النظرية بالتطبيق والخيال بالواقع.

word
pdf