رحلة البحث عن الذات

رحلة البحث عن الذات2019-12-17T13:13:58+00:00

رحـلة البـحث عن الــذات
وأصــول العمــارة فى الإســلام
( النشأة – العقيدة – المنهج – النظرية )
   ( سيرة ذاتية )

تأليف
الدكتور عبد الباقي إبراهيم
1419هـ-1999م

 

مقــدمة:-

     كلما راودتني فكرة الكتابة فى موضوع العمران فى الإسلام بعد رحلة طويلة من البحث عن الذات والحقيقة، فلم تتكامل قناعتى بالوصف الإسلامى لكل حالة شكل من أشكال العمارة التراثية الموصوفة بالإسلامية. وكنت دائما أبحث عن الإسلام فى كل ما يوصف بالإسلامى فى كل عمل أو فعل أو بناء. ودائما ما كنت أشعر أنني غريب عن البيئة التى تحيطني فى ملبسي الذى ألبسه فى رباط العنق الذى يلتف حول عنقي ومن قبل فى الطربوش الذى كان يغطي رأسى . هذه كلها مظاهر كنت أشعر أنها مفروضة على منذ انتقالي من القرية إلى المدينة ، منذ أن تركت كتاب القرية إلى المدرسة الأميرية بالمدينة وبعدما كنت أركب الحمارة إلى مدرسة القرية عندما كنت أختار ألوان جلبابي المخطط بالبني والأصفر.. وقتها كان أبي الشيخ الأزهرى
(حنفى المذهب) يصطحبنى إلى حقوله الزراعية وموالد أولياء الله فى قرى الشرقية. وازدادت غربتي عندما انتقلت إلى العاصمة للالتحاق بالجامعة منذ أن درست العمارة وكانت مرجعيتى الثقافية فى المجلات الإنجليزية والفرنسية و الأمريكية التى تحمل النظريات الغربية ( جامعة القاهرة 1944-1949). وخلال دراساتى العليا فى إنجلترا للحصول على البكالوريوس مرة أخرى ثم الماجستير ( جامعة ليفربول 1950-1955) ثم الدكتوراه
( 1957-1959 نيوكاسل) كانت القرية والفلاح نصب عينى فى  دراساتى وأبحاثى. وعند عودتي إلى القرية بعد ذلك كنت أجوب شوارعها وأتحسس حوائط منازلها المبنية من الطين الذى خلق منه الإنسان. وفى بداية الستينات كنت أشارك المهندس حسن فتحى فى لجان الإسكان الريفى بوزارات البحث العلمي واستمرت العلاقة وطيدة  معه إلى أن أوصاني فى أواخر عمره أمام الزملاء أن أحمل رسالته الإنسانية من بعده فى إسكان الفقراء . لقد استمر الإحساس عندى بالاغتراب أيضا طوال فترة عملى بالتدريس بقسم العمارة بجامعة عين شمس حيث كنت دائما ما أعرض النظريات الغربية التى ظهرت فى علوم العمران على الطلبة ثم أتساءل معهم عما إذا كانت هذه النظريات مناسبة للمجتمع الإسلامى. وكنا نبحث معاً عن البديل المناسب للحال المصرى بشكل خاص ، كما كنا نستعرض معاً التجارب السابقة لتطبيقات النظرية الغربية على المدينة الإسلامية أو العربية بشكل خاص ثم نرجع إلى مقومات المدينة الإسلامية القديمة ونبحث فى الظروف التى مرت بها عسى أن نجد فيها ما يساعدنا على استنباط الصيغة التخطيطية المعاصرة التى يمكن تطبيقها فى عصر المواصلات والاتصالات.

واستمر البحث بعد ذلك خلال عملي خبيراً للأمم المتحدة فى تخطيط الكويت ( 1968-1970) وبعد ذلك خلال عملي كبيراً لخبراء الأمم المتحدة للتخطيط العمراني بالمملكة العربية السعودية (1973-1979) حيث تمكنت من العمل على إنشاء إدارات للتنمية والتخطيط العمراني بكل مدينة يتولى إدارتها والعمل بها أبناء المملكة بمساعدة دلائل للأعمال المختلفة التى تتكون منها عمليات التنمية العمرانية وأن يقتصر عطاء الخبرات الأجنبية على الجانب التنظيمي والفني مع عدم الاعتماد عليه تدريجياً إلى أن يتولى الخبراء من السعوديين أمور التخطيط العمراني معتمدين على الله ثم على أنفسهم والقيام بشئون عمرانهم من منطلق المنهج الإسلامى.  وفى نفس الفترة تمكنت من وضع صيغة بديلة لتخطيط المجاورة السكنية مستنبطة من التراث الحضاري للمدينة الإسلامية.

     فى الشهر الثامن من عام 1979 وبعد انقضاء فترة عملى بالأمم المتحدة كلفتني الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة بوضع الإجراءات اللازمة لاختيار قائمة قصيرة من المكاتب الاستشارية العالمية لدعوتها لتخطيط وتصميم المباني الجديدة للجامعة . ورأت إدارة الجامعة إضافة إلى تقييم المكاتب من خلال المستندات  التى قدمت إليها زيارة المكاتب فى أماكنها للتعرف على إمكاناتها الحقيقية واختارت لذلك مجموعة من المسئولين بالجامعة للقيام معي برحلة طويلة حول العالم استغرقت خمسة وأربعين يوماً زرنا خلالها تسع مكاتب عالمية فى أوروبا وأمريكا وكندا وهونولولو واليابان وسنغافورة فكانت مناسبة للتحدث مع المعماريين فى هذه المكاتب ليس عن العمارة الإسلامية بمفهومها الدارج ولكن عن العمارة فى الإسلام فكانت فرصة لشرح التعاليم الحياتية الثابتة فى الإسلام والتى تنعكس بالتالى على العمارة حيث يثبت المضمون الإسلامى ويختلف الشكل باختلاف البيئة الطبيعية والثقافية للمكان.

     فى بداية الشهر الأول من عام 1980 تم الافتتاح الرسمى لمركز الدراسات التخطيطية والمعمارية الذى بدأت فكرة إنشائه خلال السنة النهائية لعملي بالأمم المتحدة حيث كنت أراجع وأقيم أعمال المكاتب الاستشارية العالمية التى كانت تعمل فى مجال التخطيط العمراني بالمملكة العربية السعودية وكنت أتساءل عن مصير الخبرة العربية والإسلامية فى هذا المجال وكيف يمكن استثمارها مهنياً. فـوضعت تصوراً للمجالات المختلفة التى يقوم بها المركز من أعمال استشارية فى التخطيط والعمارة وإصدار مجلة عالم البناء الشهرية وتنظيم دورات تدريبية فى مختلف المجالات التخطيطية والمعمارية بالإضافة إلى مجال التأليف والنشر والدعوة إلى أمسيات معمارية كل شهر بحيث تتجه كل هذه المجالات إلى بناء الفكر المحلي النابع من الشخصية العربية والإسلامية. فأنشأنا جمعية إحياء التراث التخطيطي والمعماري وبدأ المركز يأخذ مكانته العلمية والمهنية فى مصر والعالم العربي بل وفى عديد من دول العالم. كما بدأت الممارسات المهنية للمركز تحاول تأصيل القيم الإسلامية فى التخطيط والعمارة ، وكان الشكل هو المحرك للفكر فى بداية  الأمر إلى أن اكتشفت أنه لابد من العودة إلى المرجعية الإسلامية فى توجيه الحركة الفكرية فى العمارة والتخطيط العمراني وتوالت البحوث والدراسات والمقالات أوجهها فى هذا الاتجاه.

ولم يأت الاهتمام بموضوع البحث عن الذات والبحث عن أصول العمارة فى الإسلام كمجرد رغبة طارئة ولكن كان حصيلة قراءات وحوارات مع كبار المعماريين فى العالم ورواد العمارة فيها. فقد أتاحت لى الظروف مقابلة “كربوزيه” فى باريس و ” رودجرز” و ” بولجيوسو” و “ألبينى” من إيطاليا و ” كاتزوتنج” من اليابان و “لزلى مارتن ” و ” سمثن ” و ” فرادرك جبرد” و ” مارشال جونسون ” من بريطانيا ” و ” لوى كان ” من أمريكا وغيرهم من المعماريين والمخططين فى الغرب وعلى الجانب الشرقي كانت اللقاءات متواصلة مع حسن فتحي فى مصر ومحمد مكية ورفعت الجادرجي من العراق وراسم بدران من الأردن وعلى الشعيبي من السعودية وعبد الحليم إبراهيم من مصر وغيرهم  ممن التقيت بهم فى المؤتمرات والندوات ومن تشرفت بهم فى زيارتهم لنا فى مركز الدراسات التخطيطية والمعمارية فى القاهرة .. وكتبت عن رواد العمارة الذين قابلتهم وكنت أقارن بين الحركة الفكرية المتأججة فى الغرب والحركة الفكرية الخافتة فى الشرق وكيف كانت المبادرات الفكرية تنبع من الغرب لتصب فى الشرق وكيف تظهر النظريات المعمارية فى الغرب منطلقة من تراثهم الفكري وتقدمهم التكنولوجي وكيف أن المعماري المسلم وقد استسلم لهذه النظريات وأخذ يجاريها ويسير بجوارها مع شموخ ماضيه الحضاري وتراثه الفكري وإنتاجه العلمي لعلماء المسلمين مثل ابن سينا والفارابي وابن رشد والترمذي وابن جبير والمقريزي وابن خلدون وعلي مبارك والطهطاوي وغيرهم ممن يصعب حصرهم من الأوائل والأواخر الذين آثروا الحركة الفكرية فى القرن التاسع عشر والعشرين.
وكان يؤلمني استناد معظم المعماريين المسلمين فى كتاباتهم إلى المرجعية الغربية فيما يخص الفكر والنظرية وكأن ليس لهم تاريخ حضاري طويل يضرب بجذوره فى عمق التاريخ وكأنهم ليس لهم دينهم الذي ينظم كل جوانب حياتهم اليومية اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً.. وإذا كان الغرب قد حصر العمارة الإسلامية فى زمان واحد ومكان واحد.. فكان لابد من طرح المفهوم الجديد للنظرية المعمارية الإسلامية كنظرية عالمية كعالمية الإسلام ثابتة المضامين متغيرة الأشكال والأنماط بتغير المكان والزمان فى أرجاء العالم وإن كان بعض المعماريين الحديثين فى العالم الإسلامي يشكون من قدرة هذه النظرية وفعاليتها خاصة وأن العديد من المجتمعات الإسلامية فى واقع الحال لا يمارس كل التعاليم الإسلامية . فالمشكلة إذن ليست فى النظرية ولكن فى الشعوب التى ابتعدت عن القيم والتعاليم الإسلامية .وهكذا كان لابد من البحث عن الذات وأصول العمارة فى الإسلام ليس كردة أو تخلف ولكن انطلاقاً وتقدماً و ارتقاءً و رقياً وإبداعاً وليس ابتداعاً مع الأخذ بكل وسائل العلم التى تخدم الشعوب ولا تضرها..

      ربما كانت كل هذه العوامل مجتمعة هي التى دفعتني إلى العودة إلى جذوري الدينية ،إلى القيم والتعاليم الإسلامية التى أؤمن بأن فيها المأوى والملجأ وفيها المنهج والأسلوب والنظرية وبعد رحلة طويلة من البحث والدراسة والكتابة والنشر والنقاش والمراجعة والأسفار المتعددة حول العالم استقرت قناعتي بأن الإسلام الذي يشكل كيان الإنسان قادر على أن يشكل العمران الذي يعيش فيه . لقد حاولت بالاجتهاد وبقدر ما منحني الله من علم وفكر وقدرة أن أفتح بذلك أبواباً أوسع للبحث والدراسة والعطاء حتى لا يعود الإسلام غريباً كما بدأ ، وحتى تقوى الأمة الإسلامية وتقوم من كبوتها – وكما قال ابن خلدون ” الملك بالجند والجند بالمال والمال بالعمارة ( أي التنمية) “.

 مشوار البحث عن الذات و تحقيق المنهج الإسلامي فى العمران المعاصر:
الخطوة الأولى:

     بداية المشوار لمحاولة تأصيل القيم الإسلامية فى العمارة المعاصرة كانت فى مقال نشرته جريدة الأهرام القاهرية فى 15/8/1963م تحت عنوان ” محاولة الكشف عن الفلسفة التى تختفى وراء عمارتنا الحديثة ” جاء منها “.. لقد دأبت العمارة المصرية الحديثة على أن تحصل على مقوماتها من العمارة الأجنبية وتستمد أصولها مما تجود عليها به المؤلفات الغربية دون ما تعمق أو تبصر بما  يجود به تراثنا القومي من خبرة فنية وافرة ، وذلك فى الوقت الذي تركنا فيه رواد العمارة المعاصرة فى الغرب ينهلون من حضاراتنا وفلسفاتنا وتراثنا القومي ويقدمون لنا أروع الأمثلة لإمكاناتنا المعمارية التى تستمد جذورها من تراثنا العربي والإسلامي…وطالما تردد المفهوم السطحي لاستنباط الملامح المعمارية المستمدة من التراث الحضاري على أنه طراز قومي له صفاته وقواعده ولكن العمارة المعاصرة لم تعد تعتمد على قواعد تحدد كيانها أو تقيد حريتها فهي وإن استمدت ملامحها من التراث القومي لا تفقد حريتها وتجاوبها مع أحدث الطرق الإنشائية ومع آخر ما يتوصل إليه العلم من المواد الحديثة للبناء.. فالتعليم المعماري فى مصر لا يزال متخلفاً عن غيره من الفنون كما أنه يعتمد إلى حد كبير على ما تقدمه له المراجع الأجنبية دون اعتبار للظروف المحلية وذلك فى الوقت الذي يعاني الإنتاج العلمي المحلي نقصاً كبيراً فى مجال التأليف والأبحاث المعمارية التى تستمد أصولها من التراث القومي ..لقد اختفت الأسس السليمة للتخطيط والإسكان وأصبحت الأرض الزراعية التى كانت مصدراً هاماً من مصادر غذاء المدن مســرحاً للارتجال فى التخطيط… وفى وســط هذا الكرنفــال ( المعماري) تلاشت أهمية المسجد كمركز للنشاط الثقافى والاجتماعي واقتصر دوره على العبادة فقط .. بعد أن حجبته عن الأنظار كثير من المباني…” وهكذا فتحت وأنا مدرس التخطيط العمراني بكلية الهندسة بجامعة عين شمس مجالاً جديداً للبحث عن الهوية الحضارية فى العمارة العربية المعاصرة  فى وقت مبكر امتد تأثيره إلى العالم العربي فكان الالتقاء الفكري مع رواد نفس الفكر وكان اللقاء فى بغداد مع الدكتور محمد مكية والمعماري الراحل سبا شبر والأستاذ رفعت الجادرجي (فى مارس 1964م) وغيرهم للتباحث فى إنشاء جبهة من المعماريين العرب تدعو إلى تأصيل القيم الحضارية فى بناء العمارة المعاصرة.

     وفى عام 1966 كانت أول محاولة عملية لإثبات الدعوة الفكرية التى انطلقت فى العالم العربي . وكانت التجربة الأولى فى بناء السكن الخاص بي فى إطار عمارة سكنية فى ضاحية مصر الجديدة بالقاهرة حاولت أن أثبت بها أنه فى إطار نظم البناء السارية فى المنطقة وفى نطاق تكاليف الإنشاء للإسكان المتوسط وفى مقدور العمالة المتوفرة وباستعمال مواد البناء المتداولة يمكن إنشاء مبنى يعكس المقومات الحضارية والإسلامية فى العمارة وقد انتهى البناء عام 1967م وقد زاره الكثيرون من الطلبة والمعماريين وبعدها بدأت رحلة العمل بالأمم المتحدة فى مجــال التخطيط العمراني فى كل من الكـويت ( 1968 – 1970) والسعودية ( 1973 – 1979) وفى خلال هذه الفترة لم تتوقف الدعوة إلى تأكيد الشخصية  التخطيطية والمعمارية المحلية المستمدة من جذورنا الإسلامية .  ففى عام 1968 صدر لي فى الكويت كتاباً بعنوان ” التراث الحضاري للمدينة العربية المعاصرة ”  طبع فى مطابع الدولة ، وكانت المادة الواردة فيه قد قدمت فى ندوة عقدت فى الكويت ضمن عدد من البحوث فى هذا الموضوع ورأى المسئولون عن الندوة التوصية بنشر هذا البحث المستفيض فى كتاب مستقل وكانت بداية النشر العلمي على مستوى العالم العربي وجاء الكتاب معبراً عما يدور فى الذهن فى ذلك الوقت شاملاً لكل عناصر الموضوع بتركيز شديد حيث تطرق فى بدايته لتطور الفكر لإحياء التراث الحضاري فى المدينة العربية ثم شرح المقومات الحضارية للمدينة لتشمل البيئة الثقافية فى أبعادها التاريخية ثم التطور العلمي والتكنولوجي الذي طرأ عليها ثم المستوى المعيشي للإنسان والعلاقات الإنسانية فى المجتمع ثم التقاليد والعادات ثم دور الدين فى تشكيل المجتمع. وانتقل الكتاب بعد ذلك إلى شرح المقومات الطبيعية للمدينة سواء فى طبيعة الأرض أو فى العوامل المناخية وحلل الكتاب بعد ذلك التغير فى المقومات الحضارية واستمرارها فى العالم العربي سواء كان من التراث الآشورى إلى التراث الإسلامي أو من التراث الفرعوني إلى التراث الإسلامي ثم أسباب توقف الاستمرار الحضاري العربي والتأثير المتبادل بين الحضارتين العربية والغربية. وتطرق الكتاب بعد ذلك إلى تحليل القيم التخطيطية فى المدينة العربية القديمة آخذاً بذلك أمثلة كمدينة الفسطاط والقطائع والقاهرة المعزية ومدينة المنصور فى العراق عارضاً بعد ذلك للمقومات التخطيطية للمدن التاريخية فى المغرب العربي وكذلك تأثير المدن القديمة قبل الفتح الإسلامى ، وشرح الكتاب بالتفصيل العناصر التخطيطية للمدينة العربية القديمة بدأ من المسجد والساحة والشوارع التجارية والأسواق ، ثم المظهر التخطيطي للمدينة فى صورتها العمرانية والمعمارية والتى يمكن أن تستخلص منها القيم المعمارية التى تميزت بها كما فى التعبير العضوي للعناصر المعمارية أو فى التباين بين المسطحات المقفلة والمفتوحة أو فى التعبير عن العناصر الإنشائية أو فى التنغيم فى التشكيل المعماري أو فى تكامل الفراغات مع التوجيه إلى الداخل أو فى رسم خط القطاع الخارجي ومعالجة الظروف المناخية ثم التشكيلات الهندسية وتنسيق المواقع. وفى ضوء ما توصل إليه الكتاب من شرح للقيم العمرانية للمدينة الإسلامية بدأ فى تحديد الطريق إلى إظهار التراث الحضاري فى المدينة المعاصرة سواء أكان ذلك فى المدينة القديمة أو فى مناطق المدينة المعاصرة أو فى تخطيط المناطق الجديدة وبدأ الكتاب بعد ذلك فى شرح رؤيا المؤلف لمجالات جديدة فى التنمية العمرانية مثل التقاء الفراغ والزمن والعمارة فى تشكيل المدينة المعاصرة أو سبل إظهار التراث الحضاري للعناصر التخطيطية فى الصورة المعاصرة شارحاً ذلك بالتصميمات العمرانية والمعمارية مقارنة مع الفكر الغربي فى تخطيط المدينة وفصل حركة المرور عن حركة المشاة . ولم يغفل الكتاب موضوع تأثير تصنيع المباني على التراث الحضاري . وأنهى الكتاب هذه الرؤية الجديدة فى التخطيط والتصميم المعماري بوضع الملامح المميزة لها من خلال التشريعات التى تساعد على إضفاء الطابع الحضاري للمدينة وفى الختام عرض الكتاب لبعض المحاولات المعمارية لربط المدينة العربية المعاصرة بالتراث الحضاري سواء التى فى القاهرة من أعمال المؤلف أو فى بغداد من أعمال رفعت الجادرجي ومحمد مكية كما عرض لبعض المحاولات التى تمت فى دول غير عربية فى محاولة الربط الحضاري بين الأصالة والمعاصرة وهكذا خرج الكتاب مبكراً ليفتح الطريق لمزيد من الدراسات والبحوث فى هذا المجال وبدأت الخطوات الأولى فى مشوار البحث عن الأصول.

الخطوة الثانية:

     هكذا بدأت الدعوة إلى إحياء التراث الحضاري للمدينة العربية من الكويت واستمرت ممارستي العملية فى التخطيط العمراني كخبير للأمم المتحدة محاولا البحث عن الصيغة العمرانية المناسبة للمدينة العربية الإسلامية بالرغم من تدخلات النظرية الغربية من خلال المكاتب الاستشارية والأجنبية واستمر النشاط العلمي فى هذا الاتجاه خلال ممارستي العملية بعد ذلك عندما توليت عملي كبيراً لخبراء الأمم المتحدة فى التخطيط العمراني بالمملكة العربية السعودية وعندها حاولت إرساء جوانب عمليات التنمية العمرانية للمدن فى المملكة واستقرارها كعمليات مستمرة لها أبعادها العاجلة والمتوسطة ( الخمسية) والطويلة الأجل ، وكانت الفرصة متاحة لوضع البدائل التخطيطية والعمرانية لما كانت تقدمه أكبر المكاتب الاستشارية العالمية التى كانت تقوم بالأعمال التخطيطية فى المملكة وكنت ملتزماً فى ذلك بمقومات المدينة الإسلامية والظروف الاجتماعية والمناخية التى تنمو فيها فبدأت تتبلور العديد من الاتجاهات والنظريات التخطيطية للمدينة الإسلامية مدعمه بما سبق نشره من بحوث وآراء معمارية ، وعندما أعلن عن جوائز الأغاخان للعمارة الإسلامية عام 1977 تحركت للدعوة إلى تبني هذا الاتجاه فى المملكة العربية السعودية فى إطار جوائز الملك فيصل الدولية كما حفزت بعض الزملاء المعماريين السعوديين لضرورة إصدار مجلة معمارية تدعو لتبني هذا الاتجاه وتدعمه وقد أعددنا المادة التحريرية والإخراج للأعداد الستة الأولى من مجلة ” البناء ” السعودية لنؤكد مضمون هذه الدعوة الحضارية وعندما انتهت مهمتي فى المملكة فى نهاية عام 1979 ورجعت إلى القاهرة قمت بإصدار مجلة “عالم البناء” فى بداية عام 1980 للدعوة إلى تأصيل القيم الحضارية الإسلامية  فى المدينة والعمارة المعاصرة وذلك من خلال جمعية إحـياء التراث التخطيطي والمعماري التى تأسست لهذا الغرض.

      بدأت الدعوة إلى تأصيل القيم الإسلامية فى العمارة المعاصرة تنتشر فى العالم العربي وبدأ الوعي بها ينتشر عند المسئولين. ففى شهر يوليه 1978 أصدر وزير الإعلام المصري المرحوم عبد المنعم الصاوي قراراً بضرورة إحياء التراث المعماري الإسلامي فى مصر وبدأ الكتاب من بعده يدلون بآرائهم فى هذا الشأن وجاءت مقالتى تعليقاً على نفس الموضوع فى جريدة الأخبار القاهرية يوم 7/8/1978 تحت عنوان ” نحو عمارة إسلامية معاصرة.. وماذا بعد القرار ” جاء فيها .. وهذا الكلام يعيد ما كتبناه على صفحات الجرائد منذ خمسة عشرة عاما (مشيراً بذلك لمقالتى فى جريدة الأهرام فى 15/8/1963 وما جاء فى الكتاب الذي نشر فى دولة الكويت عام 1968 والذي سبق شرح محتواه) وجاء فى المقال أن المشكلة أساساً هى فى الوعي القومي والانتماء العقائدي للتعاليم الإسلامية أكثر منه تعبيراً عن الجوانب المظهرية … فالعمارة فى جميع العصور هي انعكاس طبيعي للمقومات الاقتصادية والحضارية والدينية للشعوب .. فإذا تعمقت فى الشعب الروح الإسلامية الصحيحة انعكس ذلك تلقائياً على المكونات العمرانية للمدن وبالتالي على العمارة. وذكرت المقالة ” أن بعض الكتاب يرى العمارة المعاصرة تبسيطاً للعمارة العربية القديمة والبعض يدعو إلى ضرورة استعمال الحجر فى البناء والبعض يراها فى الزخارف والعقود والمشربيات والبعض الأكثر وعياً يراها فى تأكيد القيم الحضارية للعمارة الإسلامية شكلاً وموضوعاً وتقدماً علمياً وفى ذلك إدراك بمبدأ تطبيق المبـادئ الشرعية والقيم الإسلامية فى أعمال البناء ، وأن مفهوم العمارة الإسلامية لم يعد صالحاً للتداول دون وجود الإسلام كحقيقة فى البناء العمراني والنظرية المعمارية ” من هنا بدأ المشوار الفكري يأخذ طريقاً آخر فى تعريف العمارة الإسلامية وبدأ الحوار فى هذا الموضوع بين المفكرين من المعماريين المسلمين.

       فى مدينة اسطنبول ( إسلام بول) وبالتحديد فى عام 1983 كان أول لقاء لي مع النشاط الكبير لمنظمة الأغاخان وجوائزها عن العمارة الإسلامية ففى ندوة النقاش العلمي التى عرضت فيها المشروعات الفائزة كنت متحفزاً لمعرفة مفهوم العمارة الإسلامية عند المعماريين والمفكرين من أعضاء لجنة تحكيم المشروعات خاصة هؤلاء من غير المسلمين. وكان مبنى مركز الدراسات التخطيطية والمعمارية ومسكني الخاص الملحق به مرشحاً للجائزة فى نفس العام. وكانت أول مفاجأة طرحها رئيس لجنة التحكيم الأستاذ  “بورتر” من أمريكا قوله فى بداية الندوة أن مهمة التحكيم كانت فى البحث عن الشكل فى العمارة الإسلامية قبل أي شىء آخر. وبدأت تتتابع عروض المشروعات وكان أولها مسجد شرف الدين فى مدينة ميسكو فى يوغوسلافيا. وعنه قال مصممه أنه استوحى شكل المسجد من الشكل الهرمي .. هكذا كانت البداية وتوالت عروض باقي المشروعات دون أي ذكر للقيم الإسلامية ولكن كان التركيز دائما على الشكل والحرفة والوظيفة وقمت بنشر المشروعات الفائزة بالجائزة فى مجلة عالم البنــاء (العدد 38) فى أكتوبر 1983 وأصدرتها بمقال عنوانه ” العمارة الإسلامية والعقيدة “.. قلت فيها “يمر الفكر المعماري بمنعطف دقيق فى طريق البحث عن مفهوم العمارة الإسلامية وذلك فى الوقت الذي تتدارس فيه اللجان الأسس والمبادئ التى يتم على أساسها اختيار المشروعات المعمارية لجوائز العمارة الإسلامية أو التى تدعو إلى وضع مناهج خاصة بالتعليم المعماري فى الدول الإسلامية . وفى الوقت الذي تظهر فيه الدعوة إلى بناء الشخصية الحضارية للمدينة والمجتمع الإسلامي فكرياً وثقافياً وعمرانياً فإن الأمر يستوجب مزيداً من الفكر الموضوعي خاصة من قبل المعمار المسلم الذي يرتبط عقائدياً بشمولية الحضارة الإسلامية ويتعايش مع متطلبات العصر وما يفرزه من إنجازات علمية وتكنولوجية “.  وجاء فى نفس المقال ” إن وصف العمارة بالإسلامية يحتاج إلى مراجعة فكرية سواء بالنسبة للعمارة التاريخية أو للعمارة المعاصرة ، ولما كان الإسلام هو منهاج حياة ينظم حياة الفرد والمجتمع بقيمه وسلوكياته ومعاملاته وشعائره وعبادته فإن ما يفرزه الفرد أو المجتمع الإسلامي من عمارة تعبر بالضرورة عن هذه القيم والسلوكيات والشعائر. ويعني ذلك أن ارتباط الشكل المعماري بالمضمون العقائدي أمر أساسي فى بناء عمارة المجتمع الإسلامي ، وأن خلاف ذلك يصبح خروجاً عن العقيدة الإسلامية فلا يصبح بناء قاعات اللهو بالنمط الإسلامي أمراً مباحاً وإلا يصبح العمل المعماري وسيله لهدم البناء العقائدي للحضارة الإسلامية. وفى غياب العمق العقائدي عند المعمار المسلم ، ومع فقدان الوعي الفكري لمفهوم عمارة المجتمع الإسلامي عنده ظهرت مجموعات من الكتب التى تصدر فى الغرب تعرض عمارة المسلمين من واقع الشكل والزخرف قبل المضمون فى صورة أبهرت المعمار المسلم  وأبعدته عن التفكير فى المضمون العقائدي للعمل المعماري ، كما أن هذه الكتب تصدر باللغات غير العربية الأمر الذي يبعد اللغة العربية عن التناول العلمي للموضوعات المعمارية حتى أصبح المعمار العربي يناقش زميله العربي بلغة غير العربية ، الأمر الذي أفقده ذاته واقتلعه من جذوره وحطم من كيانه ” واستطردت المقالة تقول ” لقد كتب أحد الذين يدعون فهم العمارة الإسلامية من غير المسلمين فى مقدمة كتابه  “عمارة العالم الإسلامي” أنه من النادر إمكان التعرف على المبنى الإسلامي أو حتى تمييز الملامح الرئيسية له من خلال واجهاته الخارجية وأن العمارة الإسلامية عمارة مخبأه ترى من الداخل ولا ترى من الخارج .. دون ذكر لآثار العقيدة الإسلامية على تصميم  البناء أو على الشكل ، هذه نظرة الفكر الغربي للعمارة الإسلامية “.
الخطوة الثالثة:

       وفى عام 1983 أيضا أسند إلينا إدارة المؤتمر العلمي لمنظمة العواصم والمدن الإسلامية الذي عقد فى أنقرة بتركيا وكان موضوعه الإسكان فى الدول الإسلامية. وكانت معظم البحوث المقدمة تعالج موضوع الإسكان من ناحية الكم والكيف ولم يقدم منها إلا القليل باحثاً فى موضوع الإسكان فى الإسلام. فكان أن تقدمنا بتوصية تدعو للعمل على وضع أسس التصميم المعماري والتخطيط الحضري للعواصم الإسلامية من المنظور الإسلامي، وقد بدأ تنفيذ هذه التوصية على حاله مدينة القاهرة عام 1986 والتى خرجت فى شكل دراسة موسوعية اشترك فيها معنا الدكتور صالح لمعي تم فيها رصد الأسس التشكيلية للعمارة الإسلامية بأنواعها المختلفة فى الفترة ما بين الفتح الإسلامي والعصر التركي كما تم فيها بالتوازي رصد الأسس العقائدية التى بنيت على أساسها هذه المباني حتى يكون التقييم التشكيلي مرتبطاً بالتقييم العقائدي الإسلامي وحتى تكون القيم الإسلامية أساساً فى تقييم العمل المعماري لإيضاح مضمون الصفة الإسلامية للعمارة التاريخية  فى العصور الإسلامية المختلفة التى مرت بها هذه البقعة الجغرافية المحدودة من العالم أو فى غيرها من الأمصار.

       وفى نفس العام 1983 أيضا عندما عينت رئيساً لقسم العمارة بكلية الهندسة بجامعة عين شمس حاولت جاهداً  أن أضع منهجاً متكاملاً للعملية التعليمية على مدى سنوات الدراسة الأربعة ، يمر فيها الطالب على مراحل دراسية تبدأ بالأساسيات وتنتهي إلى مجموعة من الاختيارات التخصصية التى تتناسب مع القدرات الفكرية والذهنية للطالب ، وقد حددت فى هذا المنهج المحتوى العلمي لجميع المحاضرات فى جميع المواد فى جميع السنوات بحيث تتكامل جميعها فى بناء الفكر المعماري خلال العملية التعليمية حتى يمكن  تخريج مجموعات متكاملة من التخصصات المعمارية فى التصميم والتنفيذ وإدارة المشروعات وتكنولوجيا البناء المتوافقة آخذاً  فى الاعتبار الإمكانات الاقتصادية والظروف البيئية والاجتماعية المحلية ، وكان التوجه الإسلامي هو المحرك الفكري للأساس الذي  بنى عليه المنهج دون الإفصاح عنه.  وقد وضع المنهج فى الحدود المعتمدة مسبقا للمواد الدراسية المختلفة وعندما لم تجد هذه المبادرة العلمية تجاوباً عملياً من أعضاء هيئة التدريس الذين تشبعوا بالفكر والنظرية الغربية فى العمارة و المعتمدين على ما يرد إليهم من مراجع أجنبية فى مختلف المجالات المعمارية كان أن أفرغت محتوى هذا المنهج المتكامل فى مجموعة من الكتب صدرت بداية من عام 1986 عندما تركت رئاسة القسم. وكان أول الكتب بعنوان ” بناء الفكر المعماري” الذي فاز بجائزة الدولة التشجيعية عام 1988 والثاني “المنظور الإسلامي للنظرية المعمارية”  الذي فاز بجائزة منظمة العواصم والمدن الإسلامية فى التأليف المعماري والثالث “المنظور الإسلامي للتنمية العمرانية” الذي فاز بجائزة منظمة العواصم والمدن الإسلامية فى تأليف التخطيط والرابع “المنظور التاريخي لعمارة المشرق العربي” وذلك فى محاولة للبحث عن النظرية الإسلامية فى العمارة والتنمية العمرانية كنظرية عالمية تتناسب مع عالمية الإسلام الذي لا تحده حدود زمنية أو مكانية  فتعاليمه صالحة لكل زمان ومكان.

       واستمر مشوار البحث بعد ذلك فى مجموعات من الأوراق البحثية فى المؤتمرات والندوات والمقالات فى الصحف والمجلات إلى أن كان العزم على بلورة هذا المشوار الطويل فى هذا الكتاب بحثاً عن العمارة فى الإسلام كبديل للجدل المتواصل حول مفهوم العمارة الإسلامية ومدى سلامة هذا  الوصف الإسلامي للعمارة وما قيل حول ذلك من مسميات أخرى مثل عمارة المسلمين أو عمارة المجتمع الإسلامي حتى وصلت إلى القناعة التامة بوضع الموضوع فى مفهومه الطبيعي بالكتابة عن العمارة فى الإسلام لنؤكد للعالم الوجه الحضاري للإسلام.

      وفى نفس الطريق ومن خلال الدورات التدريبية التى دأب مركز الدراسات التخطيطية والمعمارية على تنظيمها منذ إنشائه عام 1980م استمرت الدعوة إلى تأصيل القيم الإسلامية فى العمران المعاصر فى الدورات التى خصصت لهذا الموضوع. وكان يحاضر فيها كبار المفكرين والمعماريين وعلى رأسهم المعماري الراحل حسن فتحي والأستاذة الدكتورة نعمات فؤاد والدكتور صالح لمعي والأستاذة ليلى إبراهيم والمرحوم الأستاذ بدر الدين أبو غازى وغيرهم ، وقد شارك فى هذه الندوات العديد من شباب المعماريين من مصر والمملكة العربية السعودية والكويت والبحرين وسوريا والأردن وعمان والسودان وليبيا وفلسطين .. فكانت هذه الدورات التدريبية بمثابة مركز الإشعاع لهذه الدعوة ، كما نظم المركز دورات متخصصة لأعداد من الدارسين فى المعاهد الغربية مثل معهد دراسات الإسكان بروتردام بهولندا وطلبة من جامعة نيوكاسل بإنجلترا ودارسين من جامعة هارفارد بأمريكا وطلبة السنة النهائية فى مدرسة العمارة بجامعة هدرزفيلد بإنجلترا .. وكنا نعرض عليهم نماذج من العمارة التراثية أو تلك التى حازت على جوائز منظمة الأغاخان للعمارة الإسلامية .. ثم نقف وقفة قبل أن نحدثهم عن العمارة فى الإسلام . نحدثهم أولا عن الإسلام كدين وحضارة وحياة وسلوك وعمل وإنتاج وتقدم ، ثم نضع أمامهم النظرية المعمارية التى تتناسب مع هذا الدين. وتكررت هذه الدورات..  واتسع انتشار الدعوة إلى أن تلقينا دعوة من المعماري ” عبد الرحمن محكموف” من مدينة طشقند فى أوزباكستان لزيارتهم والتحدث إليهم فى نفس الموضوع (1991) وكانت مناسبة لزيارة مدينة سمرقند وبخارى والتعرف على التراث الإسلامي الذي انبعث من هذه البقاع مثل تراث ابن سينا والترمذي والبخارى وغيرهم.

     وقد توجت هذه الدعوة بحصولنا على جائزة المهندس المعماري التى تمنحها منظمة المدن العربية لأحسن معماري فى العالم العربي يهتم بإحياء أصول العمارة الإسلامية .. وكان ذلك عام 1988وسبق أن منحت لأول مرة للمعماري العراقي د. محمد مكية عام 1986 وبعدها منحت للمهندس راسم بدران من الأردن عام 1990م .. ومنذ ذلك الحين لم يحصل عليها أحد إلا تقديراً. وعندما أعلنت مؤسسة الكويت للتقدم العلمي عن جوائزها العالمية فى مجال التراث الإسلامي وبالتخصيص فى العمارة كان لنا شرف الحصول على هذه الجائزة العالمية مناصفة مع الدكتور صالح لمعي عام 1992م. كما استمرت الدعوة بعد ذلك وفى نفس المضمون من خلال المحاضرات التى ألقيت فى جامعة أم القرى بمكة المكرمة أو فى أمانة المدينة المقدسة أو بدعوة من جمعية علوم العمران السعودية أثناء الأمسيات الرمضانية التى كانت تقام لهذا الغرض وغيرها من المحاضرات التى ألقيناها فى الكويت وفى عمان بالأردن وحلب ودمشق فى سوريا و فى صنعاء باليمن و فى بغداد بالعراق. كما فى الحوارات التى كانت تتم بيننا وبين كبار المعماريين فى ألمانيا وإنجلترا وأمريكا وكندا واليابان .

 الخطوة الرابعة:

      فى مارس عام 1993 قمنا بتنظيم المؤتمر الدولي لعمارة الفقراء حاملا اسم المعماري الراحل  حسن فتحي وخصصنا جائزة دولية فى هذا الموضوع وذلك لقناعتنا أن عمارة الفقراء ليس لها مكان فى الفكر المعماري السائد وأن الاهتمام بعمارة الفقراء هو من مبادئ المنهج الإسلامي الصحيح. وأن العمل المعماري لابد وأن يتم من خلال التوجه الإسلامي وتعاليمه باعتباره المرجعية الفكرية والنظرية فى كل الأمور الحياتية التى تنعكس بالتالي على العمارة والعمران فى كل زمان ومكان بعد أن تاه المعمار المسلم فى خضم النظريات الفكرية والمرجعية العلمية التى يفرزها الغرب تباعاً ويغزو بها العالم الإسلامي كما غزا بها كثيرا من الجوانب الحياتية الأخرى كما فى الملبس والمأكل والسلوكيات والعادات حتى فى تغريب اللغة العربية والثقافة الإسلامية مما قد يؤدي إلى فقدان التراث الإسلامي وهو ما يهدف إليه الغرب من خلال ما يطرحه من فكر يدعو إلى العولمة التى تكاد تحصد أمامها الأخضر واليابس من حضارات الشعوب. ضف إلى ذلك ما تميز به الغرب من إنجازات تكنولوجية متقدمة ومتطورة تعجز الشعوب النامية والإسلامية منها عن ملاحقتها فتصبح بذلك أسيرة لاقتصاد الغرب وقوته المادية التى تساعد بالتالي على التخلف الحضاري للعمارة والعمران فى العالم الإسلامي بسبب ما يستورده من الخارج من فكر وتقنية فى أساليب البناء الأمر الذي أفقد العمارة الإسلامية والعربية هويتها و يكاد يفقد الإنسان المسلم هويته الحضارية ولغته العربية التى نزل بها القرآن الكريم ، فقد بنى كثير من المنظرين من المعماريين العرب والمسلمين نظرياتهم وآراءهم فى العمارة المعاصرة على أساس المنهج الغربي والذي هو فى حقيقة الأمر جاء كحصيلة للتراث الثقافى فى الغرب . فقد ظل الإنسان العربي والمسلم بعيداً عن تراثه الثقافى لمدة طويلة من الزمن تبلغ حوالي نصف قرن من الاحتلال العسكري والثقافى.. لبس فيها الطربوش التركي والنمساوي لأنه عجز عن ابتكار غطاء للرأس مناسب لبيئته كما لبس البدلة ورباط العنق لأنه عجز عن تطوير لباسه الوطني ليناسب حياته المعاصرة ، اللهم إلا الإنسان فى بعض الشعوب العربية التى فى أقصى المشرق وفى أقصى المغرب. ولم يفطن الإنسان العربي إلى الغزو الثقافى والاقتصادي بمظاهره العمرانية والمعمارية و التى بدأت تنخر فى عظام المدينة العربية والإسلامية وتخرجها عن مضمونها وقيمتها الحضارية التى اكتسبتها على مر العصور وذلك راجع فى المقام الأول الى التخلف العلمي والفكري فى علوم العمران العربي والإسلامي . فقد كانت الغلبة والسبق للتقدم العلمي والفكري الوارد من الغرب مع أن المتبحر فى علوم القرآن الكريم والسنة المحمدية ومأثور السلف الصالح يجد المرجعية العلمية والفكرية والقاعدة الأساسية لبناء الإنسان وبالتالي بناء العمران الذي يتطور ويتقدم مع حركة الزمن باعتبار أن مضامين هذه المرجعية تنفع الإنسان فى كل زمان ومكان ، فالإسلام كحضارة لا يختص بها قوم عن قوم بل هى رسالة لكل البشر لا يحدها زمان أو مكان حضارة لها أسسها الراسخة وقوانينها الإلهية التى تحركها ولا ينقصها إلا التبصر بمقوماتها وتفاعلاتها بالأمور الحياتية وبالتالي بالعمارة والعمران.

حوارات فى إعداد المعمار المسلم:

     يقول عز وجل فى كتابه الكريم “ ما فرطنا فى الكتاب من شيء” – 38 الأنعام 6-  وقال تعـــــالى : ” وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا “- 7 الحشر 59-. من هذا الذكر الحكيم انطلق علماء الدين والمفكرون فى شرح وتفسير الآيات القرآنية والأحاديث النبوية مع أقوال السلف الصالح فيما يختص بشئون الحياة الدنيا والآخرة من قواعد العبادات والمعاملات الى القواعد الاقتصادية والاجتماعية والتربوية والإعجازات العلمية فى القرآن وربما لم يتمكن علماء الدين من استنباط ووضع كل الأسس الشرعية التى تحكم العمارة والعمران من خلال النصوص الصريحة لكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، ولكن إذا كانت العمارة فى أي مجتمع هى انعكاس للعوامل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتاريخية لهذا المجتمع، فيمكن استنباط أحكام العمارة والعمران بالقياس بأحكام الاقتصاد والاجتماع والمعاملات فى الإسلام.  ومع ذلك لم نجد من علماء الدين من تطرق إلى القواعد العمرانية فى مجالات البناء والتعمير وإن كان هناك الكثير من الاجتهادات فى موضوعات إحياء الأرض وشروط الملكية العامة والخاصة كما أن هناك العديد من الأحكام والفتاوى التى تطرقت إلى شروط البناء والعلاقات والأعراف بين الأطراف وتطبيق مبدأ لا ضرر ولا ضرار ، كما ذكر فى كتاب ابن الرومي فى تونس ويقول دكتور جميل أكبر-من السعودية- فى كتابه عمارة الأرض
(1991) أنه أراد بكتابه أن يوضح عظم الشريعة وملاءمتها التامة للحياة المعاصرة فى حقلي التخطيط والعمارة فى أنها تفوق جميع النظم الوضعية والنظريات المعاصرة وهى أقرب معرفة ببيئة الإنسان الاجتماعية والاقتصادية ومتطلباته المعيشية فى إطارها الإسلامي، وقد سبقه فى هذا الاتجاه الدكتور صالح الهذلول- من السعودية- و ذلك فى الوقت الذي لا يتورع فيه معظم المعماريين المسلمين من غيرهم عن الكتابة فى شئون العمارة والعمران متخذين من النموذج الغربي المرجعية للمنهجية والنظريات التى يتبعوها وهم بذلك يزيدون من عمق واتساع الهوة بينهم وبين القواعد الشرعية الأمر الذي يندرج بالتالي على تلاميذهم وقرائهم . والمشكلة هنا أن من كتبوا عن الأصول الشرعية فى العمران التزموا بما كان يتم فى الماضي و لم يراعوا الحقبة الزمنية للتوقف الحضاري الذي أصاب الأمة الإسلامية على مدى خمسة قرون من الزمان خلال فترات الغزوات الغربية العسكريه و الاقتصادية و الثقافية والتى  تغيرت فيها الأحوال اجتماعياً وثقافياً واقتصادياً وبيئياً و لم يتعرضوا إلى كيفية تطبيق الأصول الشرعية فى هذا الزمان وبعد تدهور العمران فى العالم الإسلامي. فالمهم الآن هو كيف نعيد إلى المعمار والمخطط المسلم  فهم الأصول الشرعية وكيفية تطبيقها على الواقع المتدهور، هل بإعادة صياغة مناهج التعليم المعماري فى العالم الإسلامي، أم بإعادة النظر فى اللوائح والقوانين الوضعية التى أدت إلى هذا الانهيار فى عمران العالم الإسلامي أم بإعادة النظر فى كفاءة الآليات التى تسير العمل فى الإدارات والمؤسسات المعنية بالبناء والتعمير . هذه هى الاتجاهات  الأولى بالبحث والرعاية. وهذا هو التحدي الحقيقي أمام المفكرين من العلماء والمعماريين المسلمين.

      لقد اشترك فى ندوة التعليم المعماري فى العالم الإسلامي التى نظمتها جائزة الأغاخان للعمارة فى غرناطة بأسبانيا عام 1986 مجموعة كبيرة من المعماريين والمخططين والمفكرين المسلمين وغير المسلمين لبحث ما يهم المسلمين. فى بداية الندوة قال الأمير كريم خان أن برنامج الأغاخان التعليمي للعمارة الإسلامية قد أنشىء عام 1979 بالاشتراك مع جامعة هارفارد بأمريكا للاستزادة من معطيات التراث الإسلامي المعماري ولكنه استطرد قائلا أن الغالبية العظمى من المسلمين هم من سكان الريف الفقراء الأمر الذي يتطلب العناية بعمارتهم وبيئتهم العمرانية . وقال ” آيمليو جوميز” – من أسبانيا -أن الفنون الإسلامية زاخرة بالأشكال البنائية والهندسية ويضم قصر الحمراء العديد منها. كما دافع عن الإبداع فى هذه الفنون مع إقراره بحقيقة التناقض بين الفقر والفن وأنه يرى أهمية الفن. كما أوضح رأيه الذي لا يتفق مع ما قاله- ملك الأردن الراحل- عندما زار قصر الحمراء عام 1949 ” إنني عرفت الأن لماذا ترك العرب أسبانيا ” . وقال” وليام بورتر”- من أمريكا – مردداً تساؤل الأغاخان عما إذا كان أساتذة العمارة  لديهم علاقات وطيدة بالمجتمع الذي يعيشون فيه وهو يشير هنا إلى ضرورة الاهتمام بموضوع الفقر والحاجة التى يعاني منها غالبية المسلمين – وتبعه “سبيرو كرستوف” – من اليونان – متفقاً مع ” د. منى سراج الدين” – من مصر – و” فرانسوا فيجو” – من فرنسا-أن العمارة الإسلامية  يجب أن ينظر إليها أكثر عمقاً من مجرد واجهات ولكن لابد من دراسة تاريخها من النواحى الاجتماعية والثقافية والبيئية- وذكر ما جاء على لسان حسن فتحي من أنه لم يكن يستطيع تصميم كنيسة فى قرية القرنة التى خططها وبناها قرب الأقصر وكان أن أوكل ذلك إلى معمار مسيحي هذا مع أنه قد سبق أن استدعى أحمد بن طولون  أحد المعماريين المسيحيين من العراق لبناء مسجده فى القاهرة ودخل به التاريخ، وعليه تساءل – “سبيرو كوستوف” – عما إذا كان طلبة العمارة المسلمين سوف يرفضون تصميم المشروعات التى لا تناسبهم كمسلمين كما اعترض على مقولة- “السيد حسن نصر” مفكر إسلامي من باكستان – من أن المعمار المسلم يجب أن يتدرب على الطرق التقليدية والحرف القديمة إذا كان يريد أن يصمم عمارة إسلامية . كما اعترض على ما قاله:  ” دوجان كوبان” – من تركيا -من أن العمارة الإسلامية يجب أن يصممها معمار مسلم على إطلاق الوصف فى ربط العمارة الإسلامية بالأشكال التقليدية والهندسية التى تميزها والأساليب الإنشائية التى طبقت فيها.  ويقول ” كرستان نوربرج” – من ألمانيا – فى نفس حلقة التعليم المعماري فى العالم الإسلامي أنه يرى عمارة المسلمين متمثلة فى السوق وفى المسجد وفى حوائط المدن القديمة كما يراها فى الأشكال الهندسية فى الأرضيات والأسقف وفى الكتابات القرآنية على الحوائط وهو يرى عمارة المسلمين فى آثارهم فى القبة وفى العقد وفى البرج وفى المقرنص وفى الفناء وفى غيرها من العناصر التراثية كما يراها فى الاقتباس من الشكل المكعب للكعبة المشرفة التى يقول عنها بسذاجة أن اسمها مشتق من المكعبات مع أنها تعبير عن ملتقى الأنظار والاتجاهات . ويقول ” كرستان ”  أيضاً : أن وحدة الإله تنعكس على وحدة الزخرف الإسلامي كما يستشهد بقوله تعالى: ” الله نور السموات والأرض “ أن فى ذلك إشارة إلى الاهتمام بالنور فى العمارة الإسلامية .. وهكذا.. كما يقول أن التوحيد بالله جاء من الوجود فى الصحراء وأخذ يحلل ارتباط المسلم بالصحراء وأن الفناء فى المنزل الإسلامي هو تنظير لصورة الجنة متمثلة فى الزرع والمياه الجارية فى الفناء- هكذا يتصور- أما ” محمد أركون”- مفكر إسلامي من الجزائر- فكانت مداخلته فى نفس الملتقى الخاص بالتعليم المعماري فى العالم الإسلامي قد بدأها بتعريفه للثقافة الإسلامية النابعة من التاريخ والأدب والشعر والفن وأن هذه الثقافة قد رسخت فى وجدان هؤلاء الذين بنوا المساجد والقصور ومساكن الأغنياء وأن الثقافة الإسلامية قد تأثرت بالثقافات السابقة لها فى الأقطار الإسلامية وقال أن الإسلام لا يمكن تقديمه كديانة وثقافة شرقية منفصلة عن عالم البحر المتوسط معمارياً أو فكرياً أو كتقاليد للمعرفة وطرق للحياة أو نسيج حضري أو فى الاستثمار الريفى ثم انتقل لتعريف الحداثة وتناقضها أو تقاربها مع التقليدية فى وجدان المسلم ومدى انعكاس ذلك على العمل المعماري فى ضوء النظم الاقتصادية والثقافية والحاجات المعيشية المعاصرة التى تطورت فى الفئات الغنية من المجتمع ولم تدخل إلى الفئات الفقيرة منه. وفى النهاية دعى الى ضرورة إدخال تاريخ الفن الإسلامي و أيضا تاريخ الفكر الإسلامي فى التعليم المعماري حيث أن ماضي المجتمع الإسلامي لا يزال حاضراً ونشطاً . وشملت المداخلات فى ملتقى التعليم المعماري فى العالم الإسلامي كلمة لـلمعمار  “رفعت الجادرجي” – من العراق- موضحاً أن كلمة العمارة الإسلامية هى صيغة ثقافية أكثر منها دينية وهى تعبير غير مناسب ومتناقض . وقال أنه لا يصدق مفهوم البحث عن الوحدة فى التصميم فهو يصمم لغرض خاص مستوحياً عمارته من الأشكال التقليدية التى حوله . وتدخل “داراب ديبا” – معمار من إيران – مطالباً بتعريف دقيق للنظريات المتخذة من القرآن الكريم لتوجه المعمار والعمارة وبدون ذلك التحليل سوف يصبح الإنتاج المعماري فى العالم الإسلامي كاريكاتيراً ولابد من أخذ هذا التوجه فى التعليم المعماري . ورد عليه ” مجدي توفىق سعد” -من الأردن – بأنه يفترض بذلك أن يكون فى الكتاب الكريم وصفات للمعماريين مثل وصفات كتب الطبخ (هكذا دون لباقة) .. وعلق ” عبد الحليم إبراهيم”-  من مصر- على “محمد أركون” بأن كتب الفلسفة ليست هى المادة الوحيدة التى تسجل التطور الفكري فى أي ثقافة ولكن هناك المباني والعمارة التى هى أكثر تسجيلاً لهذا التطور وأن روح الثقافة الإسلامية يعبر عنها فى المباني أكثر من أي شكل أخر من أشكال التعبير وتبعه ” محمد مكيه” –  من العراق- قائلا أن الأهم من كل ذلك هو تعليم طلبة العمارة فى العالم الإسلامي كيف يصممون ويبنون فى البيئات الإسلامية وأن على الطلبة معرفة التراث الحضاري للعمارة ليس ليقلدوه ولكن ليتنافسوا معه . أما “سبيروكرستوف” – من تركيا- فهو يعارض العمارة الإسلامية كطراز بل هى فى نظره مجموع هذا النتاج المعماري الذي ظهر على مر العصور الإسلامية. ثم قال ” جوانزالبى”- من أسبانيا – أن المعمار المسلم يجب أن يدرس الثقافة الإسلامية وكذلك العمارة التقليدية بالإضافة الى الدراسات الاجتماعية والاقتصادية والدينية والسياسية . ثم جاء ” أركون ” -المفكر الإسلامي- مرة أخرى ليقول أنه لا يمكن استنباط فكر وثقافة جديدة من القرآن الكريم بعد استقرار أصول الفقه الإسلامي وهو ما لا يعرفه معظم الأجيال الجديدة من المسلمين ولكنه لم يشر إلى كيفىة تطبيق أصول الفقه الإسلامي على العمارة المعاصرة.

       هكذا انتهت هذه الحوارات بين المفكرين من المسلمين وغير المسلمين فى شئون العمران فى العالم الإسلامي دون ذكر أو إشارة لأي آية قرآنية أو حديث شريف أو أي مرجع آخر من مراجع الفكر الإسلامي وكأنهم كانوا يغوصون فى بحر من المنهجية الغربية فى أسلوب تناول هذا  الموضوع والشديد الخصوصية الإسلامية. 

بداية الطريق نحو الهدف :

       بداية الطريق فى المسيرة نحو تحقيق المنهج الإسلامي فى العمران المعاصر  هى فى الإيمان بالله وكتبه ورسله وهي فى اليقين بأن ما أنزل من السماء هو لخير البشرية فى دنياها وآخرتها، وأن الخالق جل وعلا هو الأعلم من كل العلماء والأعظم من كل العظماء، وأن رسول الله محمد -صلى الله عليه وسلم- لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى-4 النجم 53- وأن ما فرط الله تعالى فى الكتاب من شيء فيه نبأ من قبلنا وخير من بعدنا وحكم ما بيننا وأن الله يرث الأرض ومن عليها قال تعالى: ” وهو الذي أنشأكم فى الأرض واستعمركم فيها ” -61  هود 11- وأن فى قصص القرآن عبرة لمن لا يعتبر وأن العمل بما أنزل الله هو الطريق المستقيم إلى حياة أفضل – قال تعالى: ” أولم يسيروا فى الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ، كانوا أشد منهم قوة وآثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها ، وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون “ – 9 الروم 30– . وكانت العبرة فيما حدث لقوم عاد حيث نزل فيهم ” أتبنون بكل ريع أية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون وإذا بطشتم بطشتم جبارين فاتقوا الله وأطيعون ” -128 الشعراء 26- . وقوله تعـالى : ” ولولا ان يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة و معارج عليها يظهرون . ولبيوتهم أبواباً وسرراً عليها يتكئون  وزخرفاً وان كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والأخرة عند ربك للمتقين” – 33 الزخرف 43- من هذه المنطلقات الربانية يبدأ طرح الفكر الإسلامي فى العمارة والعمران ، ففيها بداية الطريق إلى ما سوف نعرض له من أساليب ونظريات ومناهج للعمارة فى الإسلام حتى يمكن مواجهة هذا الفكر المتلاحق من النظريات والفلسفات الواردة من الغرب فى مجال العمارة والعمران والتى شكلت فى فترة ضعف المسلمين وجدان المعماري المسلم ومناهج تعليمه وأساليب ممارسته حتى فقد ذاته وخصوصيته واندمج فى نداء العولمه الذي ترفعه الحضارة المادية وتدعو له فى كل المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وبالتالي المجالات العمرانية ، الأمر الذي بدأت تعيه الدول النامية وتخشى آثاره المخربة، وليس للمجتمعات الإسلامية فى هذا الشأن إلا الرجوع إلى الله وتعاليم الإسلام السمحة ومنهج الوسطية فى كل أمور الحياة قال تعالى:
” وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا “-143 البقرة 2- 
وذلك بعد أن فشلت جميع النظم الاشتراكية والرأسمالية التى تتأرجح بينها معظم الدول الإسلامية فى الوقت الحالي . ويظهر منهج الوسطية أيضاً على التحكم فى الإنفاق – قال تعالى:” والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما” -67 الفرقان25- وهذا التوجه الإسلامي هو الذي يحكم الاقتصاد فى العمارة والتخطيط العمراني سواء فى التصميم أو فى الإنشاء.
الإعمار فى الإسلام:

      يحث الإسلام على عمران الأرض وتعميرها بالخير وبما ينفع الإنسان الفرد والمجتمع . قال تعــالى: ” هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا فى مناكبها وكلوا من رزقه واليه النشور” – 15 الملك 67- وقال عز من قائل: ” ألم نجعل الأرض مهادا ” -6 النبأ 78- وقال: ” ولكم فى الأرض مستقر ومتاع الى حين”-36 البقرة 2- وتعمير الأرض هنا بإحيائها واستثمارها وليس بالمضاربة عليها . وإحياء الأرض الموات إما بالبناء للسكن أو العمل أو بالإستزراع ويعني ذلك أن البناء على الأرض التى تم إحياؤها يخالف المنهج الإسلامي ويتعارض معه والبديل هو تعمير الصحراء أو الأرض البوار . قال تعالى:- ” ومن يهاجر فى سبيل الله يجد فى الأرض مراغماً كثيرا وسعة ” – 100 النساء 4-الأمر الذي هو من مسئوليات الفرد القادر على ذلك والمجتمع الذي يهيىء له السبيل إلى ذلك فيما يسمى بالخطط الإرشادية التى تحدد فيها الطرق والمرافق والخدمات العامة فى ظل الشروط البيئية التى تستند إلى المبدأ الإسلامي لا ضرر ولا ضرار، والتعمير يصحبه الإستيطان البشري فى التجمعات العمرانية الجديدة مرتكزاً على مبدأ التوازن والتكافل الاجتماعي بين الطبقات والجمع بينها فى العمران دون تفرقة أو طبقية او تمييز فى الجنس أو اللون ما داموا  يتقون الله فى أعمالهم وفى أداء وظائفهم الاجتماعية والعملية التى تتوافق مع إمكاناتهم وقدراتهم . قال تعالى:
” أهم يقسمون رحمة ربك . نحن قسمنا بينهم معيشتهم فى الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات
 ليتخذ بعضهم بعضا سخريا . ورحمة ربك خير مما يجمعون” -42 الزخرف43- . وقوله تعــالى : ” وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم ” – 165 الأنعام 6-.

       هذه هي بداية النظرية فى توزيع السكان بفئاتهم المختلفة على الأرض حيث تتحدد لهم المرافق والخدمات العامة بالأسلوب الذي يحد من الأمراض الاجتماعية والصحية والأمنية ويعمل على تفعيل مبدأ التكافل بين الطبقات كما يحث عليه الإسلام ويضع له الآليات والنظم لتحقيقه . والتكافل ثم التكامل الاجتماعي يتبعه بالضرورة التكامل العمراني . ويعني ذلك أن العمران فى حركته و نموه يتطلب أن يكون متماسك البنيان بلا فراغات تقطع أوصاله العمرانية أو الاجتماعية الأمر الذي يتطلب منهجاً خاصاً فى عملية التعمير المترابط والمتلاحم بحيث يتم البناء على أساس الأفضلية لمن يسبق ويكون عنده القدرة على التشييد ، وينعكس هذا المبدأ بالتالي على نظام تقسيم الأراضي وتخصيصها على أن يكون التقسيم بنى على أساس الوحدة فى طول حد الجوار والاختلاف فى العرض بما يتناسب مع القدرة فى الدفع والبناء مع الالتزام بالتجانس فى العمارة الخارجية مع توفير الخصوصية فى العمارة الداخلية ويتم ذلك فى إطار الطابع المعماري لوحدة الجوار التى تبنى على أساس الحديث النبوي الشريف ( ألا أن أربعين داراً جار ) شرقاً وغرباً وشمالا” وجنوبا كما توضحه الدراسات التخطيطية الخاصة بذلك باعتبار أن  وحدة الجوار بهذا التحديد هي الخلية الاجتماعية التى تتكاثر فى عملية البناء العضوي للمدينة والذي يساير فى حركته النمو العضوي للكائنات الحية التى خلقها الله، فتكاثر الخلية الاجتماعية يواكبه امتداد المرافق والخدمات العامة بمستوياتها ومعاييرها المختلفة فى حركة ديناميكية يحكمها نظام إدارة التنمية العمرانية المستمرة التى تتعامل مع المتغيرات المختلفة وتعالجها فى أبعادها العاجلة والقريبة والبعيدة المدى وذلك بالآليات والمعايير والأساليب الموضوعة لهذه الإدارة فلم يعد التخطيط العمراني هو هذا العلم الذي تحتويه التقارير والمخططات الجامدة ولكنه تطور لتحريك هذه التقارير والمخططات المبدئية للتحكم فى حركتها وإدارة آلياتها والتعامل مع متغيراتها استناداً على مبدأ لا ضرر ولا ضرار ومبدأ الوسطية فى اتخاذ القرار.

      وإعمار الأرض يتمثل فى الامتدادات العمرانية أفقياً  أكثر منه رأسياً و قد ثبت من نتائج البحوث الاجتماعية التى أجريت فى مدن الغرب أن إرتفاع المباني السكنية إذا زاد عن أربعة أو خمسة أدوار فإنه يسبب العديد من المشاكل البيئية والاجتماعية والأمنية والسلوكية والأخلاقية التى ينهى عنها الإسلام فتصبح الامتدادات الأفقية هى الأقرب والأنسب لتفادي هذه المشاكل. وإن كان البعض يرى فى ذلك زيادة فى تكلفة أطوال شبكات الطرق و المرافق العامة ، فإن المتدبر للأمر من الوجهة العقائدية يجد أن هذه الزيادة فى التكاليف لا يوازيها الإنفاق المستقبلي فى مواجهة المشاكل المترتبة عن الامتدادات الرأسية الذي ابتلانا بها الغرب فى فترة من الزمن ثم تراجع عنها وتركنا نعمل بها دون وعي وذلك لإغفالنا الفكر الإسلامي الموجه لأعمال الإعمار فإن لم يكن بالنص المباشر من القرآن الكريم والأحاديث الشريفة فبالقياس من النصوص التى تدعوا إلى ما فيه صالح الفرد والمجتمع ، كما أن الامتدادات الرأسية والتطاول فى البنيان قد أفقد المجتمع الإسلامي الروابط الاجتماعية ومضمون الجوار الذي جاء ذكره كثيرا فى الأحاديث النبوية الشريفة. أضف إلى ذلك ظهور الكثير من الأمراض النفسية والمعاناة الحياتية التى يتكبدها الفرد والمجتمع وجميعها لها مردودها السلبي اقتصادياً واجتماعياً. وإذا كان التطاول فى البنيان قد يتناسب مع الأغراض الإدارية فإنه بالقطع لا يتناسب مع الأغراض السكنية الأمر الذي يستدعي إعادة النظر فى المعايير التخطيطية والكثافات السكنية آخذاً  فى الاعتبار منهج الوسطية فى تحديدها.

     والإعمار بصفة عامة إما أنه يتعامل مع ما هو قائم من عمران أو ما هو امتداد لما هو قائم أو ما هو فى التجمعات الجديدة ولكل أسلوبه الخاص فى المعالجة التخطيطية وبالتالي فى أسلوب إدارة العمران ، فالتعامل مع ماهو قائم من عمران يتم إما بأسلوب التطوير أو الارتقاء ولكل نظامه وطرقه ومعاييره وإذا كان من الممكن تطوير المناطق المتخلفة تطويراً  شاملاً فستبقى بعض المناطق التى تحتاج إلى أعمال التحسين أو الارتقاء، فالمناطق المتخلفة عمرانياً عادة ما تكون متخلفة بيئياً واجتماعياً واقتصادياً ولكل حاله علاجها من المنظور الإسلامي والتى تبدأ بأعمال التأهيل الاجتماعي كأساس للتأهيل البيئي والاقتصادي وذلك فى نطاق وحدات الجوار التى يتم تحديدها فى ضوء نتائج المسح الاجتماعي والعمراني ، وتتحدد وحدة الجوار من خلال تقسيم النسيج العمراني إلى مربعات سكنية يتوسط كل منها مسجداً ليكون هو مركز النشاط الديني والعمراني. ففى نطاق وحدة الجوار يتم تفعيل المشاركة الشعبية والتكافل الاجتماعي والتعاون فى أعمال التطوير الاجتماعي و العمراني وهنا يدخل المنهج الإسلامي محركا لهذه الفعاليات كما يصبح للمسجد دوره الإرشادي تحت إشراف الداعية المتخصص الذي يعين لوحدة الجوار ويعمل بالتعاون مع إدارة الحي أو البلدية المحلية حيث أن أعمال التطوير العمراني لا تنفصل بل هى مكملة لأعمال التأهيل الاجتماعي والاقتصادي وإذا ضاق المكان بسكانه فهناك المجال واسعاً  فى مناطق الامتدادات العمرانية أو التجمعات الجديدة مع الأخذ  بالاعتبار دائماً بعلاقة السكن بمكان العمل.

     وللفقراء هنا اهتمام خاص حيث أنهم يمثلون قطاعاً كبيراً من المجتمع والأكثر احتياجاً للعون المادي والأدبي من الفئات الأخرى الأكثر قدرة على العطاء، وفى هذا الخصوص وضعت الجمعية المركزية لإيواء المحتاجين التى أنشأناها عام 1996 أهدافها للتصدي لإسكان الفقراء من منطلق إعتماد الفكر الإسلامي منهجاً عملياً يتناسب مع الإمكانات البشرية لهذه الفئات وتمكينهم من البناء بالجهود الذاتية خلال فترة مناسبة لتأهيلهم اجتماعياً خلال إقامتهم فى غرف للإيواء المؤقت حتى الانتهاء من البناء وتكون الأولوية فى الاختيار للوحدات السكنية الجديدة لمن ينجح فى التأهيل الاجتماعي والديني وبعد ذلك تتحول غرف الإيواء بعد إخلائها إلى محلات لممارسة النشاط الحرفى والخدمي وتوفير فرص العمل لهم كتجمعات إنتاجية يعمل بعضهم فى حرفة الحياكة والبعض الآخر مثلاً فى الحدادة أو فى أعمال الكهرباء أو السباكة أو فى التجارة بأنواعها أوفى التصنيع الخفيف تبعاً للإمكانيات و المؤهلات المتاحة بمساعدة الصندوق الاجتماعي . فالعمل اليدوي والجهود الذاتية هو أيضاً من القيم الإسلامية فكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقوم بجمع الحطب كمشاركة فى تهيئة الطعام، وكان داوود عليه السلام لا يأكل إلا من عمل يده وكان زكريا عليه السلام نجاراً. والإعمار من جانب آخر لا يكتمل إلا بإضفاء الجانب الجمالي بالتنسيق وزرع الأشجار والعناية بها لما فى ذلك من منافع صحية وبيئية ونفسية سواء أكان هذا الزرع مثمر أو غير مثمر كما حث عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- إذ قال ” ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان إلا وكان له به صدقة “ – رواه البخاري ومسلم- . وقال عليه الصلاة والسلام كذلك ” من غرس غرساً لم يأكل منه آدمي ولا خلق من خلق الله إلا كان له به صدقة ” – رواه أحمد عن أبي الدرداء-  وحتى الفسيلة قد حث على غرسها حتى ولو كان فى آخر عمر الإنسان .. وبالتالي يحث الإسلام على العناية بالتشجير والمثمر منه خاصة وعدم قطع الشجرة إلا لصالح المسلمين. وهذه مبادىء المنهج الإسلامي الذي سبق به العالم المتحضر وهنا يظهر الفرق بين غرس الغرس وزرع الزرع ، فالأول ينطبق على الشجر والشجيرات والثاني على ما دون ذلك من زروع وأزهار وجميعها عنصراً من عناصر إعمار الأرض بجانب شبكات الطرق والمرافق والخدمات العامة التى يشارك المجتمع فى بنائها  وتهيئتها لخدمة الإنسان وهو ما ينفق عليه من بيت مال المسلمين الذي هو مال الله الذي استخلف فيه الإنسان. ويعني ذلك أن هذه المرافق هي وديعة من عند الله وجب الحفاظ عليها وصيانتها وعدم الإضرار بها. كل ذلك بالإضافة إلى ما ذكره عليه الصلاة والسلام عن حق الطريق وأن النظافة من الإيمان سواء تم ذلك تطوعاً أو قصراً  فى إطار أعمال البلديات المحلية نيابة عن المجتمع.

  وحدة الجوار فى المدينة الإسلامية:

       إذا كانت الأسرة هى الخلية فى البناء العضوى للمجتمع ، فإن وحدة الجوار هى الخلية فى البناء العضوى للحيز العمرانى التى تحتوي هذا المجتمع وذلك باعتبار أن العمران هو حصيلة التفاعل بين البناء الاجتماعى والبناء المعمارى بما فيهما من مقومات اقتصادية واجتماعية وثقافية وحضارية الأمر الذي معه يصعب الفصل بين المجتمع والمعمار.

      وإذا كان الإسلام قد أكد  بر الوالدين فى الأسرة وعلى الإحسان لذى القربى واليتامى والمساكين والتوصية خيراً بالجار ، فإن فى ذلك إشارة إلى ضرورة التعايش والتكامل والتكافل بين هذه الفئات المتواجدة فى حيز مكانى واحد . قال تعالى : ” واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذى القربى واليتامى والمساكين والجار ذى القربى والجار الجنب ” -36 النساء 4- ويقول- صلى الله عليه وسلم- فى حق الجار: ” مازال جبريل يوصينى بالجار حتى ظننت أنه سيورثه ” -متفق عليه عن ابن عمر وعائشة رضى الله عنهما- ، وفى الجوار ظاهرة تلاصق الجدار حتى ان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: ” لا يمنعن أحدكم جاره أن يضع خشبة فى جداره ” -متفق عليه- وقال: ” من كان له جار فى حائط أو شريك فلا يبيعه حتى يعرض ” -رواه الحاكم – وفى هذا دليل على تلاحم النسيج العمرانى بالنسيج الاجتماعى فى وحدة الجوار ، ويبقى تحديد أبعاد وحدة الجوار والى اى مدى يستمر الاعتبار بالجار أو التعريف بالجوار، وقد تحدد هذا البعد فى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم : ” ألا إن أربعين دارا جار … ولا يدخل الجنة من خاف جاره بوائقه ” -رواه الطبرانى-  وقال : “حق الجوار إلى أربعين دارا هكذا وهكذا وهكذا وهكذا يمينا ويسارا و أماما وخلفا ” وقد يكون هذا التعريف بأبعاد وحدة الجوار منسباً للدار الواحدة وقد تمتد هذه الحدود بالنسبة للدور المتلاصقة ويصبح التعريف منسباً لكل دار ، ويمكن أن يكون فى هذا التعريف مدخلا لتحديد الحيز العمرانى لوحدة الجوار فى التخطيط العمرانى المعاصر بخلاف التعريف التقليدى للمجاورة السكنية المأخوذ عن الفكر التخطيطى الوارد فى النظريات الغربية والتى تحدد حجم المجاورة السكنية فيما بين 4000 و 5000 نسمة مقدرا على أساس حجم المدرسة الابتدائية.

  فإذا كان عدد الدور فى وحدة الجوار فى كل اتجاه هو أربعين دار فيكون عددها فى الاتجاهات الأربعة 160 دار فى كل منها عائلة مفردة أو مركبة من أكثر من عائلة تضم الأولاد المتزوجين، ففى حالة العائلة الواحدة يصبح عدد السكان فى وحدة الجوار حوالى (160 × 5 فرد للعائلة) = 800 فرد. وفى حالة العائلة المركبة يصبح عدد السكان حوالى 1600 فرد أو 2400 فرد على أعلى تقدير وفى كل الحالات يكون المسجد هو المكان المركزى الذى تلتف حوله وحدة الجوار ليس فقط لأداء الفرائض الخمس جماعة ، لكن للقاء و لتدارس شئون المجتمع واحتياجاته من الخدمات والمرافق . وإذا كان فى كل 1000 نسمة 400 مفروض عليهم الصلاة فى المسجد فان سعة بيت الصلاة فى المسجد بوحدة الجوار تستوعب ما بين 320 و 960 مصلى بخلاف العناصر التعليمية والاجتماعية والثقافية والصحية التى تتكامل مع وظيفة المسجد . وترتبط مساحة وحدة الجوار بالكثافات السكانية المتغيرة بتغير المستوى الاقتصادى والاجتماعى لأصحاب الدور والتى تتراوح فى الامتدادات الأفقية ما بين 25 ، 50 ، 75 فرد للفدان ، ومع تثبيت مساحة وحدة الجوار كخلية تتكاثر فى البناء العضوى للعمران تصبح المساحة 32 فدان كمساحة ثابتة تتغير فيها الكثافات. ويمكن تحديد أبعادها القياسية على أساس العرض 260م والطول 520م ، وفى هذا المستطيل تتحدد العناصر العمرانية المكونة لوحدة الجوار والتى يتوسطها المسجد وملحقاته وتتشعب منه شرايين الخدمات التجارية والإدارية والتعليمية التى تمتد بين المجموعات السكنية  التى تضم الطبقات الاقتصادية والاجتماعية المتقاربة من السكان مع العمل بمبدأ الوسطية الإسلامية التى تحد من التفاوت الكبير بين الطبقات فى الحيز العمرانى الواحد تأكيدا لمبدأ التكافل والتكامل وتفاديا للتشاحن والتحاقد.

     ويلاحظ فى الحديث النبوى الشريف الذى يحض على عدم الاستطالة بالبنيان الجديد حتى لا يحجب الريح عن مبنى الجار القائم قبله إلا بإذنه – وعلى أن الجار القائم لا يمنع أن يضع جاره الجديد خشبة فى جداره  – يلاحظ فيه احترام الجار الجديد لخصوصية الجار القائم قبله والذي سبق بالبناء ويعني ذلك أن من سبق بالبناء يكون له الفضل الأول و يحظى بالاعتبار عند جاره الذي يلحقه بالبناء وهكذا تكون الأفضلية لمن سبق بالبناء فى منهج التنمية العمرانية لوحدة الجوار وحتى لا تتناثر المباني وتترك الأرض فضاء بينها مما يقوض علاقات الجوار ولا يعززها بين أفراد المجتمع فى وحدة الجوار الأمر الذي يستدعي تطبيق مبدأ الأفضلية لمن يسبق بالبناء بالتتابع والتلاصق حتى تنمو المنطقة العمرانية نمواً عضوياً متكامل الأوصال وفى هذه الحالة يتم الحجز لمن يشاء بالمساحات المطلوبة على المشاع ويعطي الحاجز أفضلية الاختيار عندما يبدأ فى إجراءات البناء تطبيقا لمبدأ الأفضلية لمن يسبق بالبناء.

     عند تحديد استعمالات الأرض فى وحدة الجوار من الأفضل الفصل بينها حتى لا يختلط الاستعمال السكني مع المسجد بالاستعمال التجاري والأسواق حيث قال – صلى الله عليه وسلم – : ” أحب البلاد إلى الله مساجدها وأبغض البلاد إلى الله أسواقها ” – رواه مسلم- . وذلك لما للمساكن من خصوصية ولما يتم فى المساجد من صلاة وذكر لله تعالى تعارض ما قد يتم فى الأسواق من خروج عن الفضائل الإسلامية من غش  أو عدم تراضي فى البيع والشراء ، ويقع الإسكان فىما بين المسجد والسوق حتى يؤدي  المسلمون الفرائض الخمسة فيه جماعة لما فى ذلك من فضل كبير ، قال – صلى الله عليه وسلم : ” صلاة أحدكم فى جماعة تزيد على صلاته فى سوقه بسبع  وعشرين درجة ” – رواه بخاري- . وقال  – عليه الصلاة والسلام : “من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له فى الجنة نزلاً كلما غدا أو راح” -رواه الشيخان- 
وينظم الإسلام حركة الإنسان المسلم فى الطريق بأن يلتزم  بالآداب والسلوكيات الحميدة الواردة فى حق الطريق وهى غض البصر والكف عن الأذى ورد السلام  والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو ما يستدعي تجنب وضع الأماكن التى تساعد على تكثيف الجلوس فى الطرقات.

     ووحدة الجوار فى تكاثرها تشكل الحي السكني الذي تطبق فيه المبادىء الإسلامية فى العمران والمعايير التخطيطية لمتطلبات المجتمع الإسلامي من خدمات رئيسية وفرعية ، وتنمو وحدات الجوار فى إطار النمو العضوي للحي كما تنمو الشجرة متكاملة بكل أغصانها أو كما ينمو الإنسان متكاملا بكل أعضائه وهذا ما تم شرحه تفصيلاً فى كتاب ( المنظور الإسلامي للتنمية العمرانية) للمؤلف الذي قام بشرح تلك النظرية بالتفصيل على الخبراء عند زيارته لمدينة “ملتون كينز” الجديدة عام 1989 ضمن زيارة عدد أخر من المدن الجديدة بانجلترا باحثاً عن الآليات التى تدفع التنمية العمرانية بما فى ذلك أسلوب اتخاذ القرار بعد أن ثبت أن المخططات العامة لا تتضمن المرونة الكافية لمواجهة التغيرات الاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية وهو ما أرادوا تنفيذه فى ” ملتون كينز ” وقد قابل الخبراء فى جهاز المدينة باهتمام بالغ العرض النظري الذي قدم إليهم وقرروا أنه فتح جديد فى التنمية العمرانية.
العمارة فى الإسلام:

  بداية لا بد من الإقرار بأن العمارة بمفهومها الشامل هى التنمية التى تسعى إلى  خدمة الفرد والمجتمع ويستجيب لمتطلباته السكنية و الإدارية و الخدمية و التجارية و التعليمية و الثقافية و الرياضية. وأن برامجها تتحدد على قدر حاجة الفرد والمجتمع وهى تنمو وتتطور مع مراحل نمو وتطور حاجاته وان ما ينفق عليها هو من مال الله الذي استخلف الإنسان فى إنفاقه. فلا بد من حسن توظيفه أو استثماره واستغلاله ويعني ذلك أن ما يدخل فى أعمال التنمية من مواد يجب أن يكون من عمل وإنتاج الإنسان المسلم الذي أمره الله بإتقانه ” فخير الناس من طال عمره وحسن عمله” – رواه الترمذي- . وكلما عظم الإنتاج وأحسن العمل زاد من قدرات المجتمع الإسلامي الاقتصادية وبالتالي من قوته الذاتية سواء فى إطار الدولة الواحدة أو فى إطار مجموع الدول الإسلامية مع ضغط الاستيراد من الدول غير الإسلامية بقدر الإمكان الأمر الذي ينعكس بالتالي على صناعة البناء المحلية وبالتالي على الإمكانات التصميمية للعمل المعماري بما فى ذلك محددات الابتكار والتشكيل.

كل هذه مضامين إسلامية يمكن تطبيقها فى كل مكان و زمان من العالم الإسلامي الواسع ويبقى بعد ذلك البحث عن الذات المحلية بما يتناسب مع القيم التراثية والبيئة المحلية والخلفية الحضارية والثقافية التى تتغير مع تغير المكان والزمان وتؤكد خصوصية المكان. والإسلام من تعاليمه أيضاً الأخذ بأسباب العلم المتقدم من أي مكان فى العالم حتى ولو كان فى الصين ولكن باختيار العلم النافع للفرد والمجتمع الإسلامي الأمر الذي يتطلب الدقة فى الاختيار بين ما قد يضر وما قد ينفع على المدى العاجل أو الآجل. وفى جميع الأحوال تكون التعاليم الإسلامية هى الموجه الأساسي للعملية التصميمية على أن تأخذ النظريات التشكيلية  فى العمارة المقام الثاني من الفكر وذلك حتى لا تطغى النظريات الغربية فى التشكيل على القيم الإسلامية كما طغت الكلمة الإنجليزية والفرنسية على اللغة العربية الجميلة سواء فى الحديث أو الكتابة و امتلأت بها الإعلانات عن الشركات والمحلات بعد أن فقدت القدرة على النطق أو الكتابة باللغة العربية – لغة القرآن الكريم – وبالتالي كان العجز عن التعبير وعن سمات الحضارة الإسلامية وخضع المسلمون للحضارة الغربية بسلبياتها قبل إيجابياتها .
إن جماليات العمارة تعكس جماليات الكلمة واللفظ شعراً  أو نثراً ، فبحور الشعر العربي يمكن أن تكون أساساً فى التنغيم المعماري، وسلاسة النثر بمفرداته اللفظية يمكن أن ينعكس بالتالي على سلاسة التعبير المعماري بمفرداته التشكيلية كما أن تحليل المقامات الموسيقية العربية يمكن أن تمثل سلماً للإيقاعات المعمارية إذا صح التعبير وهكذا نستطيع أن نغوص فى أعماق العلوم والآداب والفنون الإسلامية لنستخلص منها نظرياتنا المعمارية المعاصرة وحتى نستطيع أن نقف فى المناظرة مع ما يرد إلينا من الغرب من نظريات تشكيلية تعبر عن العضوية أو الوظيفية أو التعبيرية أو الكلاسيكية أو ما بعد الحداثة أو التفككية وغير ذلك من النظريات التى لا تسمو على النظرية الإسلامية بعمقها الإنساني شكلاً ومضموناً . وإذا كان البعض يؤمن بالعالمية والعولمة وأن العالم أصبح قرية واحدة بسبب ثورة الاتصالات فإنهم ينزلقون بمحض إرادتهم إلى أتون لا يعرفون مدى آثاره التخريبية على المدى البعيد قال تعالى: “ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ” – 48 المائدة 5- وقال تعالى : ” ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة “ – 128 هود 11- . وقال تعالى : ” ولو أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة و معارج عليها يظهرون ولبيوتهم أبواباً وسرراً عليها يتكئون وزخرفاً وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين “ – 33 الزخرف 43-.

      ومن الفلسفات المعمارية الدخيلة على الإسلام الاعتقاد عند بعض الصوفية بالرمزية فى عمارة التراث الإسلامي وإعطاء الأشكال رموزاً خاصة ما أنزل الله بها من سلطان مثل ما يقال عن أن المئذنة والشرفات تربط الأرض بالسماء أو ما يقال بأن التشكيلات الزخرفية اللانهائية التداخل ترمز إلى اللانهاية الكونية أو أن الوحدة الزخرفية ترمز إلى وحدانية الخالق أو أن شكل السهم الموجه إلى أعلا يرمز إلى الصعود والموجه إلى أسفل يرمز إلى الفناء ، وهكذا مما يتصوره البعض وينشره على الملأ المعماري وكأنها اكتشافات أكتشفها فى عمارة التراث الإسلامي وكما أفتى أحد أساتذة العمارة من المسلمين بأن الشكل المثمن فى التشكيل المعماري مستوحى من الآية الكريمة  ” والملك على أرجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية “ –17 الحاقة 69– وخلط بين عدد الملائكة التى تحمل العرش بالشكل المثمن الذي هو ناتج من التدرج الهندسي من المربع إلى الدائرة. ويقول آخر أن الرقم سبعة فى العمارة يعطيها صفة إسلامية استنباطاً من الآية الكريمة ” وبنينا فوقهم سبعاً شدادا ” -12 النبأ 78- كما يحاول منهم من يربط شكل الفناء الداخلي للمسكن الإسلامي بما فيه من شجيرات ونافورات بالوصف الخاص بجنة الخلد الذي لا يخطر على عقل بشر..وهكذا يكون التسطيح فى الفكر.

      لقد أصبحت عمارة التراث الإسلامي والمتعارف عليها بالعمارة الإسلامية هى المرجع ومصدر الإلهام عند بعض المعماريين لربط الأصالة بالمعاصرة وقد فرضت مفرداتها المعمارية على النسق المعماري لتحقيق هذه الغاية مثل استعمال المشربيات والعقود والقباب والملاقف الأمر الذي يحصر عمارة المسلمين فى هذه القوالب التقليدية مع أن هذه المفردات المعمارية هى إفرازات محليه لمواجهة عوامل مناخية أو أغراض إنشائية أو حرفية أو ثقافية لم يعد لها وجود فى الحياة المعاصرة بعد أن توصلت علوم البناء الحديثة إلى بدائل عنها يمكن إنتاجها محلياً وهم بذلك يحصرون الفكر المعماري فى الغالب الشكلي المستمد نصاً من التراث الذي ظهر بإبداعاته وابتكاراته فى فترات تاريخية محددة عرفت بالعصور الإسلامية وفى أقاليم  محددة تقع ما بين المشرق والمغرب العربي والإسلامي  وتناسينا فى خضم هذا الطرح لإشكالية العمارة فى الإسلام أن الإسلام لا يحده زمان أو يحصره مكان سواء كان هذا الإسلام فى الصين أو فى أفريقيا أو فى الصحراء إذ أن تعاليمه و قيمه ثابتة لا تتغير ولا تتبدل حتى يرث الله الأرض ومن عليها ولكن الشكل هو الذي يتغير بتغير المكان والزمان الأمر الذي يجعل من المضمون الفكري للعمارة فى الإسلام النظرية العالمية التى تستوعب الإقليمية و المحلية.

      فالإسلام يدعو إلى أعمال الفكر والعمل على الارتقاء بالمستوى المعيشي للإنسان فهو لا يحد من الإحسان و الابتكار ما دام فى صالح المسلمين وأقرب الأمثلة على ذلك ما قام به المعماري الألماني بودى راشي والذي أعلن إسلامه عام 1974 والذي قام  بتصميم مجمعات الخيام الجديدة فى منى فى المشاعر المقدسة وهى مكونة من خيام مقاومة للحريق ومزودة بوحدات تبريد تعمل على  التبخير كما أنها مزودة بمصادر للكهرباء والماء. وكان  قد صمم من قبل المظلات المتحركة فى الساحات الداخلية فى المسجد النبوى الشريف ، ففى مثل هذا العمل فرض عين على المعمارى المسلم أن يجد ويجتهد ويسخّر العلم لصالح المسلمين فى مجال العمران والعمارة ، كما يدعو الإسلام إلى إضفاء العنصر الجمالى فى المحيط العمراني الذى يعيش فيه الإنسان داخلياً وخارجياً. قال تعالى : “ قل من حرم زينة الله التى أخرج لعباده والطيبات من الرزق . قل هى للذين آمنوا فى الحياة الدنيا خالصةً يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون”  -32 الاعراف 7 – وقد ربط الله تعالى الزينة بالإيمان حتى لا تنقلب الزينة إلى إسفاف وإسراف وخيلاء قال تعالى : “ولا تمشى فى الأرض مرحاً إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا ” -37 الاسراء 17- وقال تعالى : ” ولا تصعر خدك للناس ولا تمشى فى الأرض مرحاً إن الله لا يحب كل مختال فخور ” – 18 نعمان 31 – وقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم- ” ان الله تعالى أوحى إلى أن تواضعوا حتى لايفخر أحد على أحد ” – رواه أبو داوود- . وهنا يجدر الفصل بين خصوصية الزخرف الذى لا يظهر للآخرين والزخرف الذى يظهر للآخرين من أفراد المجتمع وهو ما يكون بهدف الخيلاء أو التفاخر ، وفى حالة المعمار يكون الزخرف فى الداخل له خصوصيتة الفردية أما الزخرف فى الخارج فله حدوده التى تتفق عليها الجماعة. ويعنى ذلك أن التصميم الداخلى فى المعمار له خصوصيته الفردية التى تتناسب مع احتياجات أو إمكانات الفرد ، أما التصميم الخارجى فله خصوصيته الاجتماعية ، فهو مرتبط بالمجتمع اكثر منه بالفرد وهذا انعكاس لمبدأ الوسطية ما بين تطلعات الفرد وقيم المجتمع . الأمر الذى ينعكس بالتالى على العملية التصميمية والقدرة على  الإبداع والابتكار بمعنى ترك الحرية المطلقة فى الداخل وتحديد الحرية المقيدة فى الخارج وهذا ما يمكن أن تتميز به العمارة فى الإسلام عن غيرها من النظريات المعمارية الأخرى ، الأمر الذي يقلب كل الموازين الفكرية والفلسفية للنظرية الغربية التى يلقن بها المعمار المسلم فى أي مكان وهنا يبرز التساؤل عن كيفية وضع القواعد والمفردات المعمارية التى يتحرك المعمار المسلم فى إطارها وهو الأمر الذى يعالج فى إطار القوانين واللوائح المنظمة للبناء فى المناطق المختلفة من النسيج العمرانى فى المدن الإسلامية وهى التى تحدد الشروط الإنشائية والأمنية والصحية وكذلك الملامح والمفردات المعمارية التى تتناسب مع القطاعات العمرانية المختلفة فى البيئات العمرانية المختلفة فى الأمصار المختلفة وهو ما يمكن أن  يوضع فى شكل دلائل لأعمال البناء فى المدن الإسلامية كما وفرته بعض بلديات المدن التاريخية فى العالم العربي لإضفاء التجانس والتكامل المعمارى بين القديم والحديث ، الأمر الذي يمكن تطبيقه كذلك على كافة المناطق الحديثة لإضفاء التجانس والتكامل المعمارى بين القديم والحديث حتى ترجع للمدينة الإسلامية شخصيتها الحضارية وطابعها المميز والمعبر عن القيم الإسلامية والمتمثل فى الوسطية والتواضع والتجانس والبساطة والصراحة والصدق فى التعبير مع عدم  الإسراف أو المغالاة فى البناء حتى لا يفخر أحد على أحد كما جاء فى الحديث النبوى الشريف.

     وفى هذا المقام تبرز أهمية الإدارات المحلية والبلديات والمؤسسات ذات العلاقة فى وضع وإحكام تنفيذ هذه القيم  من خلال اللوائح التنظيمية أسوة بما تقوم به العديد من بلديات الدول المتقدمة تكنولوجياً وإدارياً ، وكما قال أحد علماء الدين بعد زيارته لمدينة باريس ” وجدت فيها الإسلام ولم أجد المسلمين ” ويقصد بذلك النظام والالتزام والنظافة التى هى من الإيمان .

       واذا كان قد ثبت بالبحث العلمى فى الغرب أن العمارات السكنية المرتفعة تسبب العديد من المشاكل الاجتماعية والأمنية والبيئية ، فقد سبق الإسلام فى التحذير من هذا  الارتفاع  فى البنيان . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم-: ” لا تقوم الساعة حتى يتطاول الناس فى البنيان ” ، وقال : ” وأن ترى الحفاة العراة العاله رعاء الشاه يتطاولون فى البنيان ” -رواه مسلم عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه – ، كما أشار الإسلام إلى ضرورة احترام الجار فيما يقام بجواره من بنيان إذ -قال صلى الله عليه وسلم -: ” ولا تستطال عليه بالبنيان فتحجب عنه الريح إلا بإذنه ” -رواه الخرائطى-، وهذه أساسيات إسلاميه فى علم تنظيم أعمال البناء سبق الإسلام بها العالم بحوالى ألف وأربعمائة عام من الزمان ، وقد بدأت الدول المتقدمة تفطن لهذه الحقائق وأخذت فى تعديل نظم البناء فيها بالنص على احترام الجار الجديد لحرمة الجار القديم فيما يبنى بجانب مسكنه ، ففى اليابان تنص اللوائح على عرض التصميمات على الجار أولًا لإبداء الرأى فيما يؤثر عليه أو يجرح خصوصيته وقد يصل الأمر الى حتى إبداء الرأى فى اللون الخارجي الذي قد يتعارض مع رأي الجار أو يؤذى بصره.. إلى هذا الحد يكون احترام الجار كما نصت عليه الأحاديث النبوية الشريفة قبل ألف وأربعمائة عام من الزمان ، هذا فى الوقت الذى تعمل فيه الدول الإسلامية بنظم البناء التى كان معمول بها فى الغرب من قبل دون أن تفطن إلى ضرورة احترام الجار ، وذلك ينم على أن المسلمين قد تركوا المرجعية الإسلامية الصحيحة ليبحثوا فى المرجعية الغربية ولا يحاولوا التطوير مع أن الغرب دائمى التطوير والتحسين وهذه من السلبيات التى تظهر فى المناهج البحثية والتعليمية فى علوم العمران فى الدول الإسلامية التى تركت مرجعية  الفكر الإسلامى وتعاليمه الواردة  فى القرآن والسنة ولم تقتدي حتى بقدرة الغرب على التطوير والإنجاز التى يتفوق بها على المسلمين .
من تجارب تطبيق المنهج الإسلامي فى التخطيط والتصميم:

       عندما شاء الله تعالى أن أكلف بتخطيط المنطقة حول المسجد الحرام من قبل شركة مكة للإنشاء والتعمير شعرت بالمسئولية الكبيرة التى ألقيت على عاتقي وكان ذلك منذ عام 1989م. وكنت قبل ذلك التاريخ بعشرين عاماً أعمل خبيراً للأمم المتحدة فى تخطيط الكويت وشاء الله أن أقوم بحج البيت الحرام لأول مرة. فجلست أتأمل المحيط العمراني الذي يلتف حول أطهر بقعة من بقاع العالم فوجدته لا يتناسب مع قدسية المكان وطهارته وموقعه من العالم الإسلامي. فدعوت ربي إذا ما كانت عندي القدرة وساعدتني الظروف أن أساهم  فى تطوير هذه المنطقة تقرباً إلى الله. وبعد ذلك بثلاثة أعوام شاء الله أن أعين كبيراً لخبراء الأمم المتحدة فى تخطيط المدن السعودية فكانت مكة المكرمة نصب عيني من أول لحظة هبطت فيها إلى المملكة العربية السعودية حيث استمر عملي فيها ست سنوات كنت أرجع خلالها لزيارة المدينة المقدسة أبحث عن الأسلوب الذي يمكن أن ننتهجه فى تخطيطها وهي بهذه التضاريس القاسية بجبالها وشعابها ، وكنت أشفق على من سيتولى تخطيط المنطقة المركزية بها حول المسجد الحرام إلى أن أراد الله لي أن أكلف بهذه المهمة الثقيلة فى مسئوليتها والعظيمة فى قدرها ومقدارها، فجمعت لهذا العمل كل ما أوتيت من قدرات واستنفرت له أكبر التخصصات فكانت جولاتنا المتعددة ودراساتنا المتعمقة فى المنطقة إلى أن وفقنا الله فى إعداد مخطط تفصيلي لمنطقة نصف قطرها 750م مركزها الكعبة المشرفة وقد تم إنجاز هذا العمل على أحسن وجه ممكن و عرضت نتائجه المصورة فى فيلم على خادم الحرمين الشريفىن الملك فهد بن عبد العزيز. وفى التخطيط المقترح كانت الكعبة المشرفة هى مركز الحركة تتجه نحوها كل الطرقات وتتوجه إليها كل القطاعات السكنية والخدمية وقد أخذ فى الاعتبار إحكام الفصل بين حركة المشاة وحركة السيارات فى جميع الاتجاهات الإشعاعية والدائرية حول الحرم الذي التف برواق دائري به ثمانية عشرة بابًا لدخول المصلين تاركاً مساحات كبيرة بين المسجد والرواق كرحاب للصلاة زيادة فى الطاقة الاستيعابية للمكان كما اهتم التخطيط الجديد بزيادة الطاقة الاستيعابية للمنطقة لتستوعب ثلاثة ملايين من حجاج البيت العتيق والمعتمرين والمترددين عليه حيث تتوفر لهم مساكنهم وخدماتهم الفندقية والصحية والأمنية والثقافية مع شبكات متكاملة من المرافق العامة والطرق ومرائب السيارات. وقد وضح من الدراسات التى تمت بهذا الشأن ان المسجد الحرام بعمارته المستطيلة الشكل داخل الرواق الدائري أصبح مثيراً للتأمل فيما لو كان دائرياً ، فحركة الطواف فيه دائرية وصفوف المصلين حول الكعبة المشرفة دائرية  الأمر الذي أوحى إلى أن أضع تصوراً معمارياً للمسجد الحرام دائري الشكل تقل فيه أعداد الأعمدة إلى أقصى حد ممكن باستعمال نظم الإنشاء الحديثة وذلك حتى تتسع رؤيا الكعبة المشرفة أمام المصلين. والتصميم المقترح للمسجد يتكون من ثلاثة طوابق كل طابق منها على شكل ثلاث مصاطب متدرجة مع تدرج خطوط رؤية الكعبة المشرفة وعند تقابل مناسيب المصاطب المختلفة توضع مسارات تكييف الهواء التى تغذي كافة أرجاء المكان، ولم يغفل التصميم المقترح وضع الملامح المعمارية للبوابات والمآذن الحالية فى التصميم الجديد حرصا على إستمرارية الطابع المميز لهذا المكان الطاهر ، ولما كان الرواق التركي المستطيل الشكل حول الساحة الداخلية للمسجد يعوق هذا التوجه الدائري فى التصميم فكان لابد من إغفاله وإزالته  فى التصميم حيث أن الموقف لا يتحمل الحفاظ على التراث التاريخي ما دام لا يساعد على التشكيل الدائري، إذ أن هذا الرواق التركي قد تسبب من قبل عند تشكيل التوسعات  الجديدة التى أقيمت حوله فى أن نتج عنه عددا من الأركان المنكسرة والأعمدة المتداخلة التى تعوق رؤية الكعبة المشرفة. وهكذا كان المنهج الإسلامي هو الوحيد الموجه للفكر التخطيطي والتصميم المعماري دون النظر لأي اعتبارات أخرى تقف حجر عثرة فى سبيل تحقيقه خاصة فى هذا المكان البالغ الأهمية والقدسية عند المسلمين.

       وبنفس التوجه الإسلامي وضعنا التصميم المعماري لمسجد الزهراء بجامعة الأزهر فى مدينة نصر (عام 1995) وكان الهدف من التصميم هو استثمار المبنى فى تأدية الأغراض التى وضعت له بحيث يجعله يستوعب الأعداد الكبيرة من المصلين فى يوم الجمعة كما يستوعب الأعداد الأقل فى الأيام الأخرى مع تحويل الفراغات الناتجة عن هذا التغير إلى فصول دراسية يتم الفصل بينها بواسطة أبواب منزلقة وتخرج فيها مقاعد الدرس من الأرض. فكانت أول تجربة تطبق بهذا الأسلوب وهذا المنطق لأول مسجد فى العالم . كل ذلك مع بساطة فى التصميم والتجرد من أي زخرف إلا فيما ندر فكان نموذجا لما يجب أن يكون عليه المسجد المتعدد الأغراض الدينية والثقافية والاجتماعية والإدارية. وبنفس التوجه الإسلامي شاركت فى مسابقة لتصميم المسجد الكبير – مسجد الدولة – فى بغداد (عام 1989) حيث استخدمنا أحدث الأساليب الإنشائية باستعمال الكابلات فى تغطية بيت الصلاة بعرض 60م وطول 130م دون أي أعمدة . فخرج التصميم خالياً من المفردات المعمارية التقليدية المتمثلة فى الأعمدة والعقود والقباب بأشكالها وأحجامها المختلفة وإن كان التصميم قد أضفى على المسجد فى صورته الحديثة الملامح الخارجية للعمارة البغدادية والعراقية معا.

     وفى أول محاولة لتطبيق المنهج الإسلامي فى التصميم المعماري قمنا بتصميم وبناء مسكن خاص  تعلوه وحدات سكنية أخرى لأبنائي فى ضاحية مصر الجديدة حيث حاولنا فيه توفير الخصوصية الكاملة وإستغلال المكان بأكبر قدر ممكن وحساب مسطحات عناصره لتكون على قدر الاستعمال دون مغالاة أو إسراف كل ذلك مع التحكم فى التكاليف حتى لا تزيد فى متوسطها عن تكاليف الإسكان المتوسط القائم فى الحى. فقد تم استعمال مواد البناء المتاحة وتشغيل العمالة الفنية المتوفرة مع الالتزام بقواعد ولوائح البناء السائدة فى المنطقة، كل ذلك مع مراعاة توجيه العناصر فيه إلى الداخل مراعاةً للظروف البيئية والمناخية السائدة بالإضافة إلى إضفاء بعض الملامح التراثية للعمارة القاهرية فى صورة مبسطة تتناسب مع الإمكانات الحرفية العادية وهو الأمر الذي استمر تطبيقه فى التصميم الداخلي والأثاث دون تقتير أو إسراف ، فكان كل شيء موضوع بقدر حيث كنت أسترجع القيم والتعاليم الإسلامية عند تناول الكليات و الجزئيات فى كل خطوات التصميم والتشييد. ولهذا المبنى قصة تروى.

     وفى إطار المنهج الإسلامي والمعطيات التراثية للمدينة الإسلامية وضعنا التصور الابتدائي لمدينة العرفان الجامعية الإسلامية بمسقط  وكان مركزها هو الجامع الكبير الذي وضع فى مكان القلب من الإنسان تمتد منه من جهة القصبة الرئيسية للمدينة يتفرع منها مجموعات من القصبات الصغيرة التى تمثل وحدة الجوار وتمتد القصبة الرئيسية تدريجياً حتى المنطقة الرياضية وتمتد منه من الجهة الأخرى مجموعات الكليات الإسلامية المكونة من مجموعة من الوحدات الدراسية الملتفة حول أفنية داخلية تتكون منها الكليات المختلفة ، وقد روعى فى التخطيط الفصل التام بين حركة المرور الآلي وحركة المشاة على طول القصبة الرئيسية وفروعها . وهكذا أمكن توفير المتطلبات المعاصرة فى الصياغة التقليدية للمدينة الإسلامية .

     وفى محاولات معمارية أخرى تم تصميم المبنى الإداري لمشروع الأمم المتحدة للتخطيط العمراني بالرياض وكذلك مقر الممثل المقيم للأمم المتحدة بنفس المدينة عام 1979 حيث قمت بوضع التصميم الابتدائي الذي تولاه المهندس السعودي الشاب علي الشعيبي بعد ذلك فوضع تصميماته التنفيذية وأشرف على بنائه  ، واستمرت التجارب فى تطبيق المنهج الإسلامي فى العمارة والعمران فى عدد من المشروعات الأخرى فى مصر والمملكة العربية السعودية واليمن الكويت وليبيا وقد أخضعت جميعها للنقد والتقويم بهدف الاستفادة من نتائجها فى تطوير الفكر وإثرائه.

قصة مبنى:
القصة الأولى: بدأت بالمقال الذي نشرته فى أحد الصحف اليومية بالقاهرة عام 1963 تحت عنوان ( محاولة الكشف عن الفلسفة التى تختفى وراء عمارتنا الحديثة) .. داعياً إلى ربط الأصالة بالمعاصرة .. فكان رد الفعل عند بعض أساتذة العمارة فى مصر بأن فى ذلك نوع من التخلف والعودة الى نظام الحرملك والسلاملك والبناء بالحجر . فحاولت شرح مضمون المقال بخلاف ذلك و أنني أحاول البحث عن الصيغة المعمارية التى توظف فيها طرق البناء الحديثة للتعبير عن الملامح المعمارية التراثية . وشاءت الظروف أن امتلكت قطعة أرض مساحتها 430م2 تطل على نادي هليوبوليس فى مصر الجديدة بالقاهرة وبدأت التفكير فى تصميم مبنى يحتوي على سكن خاص لي مع عدد من الوحدات السكنية الأخرى.. وبدأت المحاولات بالعديد من المشروعات الابتدائية التى كانت تصل إلى الرسومات التنفيذية فى بعض الأحيان و أعيد الكرة مرة أخرى واستمرت هذه المحاولات عاماً كاملاً ( 1964) أقلب فيها جميع وجهات النظر بالتصميم ثم التحليل ثم النقد الذاتي. وكنت فى ذلك الوقت متأثراً بعمارة رفعت الجادرجي بعد أن دعاني للإطلاع على أعماله فى بغداد عام 1964. ونظراً لعدم توفر السيولة المالية للبناء على كامل مساحة الأرض فضلت أن أبدأ بالبناء عام 1965 على نصف المساحة وأرتفع به تدريجياً وأستغل النصف الآخر حديقة للسكن الخاص . وكان مرجعي  فى العملية التصميمية بيت الكريتليه بجوار مسجد أحمد بن طولون بالقاهرة فكانت الزيارات المتتالية إلى هذا البيت كلما توقفت أمام أحد التفاصيل المعمارية ليس لمحاولة النقل المباشر للقديم ولكن بالاقتباس بالقياس مع اختلاف مواد وطرق الإنشاء وكنت أراجع زملائي فى الجامعة كلما وقفت أما خيارين . فإذا أشير الى اختيار بديل ما أخذت البديل الأخر . وقد طبقت البناء من الخرسانة المسلحة الظاهرة فى الواجهات مع استعمال الطوب الرملي فى الحوائط والخشب بلونه الطبيعي فى النوافذ والفتحات . وانتهى البناء عام 1967 قبل قيامي بالعمل خبيراً للأمم المتحدة فى التخطيط العمراني بالكويت عام 1968. وعندما عزمت على إنشاء مركز الدراسات التخطيطية والمعمارية خلال السنة الأخيرة من عملي كبيراً لخبراء الأمم المتحدة بالسعودية عام 1979 بحثت عن موقع لقطعة أرض لبناء المركز عليها وكان العامل المالي حاكماً فى هذا الإختيار مع مناسبه الموقع لذلك . وكنت فى هذه الفترة أضيف ثلاثة أدوار أخرى أعلى المبنى القائم. فاقترح على المقاول أن استغل موقع الحديقة القائمة على أكثر من نصف الأرض لبناء المركز فرفضت فى بداية الأمر ثم راودتني فكرة إقامة المبنى الجديد على أعمدة بالارتفاع دورين بحيث يبقى فراغ الحديقة ومساحتها متوفرة أمام الفيلا ( السكن الخاص) التى هى من دورين مع تغيير تنسيق هذه المساحة، وفى الحال أصدرت تعليماتي إلى المقاول على قطعة من الورق توضح التماثل والتكامل بين المبنى القائم والمبنى المستجد تاركاً فناءً سماوياً يجمع المبنى الجديد والمبنى القائم وما يعلو عليه من أدوار حتى صار الارتفاع الكلي للمبنيين ستة أدوار ، وتغيرت كتلة البناء وإن كانت تحتفظ بطابعها المعماري الأول.

وبعد زلزال 1992  وجد الإنشائيون ضرورة إحاطة الأعمدة الطويلة بأحزمة من الخرسانة المسلحة وتربطهم كمرات رابطة. وفى عام 1997 تم عمل اللازم وتغيرت بعض الملامح المعمارية للمبنى المجمع مع الاحتفاظ بالطابع العام . ونذكر بهذه المناسبة أن المبنى رشحته السيدة ليلى إبراهيم ( والدة الدكتور إسماعيل سراج الدين ) لجائزة الأغاخان للعمارة الإسلامية عام 1983وتم اختياره فى القائمة الأولى وأعد تقرير فني عنه ولكنه لم يحظى بأغلبية الأصوات المؤيدة فى لجنة التحكيم وكان منهم المعماري رفعت الجادرجي الذي نقل إلى هذه الصورة . وقد كانت الرسالة التى يقدمها هذا المبنى أنه يمثل عينة للمعالجة المعمارية التى يمكن أن تطبق على العمارات التى تمثل 80% من عمران المدينة فى ظل ظروف العمالة المتوفرة ومتوسط أسعار البناء السائدة وتحت نفس نظم البناء القائمة اقتناعاً بأن عمارة المدينة هى من العمارات التى تبنى فيها وليس المباني الأخرى. لقد زار المهندس حسن فتحي المبنى والمنزل أكثر من مرة كما حاضر فى عدد من الدورات التدريبية التى كان ينظمها المركز وإذا كان الإنتاج المعماري لحسن فتحي قد اقتصر على المباني ذات الطابع الريفى فإن مبنى المركز يمثل عمارة الحضر المتعددة الأدوار .

القصة الثانية تخص مشروع جامع الدولة الكبير الذي كانت حكومة العراق تزعم إقامته ليسع ثلاثين ألف مصل مع ملحقاته فى منطقة واسعة على أطراف بغداد. وقد نظمت لهذا المشروع الكبير مسابقة معمارية دولية اشترك فيها سبع مكاتب عالمية وتكونت لذلك لجنة تحكيم برياسة رفعت الجادرجي وتم تحكيم المسابقة فى موعدها. ولكن رئيس الدولة فى العراق رأى أن يجمع مجموعة من كبار المفكرين الإسلاميين من مختلف التخصصات لمراجعة نتيجة المسابقة وكنت أحد أعضاء هذه المجموعة كمعماري مهتم بإحياء التراث . وتم عرض المشروعات المقدمة للمسابقة فى أحد قاعات المجلس التشريعي الذي كانت تدور فيه مناقشات مجموعة المفكرين. وقبل بدء الجلسة الأولى لهذه المجموعة طلب مني م. استيفاني بيانكا وهو  أحد أعضاء لجنة التحكيم الدولية أن القي نظرة على المشاريع قبل الجلسة وكان أمامنا خمس دقائق فقط. فدخلت قاعة المشروعات واستعرضتها سريعاً وأشرت على أحدها بأنه يؤهل للجائزة الأولى من وجهة نظري.. وكانت وجهة نظري أنه أحسن المشروعات المقدمة من حيث النسب المعمارية والتعبير المعماري لعمارة بغداد. وقد تعجب عضو لجنة التحكيم الذي صاحبني لأن المشروع الذي اخترته هو فعلاً الذي حاز على الجائزة الأولى.. وهو المشروع المقدم من المهندس راسم بدران من الأردن. وخلال اجتماعات مجموعة المفكرين طلب مني رئيس الجلسة م. هشام المدفعي أن أبدي رأيي فى المسابقة فكان لابد وأن أبدي برأيى ولو كان سيغضب بعض المشاركين فى المسابقة. فقلت أن المتسابقين استعملوا المفردات المعمارية التراثية بصيغ مختلفة ولم يقدموا الجديد الذي يجمع بين ملامح عمارة الماضي وتكنولوجيا البناء المعاصر الذي يسمح بإلغاء الأعمدة التى تقطع الصفوف كما يساعد على رؤية الخطيب والمحراب. وكما ابتكر الأولون الملوية فى سامراء فيمكن ابتكار المعمار الذي يمثل القرن الواحد والعشرين دون أن يفقد المبنى ملامحه التراثية التى تميز العمارة العراقية بصفة عامة وعمارة بغداد بصفة خاصة . وجرت مناقشات جانبية تعليقاً على هذا الرأي مع دكتور محمد مكيه و دكتور إحسان فتحي و غيرهما عن كيف يتسنى لي أن أقول ذلك وأنا أدعو إلى إحياء التراث المعماري وتعرضت فى المناقشات الجانبية إلى المضامين الإسلامية فى أسس تصميم المساجد من الناحية العقائدية. وقد استمع رئيس الدولة لمداخلتي وعلق على المسابقة بنفس ونص الرأي الذي طرحته وقرر إلغاء المسابقة وطرحها من جديد بمنطق جديد خلال عامين فطلبت من المسئولين إتاحة الفرصة لي للاشتراك فى هذه المسابقة الجديدة حتى يمكن أن أقدم ما أراه مناسباً لهذا الصرح الإسلامي الكبير . وكانت فكرة المشروع الذي تقدمت به من أنه يمكن تغطية بيت الصلاة ( 130م   60 مبغطائين يحملهما كابلات تشدهما مئذنتين على جانبي المحراب دون الحاجة إلى أي أعمدة وسط بيت الصلاة. وفى الأروقة الخارجية التى تحيط بالفناء الداخلي للجامع حاولنا استعمال شكل العقد المقلوب حتى ينتفى استعمال العقود فى هذه الأروقة.. وهكذا أخذ تصميم الجامع طابعاً معمارياً يعكس عمارة القرن الواحد والعشرين مع الحفاظ على بعض الملامح التراثية فى تشكيلات الطابوق الخارجية والداخلية و الإقلال من  الزخارف الداخلية تأكيداً  لروحانية المكان واتساع الفراغ الداخلي وارتفاعه. ويتضمن المشروع العناصر الملحقة بالجامع وهى قاعة للمحاضرات ومكتبة ومنزل الإمام والمؤذن داخل نصف دائرة يحيطها سور بنفس ملامح الحائط الخارجي للجامع. وتقدمنا بالمشروع عام 1989وما لبث أن قامت حرب الخليج ولا نعلم أي شيء بعد ذلك عن المشروع ومصير المسابقة.

القصة الثالثة عن مسجد الزهراء بأرض جامعة الأزهر بمدينة نصر بالقاهرة. والذي تبرع ببنائه الشيخ صالح كامل أحد رجال الأعمال السعوديين وكانت رغبة المالك فى بناء مسجد يمكن استعمال أجزاء منه فصولاً دراسية لكلية الدعوة الإسلامية على غرار ما أقيم فى بعض المساجد فى الشرق الأقصى من عمل حفرة طولية فى أرضية المسجد لجلوس الطالب على حافتها ورجليه فى الحفرة الطولية التى يمكن تغطيتها أثناء صلاة الجمعة. كما كانت رغبة المالك توفير مساحة كافية للإدارة ومكتبة ومطبخ وفناء داخلي وتنسيق خارجي لتوفير الحيوية لمؤسسة المسجد. وتم وضع التصميم المناسب لتحقيق هذه الأهداف وكان أن قمنا بتصميم الكراسي التى تحمل أذرعاً للكتابة يمكن تطبيقها فى أرضية الأروقة المخصصة لذلك فى المسجد حتى يمكن إعداد كامل سطح المسجد لاستقبال المصلين أيام الجمعة ويمكن فرد الكراسي بعد ذلك لاستعمالها فى الأيام الأخرى  للدراسة. وتم تصنيع هذه الكراسي من الصوف الزجاجي فى المصانع الحربية  ويعني ذلك حسن  استثمار الأموال المدفوعة فى أعمال البناء – وهى من مال الله – أحسن استثمار ممكن بخلاف ما يتم فى التصميم التقليدي للمساجد التى تتسع لاستقبال المصلين أيام الجمع وتبقى نصف مستغلة فى باقي أيام الأسبوع.ويعني ذلك أن مال الله الذي استخلفنا فيه لابد من حسن استثماره. لذلك فإن دراسة الجدوى الاقتصادية لما قبل الاستثمار تعتبر من العوامل الرئيسية لحسن الاستثمار كما أن الإدارة المنظمة للمشروعات تعتبر عاملاً  هاماً لحسن التنفيذ وهى كلها عوامل تتفق مع العقيدة الإسلامية مادامت النتيجة تعود بالفائدة على المجتمع الإسلامي.
لقد روعى فى تصميم المسجد استخدام أحدث طرق الإنشاء الحديثة لتغطية أكبر مساحة ممكنة دون الحاجة إلى أعمدة داخلية كما تم استخدام المواد التى تعطي المسجد السمو الروحي مع البساطة والتواضع فى الداخل والخارج دون إدخال الزخارف المعروفة بالإسلامية كما فى المساجد القديمة والتى فيها كثير من الإسراف فى الإنفاق وإلهاء المصلين بكثرة الزخارف الداخلية. وقد تأثر تصميم  مدخل المسجد بتصميم مداخل المدارس التاريخية فى مدن طشقند و سمرقند وبخارى التى زرتها عام 1992 بدعوة من معماريها.

دور المسجد فى بناء العمران:

     المفهوم بالبناء العمراني هنا هو الالتحام العضوي بين المجتمع والبيئة المبنية بين البشر والحجر حيث لا يمكن الفصل بينهما فى عمليات التنمية والتعمير . فقد اعتمدت النظرية الغربية فى التخطيط العمراني على تحديد استعمالات الأراضي سواء أكانت سكنية أو تجارية أو إدارية أو ترفيهية أو خدمية مع الربط بينها بشبكة من الطرق المتدرجة الاتساعات تبعا لما هو متوقع من كثافات مرورية مرتبطة بما هو متوقع من كثافات سكانية تتم فى ما هو متوقع من مراحل تنفيذية ويعني ذلك أن المخططات العمرانية للتجمعات الجديدة بهذا المنطق تبنى على أساس ما يتوقعه المخطط على مدى طويل من الزمن يبلغ عادة عشرين عاما.. وتترك عمليات التعمير بعد ذلك للظروف الاقتصادية والاجتماعية والبيئية المتغيرة التى كثيرا ما تغير وتعدل فى الخطط المرسومة مداً أو جزراً حيث أغفلت النظرية أن العمران بشقيه الاجتماعي والبنائي هو كيان عضوي يغرس وينبت وينمو ويثمر فى ظل المؤثرات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية التى تؤثر عليه الأمر الذي يتطلب توفير الآليات التى تعتني بهذا الغرس الجديد ويقوم عليه على مدى مراحل نموه المختلفة وهذه الآليات بالتالي تعتني بشقي العمران وهما المجتمع الجديد والبناء الجديد وإذا كان البناء يتولاه المتخصصون فى مختلف علوم البناء فإن بناء المجتمع الإسلامي تتولاه مؤسسة المسجد . من هنا يتحدد دور مؤسسة المسجد فى بناء العمران ليس فقط كمكان للعبادة والصلاة ولكن أيضا كمركز للتنظيم الاجتماعي والثقافى والإداري للمجتمع حيث تتم فيه اللقاءات والفعاليات والأنشطة التى توطد أواصر الجوار وتحافظ على البيئة المعمارية جمالياً وصحياً .

     وهكذا يصبح المسجد وملحقاته بمثابة مركز التنمية الاجتماعية والتعمير العمراني سواء كان ذلك على مستوى وحدة الجوار أو مضاعفاتها التى تتمثل فى الحي . وبهذا المفهوم يصبح مركز التنمية والتعمير والمسجد جزء من النسيج العضوي لوحدة الجوار أو الحي وملتحماً بعناصرها المختلفة ولا يخرج عنها كما يتم من اختيارات لمواقع المساجد عند تقاطعات الطرق أو على الروابي العالية أو فى المواقع المتميزة لتخلد بانيها. وبهذا المنهج تأخذ عمارة المسجد ملامحها المعمارية النابعة من بيئة المكان والملتزمة بأسس التصميم النابعة من التعاليم الإسلامية كما وردت فى الأحاديث النبوية الشريفة وهنا يكون  المجال واسعاً للإبداعات التشكيلية وتطبيق أحدث ما توصلت إليه تكنولوجيا البناء المتوافقة من نتائج ، ولكن فى حدود المعطيات الشرعية والاعتبارات الثقافية والحضارية والذاتية للمكان.

     فهناك إجماع بأن المسقط المستطيل لظله القبلة أو بيت الصلاة هو الأنسب بحيث يكون الضلع الأكبر منه فى مواجهة القبلة وذك للحفاظ على فضل الصفوف الأولى. فعن جابر بن سمرة رضي الله عنهما – قال: خرج علينا رسول الله – صلى الله عليه وسلم -فقال: ” ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها، فقلنا يا رسول الله وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: يتمون الصفوف الأولى ويتراصون فى الصف ” – رواه مسلم- . وعن أبي هريرة – رضي الله عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم – قال: ” لو يعلم الناس ما فى النداء والصف ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا عليه” -متفق عليه – وقال عليه السلام : ” أتموا الصف المقدم ثم الذي يليه فما كان من نقص فليكن فى الصف المؤخر” -رواه أبو داوود بإسناد حسن-. وقال عليه الصلاة و السلام : ” خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها “ وفى ذلك تحديد لمصلى السيدات بالنسبة لمصلى الرجال – وبالنسبة لدورات المياه وأماكن الضوء فإنه من الأفضل فصلها خاصة وأن المسجد ملتحم بالنسيج العمراني للمجتمع والأفضل الوضوء فى المسكن قبل الذهاب إلى المسجد – لقوله صلى الله عليه وسلم – ” من تطهر فى بيته ثم مضى إلى بيت من بيوت الله ليقضي فريضة من فرائض الله كانت خطواته إحداها تحط خطيئة والأخرى ترفع درجة ” – رواه مسلم– وفى ضوء الإمكانات الإنشائية المعاصرة فإنه من الأفضل استخدام النظام  الإنشائي الذي يسمح بتغطية بيت الصلاة بدون استخدام الأعمدة التى تقطع الصفوف وتؤدي إلى عدم رؤية الخطيب فى سهولة ويسر . قال عليه الصلاة والسلام : ” أقيموا الصفوف وحاذوا المناكب وسدوا الخلل ولينوا بأيدي إخوانكم ولا تذروا فرجات الشيطان ومن وصل صفا وصله الله ومن قطع صفا قطعه الله” – رواه أبو داوود بإسناد صحيح – ويتم كل ذلك مع الحرص على عدم الإسراف أو التقتير فى تكاليف نظم الإنشاء ومواد البناء- فخير الأمور أوسطها مع العلم بأن المال الذي ينفق فى بناء المساجد هو مال الله وتجب المراعاة فى إنفاقه كما يجب الإقلال بقدر الإمكان من الزخارف داخل المساجد خاصة ما تدخلها الألوان الكثيرة وإن كان من منطق العامة من الناس تجميل بيوت الله  وزخرفتها من الداخل والخارج وهذا ما يتعارض مع الأحاديث النبوية الشريفة فعندما ذكرت أم حبيبة وأم سلمة عن كنيسة رأتاها بالحبشة فيها تصاوير فذكرتاها للنبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: ” أن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور فأولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة “. وقال عليه الصلاة والسلام : ” ما أمرت بتشييد المساجد” . وقال ابن عباس عقب هذا الحديث : ” لزخرفتها كما زخرفت اليهود والنصارى” – رواه أبو داوود – وهذا القول عن ابن عباس إما أن يكون تلقاه لفظاً ومعنى من النبي – صلى الله عليه وسلم – وإما أن يكون ابن عباس قد أخذه من أحاديث أخرى. وفى هذا الصدد قال عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – لما وسع المسجد النبوي للبناء ” أكن الناس من الحر والقر ولاتحمر ولا تصفر ” – رواه البخاري- وهكذا كان البناء للغاية من بيوت الله وبقدر ما تؤديه من وظيفة وإلا صدق فينا قوله – صلى الله عليه وسلم : ” إذا زخرفتم مساجدكم وحليتم مصاحفكم فالدمار لكم “– كما فى -صحيح الجامع الصغير للألباني – وذلك حرصاً على إضفاء البساطة والهدوء واستجماع المشاعر عند الوقوف للصلاة ، وبنفس الغاية  يجب فرش المساجد بالفرش البسيط الذي لا تكثر فيه الألوان والأشكال التى قد تلهي المصلين – فقد جاء فى الصحيح أن النبي – صلى الله عليه وسلم – صلى يوما ما وعليه قميص ” ثوب فيه أعلام ” فقال بعد صلاته : ” خذوا قميصي هذا وأتوني بأنيجانم أبي جهم فإنها ألهتني – وفى رواية أخرى كادت أن تلهني” كل ذلك فى سبيل المحافظة على ربط قلب المصلي بربه والابتعاد عن كل ما يشغله عن صلاته – فلم تعد عمارة المساجد للتباهي والتفاخر بفعل الخير – قال أنس:
 يتباهون بها ثم لا يعمرونها إلا قليلا . من هذه المبادىء تتحدد الأسس الشرعية فى عمارة المساجد وللمصمم بعد ذلك أن يجتهد فى الإبداع فى تشكيل الفراغ  والابتكار فى إطار هذه الأسس المعمارية والعمرانية باعتبار أن المسجد وملحقاته هو مركز للعبادة والتنمية الاجتماعية والإدارية الدافعة لأعمال البناء الاجتماعي والعمراني معاً.

 كثيراً ما يتردد الجدل حول وضع كل من المحراب والمنبر الذي يقطع الصفوف الأولى للمصلين وهل لهما أصول فى الفكر الإسلامي أم هما من تأثير ثقافات أخرى، فلقد استقر شكل المحراب فى تصميم المسجد وإن كان قد أخذ كثيراً من الزخارف الهندسية التى تميزه عن شاكلته فى الثقافات الأخرى، وكذلك ارتفعت المآذن بعد صدر الإسلام لإسماع الآذان لأوسع دائرة سكانية الأمر الذي استبدل حديثا بمكبرات الصوت ذات دوائر الإسماع الأكبر وبدأ الخلاف على شدة الصوت المنبعث منها خاصة خلال الليل وفى الفجر بصفة خاصة الأمر الذي يتطلب الرجوع إلى أن خير الأمور أوسطها ، ومع ذلك استمرت المئذنة علامة لوجود المسجد وإن كان ارتفاعها يختلف من مكان لآخر تبعا لحجم المسجد وقد زاد هذا الارتفاع فى بعض الحالات إلى درجة كبيرة أفقد المئذنة وظيفتها الإعلامية ودخلت فى حيز التفاخر الذي لا يتناسب مع قدسية المكان  ، وقد أخذت المآذن أشكالها من البيئة التراثية للمكان كما اختفت أشكالها فى كثير مناطق من العالم الإسلامي ولم يبق غير ما يشبه القبة التى يعتبرها البعض رمزاً  للمسجد مع أنها ظهرت فى بعض المناطق من العالم الإسلامي واختفت فى غيرها، فقد بدأ إنشاء القبة بهدف تغطية مساحة كبيرة من الفراغ الداخلي الأمر الذي لم يعد له ما يبرره مع وجود النظم الإنشائية الحديثة التى تقوم بهذه المهمة الأمر الذي ظهر فى العديد من المساجد الحديثة ومع كل ذلك فإن مبدأ الوسطية لا بد وأن يحكم العملية التصميمية سواء فى الارتفاعات أو فى التكاليف أو فى التزيين والزخرف مع الاجتهاد فى استعمال الفراغ المعماري فى أكثر من غرض كلما أمكن ذلك لزيادة الاستفادة من تكاليف الإنشاء. وفى التشكيل المعماري تعطى كتلة المسجد مع العناصر المختلفة لملحقاته مجالاً للإبداع فى تصميم الفراغ الذي يتناسب مع بيئة المكان ثقافىاً وتراثياً ومناخياً الأمر الذي يؤكد ثبات الأسس والقيم التصميمية مع تغير الشكل بتغير المكان والزمان فى العمران الإسلامي. 

المسكن فى الإسلام :

     أشتقت كلمة المسكن من فعل سكن والسكون هو الهدوء والسكينة والطمأنينة والأمان وقد حدد القرآن الكريم الوظيفة العامة للبيت – قال تعالى: ” والله جعل لكم من بيوتكم سكنا ” – 80 النحل 16- وتعني السكينة هنا أيضا الوقاية من الضوضاء وعزل الحرارة والبرودة مع توفىر الراحة النفسية والاجتماعية والتمتع بالخصوصية كل ذلك فى إطار منهج الوسطية فى البناء والأثاث الذي هو مكون أساسي فى تصميم الوحدة السكنية. وللوحدة السكنية حرمتها فمن الأدب عدم دخول البيت إلا بإذن أصحابه . قال تعالى:” يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون. فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعملون عليم” – 27-28 النور 24-. ويعني ذلك احترام حرمة المسكن وحرمة ساكنيه الأمر الذي ينعكس بالتالي على التصميم الداخلي الذي يتم فى نطاقه فصل غرف استقبال من هم من غير أهل البيت عن باقي غرف المسكن وبالتالي تصبح غرف المعيشة العائلية مرتبطة أكثر باستعمال أهل البيت ومن هم من محارمهم وذلك خلافا للمعايير الغربية التى يختلط فيها الغريب بالقريب من الرجال والنساء الأمر الذي ينعكس على تصميم المسكن الغربي الذي انتقل نمطه الى المجتمع الإسلامي كما انتقلت إليه أنماط الملابس والعادات والتقاليد والفنون ففقدت الأسرة خصوصيتها الاجتماعية وتقاليدها الإسلامية وهنا تجدر الإشارة الى أسس تنظيم أمكنة النوم داخل المسكن سواء بالنسبة لرب الأسرة أو الفصل بين الأبناء من البنات والأولاد عند بلوغ سن الحلم- قال- عليه الصلاة والسلام : ” علموا أبناءكم الصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم فى المضاجع “، وللصلاة هنا أهميتها فى بناء الأسرة فمكانها واجب فى المسكن للجماعة.

    لقد ارتبط الطابع الإسلامي فى العمارة السكنية عند العامة من الناس بمفردات معمارية مثل المشربية والعقد والخرجات وإذا كانت هذه المفردات قد ظهرت فى العمارة السكنية فى بعض الدول الإسلامية لظروف مناخية وثقافىة واجتماعية خاصة فى المشرق العربي إلا أنها لم تظهر فى دول أخرى من العالم الإسلامي وإذا كان الهدف من المشربية مثلا هو توفير الخصوصية للداخل ومعالجة بعض الظروف المناخية فإن الفكر المعماري لم يصعب عليه  توفىر المفردات المعمارية الحديثة التى تؤدي الغرض من توفير الخصوصية والتى تتواءم مع البيئات المختلفة فى أرجاء العالم سواء فى دول الشمال أو الجنوب أو فى دول الشرق أو الغرب.

     والمسكن إما أن يكون مفرداً  أو جزءاً  من مجموعة سكنية فى وحدة الجوار ، وهنا يصبح التوجه إلى الداخل عاملاً هاماً  فى توفير الخصوصية للمسكن المفرد بالإضافة إلى الهدوء والعزل الصوتي والحراري عن الخارج حتى لو اختلفت البيئات وهذا يؤدي بالضرورة إلى توفير المساحات المفتوحة فى شكل الفناء الداخلي مع التصاق الجدران الخارجية والتحامها فى المنظومة العمرانية للمجموعة السكنية وهنا يستطيع المعمار المسلم أن يبدع فى تشكيلاته الفراغية وفى استعمال مفرداته المعمارية بكل الحرية مع الالتزام بالمبادىء والأسس التصميمية للسكن ، وفى حالة تجميع الوحدات السكنية يستحسن عدم زيادة الوحدات التى تستعمل وسائل الاتصال الرأسي عن ثلاثة فى كل دور من الأدوار الأربعة مع توفير الخصوصية الكاملة لكل وحدة فى الداخل والخارج وفى حالة وجود مصعد كهربائي يستحسن أن يكون مزججاً بالبلور حتى يرى من الخارج ، ويمكن تجميع عدد من العمارات فى مجموعات سكنية تشكل فى مجموعها وحدة الجوار بكل عناصرها الدينية والاجتماعية والثقافية والإدارية.

     وإذا كان للسكن مقوماته الاجتماعية الإسلامية الثابتة والتى تنعكس على توزيع عناصره الداخلية فهو أيضا له مقوماته الاقتصادية المتغيرة التى تتناسب مع مستويات الدخل المختلفة فإذا كانت العناصر الداخلية تتغير تبعاً للقدرات المادية لشاغلها دون أن يتأثر بها باقي أفراد المجتمع فإن العناصر الخارجية لابد وأن تخضع إلى عامل التجانس فى الطابع العام بحيث لا يثير التنافر بين الطبقات التزاماً بعدم الخيلاء أو التباهي الذي يثير التباغض بين أفراد المجتمع الإسلامي والمفروض أنهم فى المساواة  كأسنان المشط ، والاقتصاد فى السكن يتطلب حسن استغلال المكان الأمر الذي هو من صميم مهمة المعمار فى تصميمه المعماري أضف إلى ذلك اختيار مواد البناء والتى تحتسب اقتصادياتها فى ضوء مستوى المتانة والتحمل على المدى الزمني الطويل ومن الأفضل أن تكون من إنتاج العامل المسلم فى أي بلد مسلم مع تحديد الارتفاع المناسب للأسقف. قال – صلى الله عليه وسلم : ” كل بناء – وأشار بيده هكذا على رأسه أكثر من هذا وبال” – رواه أنس-“ . وروى عن عمر رضى الله عنه أنه كتب ” لا تطيلوا بناءكم فإنه شر أمامكم”. وفى حديث ابن السائب عن الحسن قال: ” كنت أدخل بيوت أزواج – صلى الله عليه وسلم – فى خلافة عثمان رضى الله عنه فأتناول سقفها بيدي” وإذا كانت هذه التوجيهات قد صدرت فى فجر الإسلام عندما كان البناء بالجهد الذاتي والاكتفاء بقدر الحاجة من المكان. وإذا كان الإسلام ينظم العلاقة بين الفرد والمجتمع كما ينظم البيئة التى يعيش فيها الإنسان عمرانياً واجتماعياً فإن ذلك يمكن إحكامه فى صورة قوانين ولوائح تنظم العمران وهذه مسئولية المشرع من ناحية وكفاءة المنفذ من ناحية أخرى وفى ذلك مجال واسع للبحث والاجتهاد حتى تخرج نظم البناء نابعة من التعاليم الإسلامية الثابتة والمتوائمة مع البيئة المحلية المتغيرة وتقوم بمراقبتها الآليات القادرة على إدارة العمران الأمر الذي يستحق مزيداً من البحث والاجتهاد والاقتباس بالقياس من النظم والتطبيقات التى كانت تتم فى بعض المدن فى العصور الإسلامية السابقة.

التنمية والإسكان الريفى :

     قال تعالى: ” ولقد مكناكم فى الأرض وجعلنا لكم فيها معايش “ -10 الأعراف 7- صدق الله العظيم. وقد كان لموضوع التنمية والإسكان الريفى عندي أهمية خاصة ربما لنشأتي الإسلامية الريفىة ومولدي ( عام 1926) فى أحد المنازل المبنية من الطوب اللبن الذي لم يكن يتحمل الأمطار .. أو لأن والدي خريج الأزهر كان مزارعاً ، كل ذلك ربما قد ترك رواسب فى نفسي تدعوا إلى ضرورة العناية بهذه الفئة من الفلاحين الذين يمثلون نصف المجتمع . واستمر هذا الإحساس بعد تخرجي فى الجامعة (1949) وسفري فى بعثة إلى الخارج حيث كانت رسالة الماجيستير فى الإسكان الريفى وكانت رسالة الدكتوراه فى التنمية الريفية.. واستمر الاهتمام بهذا التخصص بعد ذلك سواء فى صورة محاضرات للطلبة فى الجامعة أو فى صورة بحوث بمركز أبحاث البناء أو فى لجان الإسكان الريفى مع الراحل المهندس حسن فتحي فى وزارة البحث العلمي فى أوائل الستينات. وقد دعمت هذه البحوث بمقالات صحفية كان أولها فى 20/9/1955 (الأهرام) تحت عنوان
” حول مشروع تخطيط القرى ” .. جاء فى نهايتها أنه يجب التوخي فى التخطيط الحديث للقرية الحرص على كل شبر من الأرض الزراعية التى هى عماد الثروة والاقتصاد القومي .. ومقال أخر فى 9/8/1960 (الأهرام) تحت عنوان ” صورة القرية الجديدة فى بلدنا ” ..جاء فيها أن المشكلة الاقتصادية هى بلا شك المشكلة الأولى التى يواجهها المجتمع الريفى وذلك بعد مشكلته الكبرى وهى الضغط السكاني على الأرض الزراعية ولو أن كل منهما مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالأخر . واستمرت الكتابة فى نفس الموضوع وفى 25/4/1963 (الأهرام) ظهر مقال أخر تحت عنوان ” مصير القرية المصرية بين الإصلاح البطىء والتغيير الجذري “.. جاء فيها أن التخطيط الإقليمي هو السبيل للتنمية الريفية وذلك بخلخلة التجمعات السكنية الكبيرة وبناء قرى صغيرة على أطراف الوادي . وفى مقال آخر فى 1/1/1962 (الأهرام) بعنوان  “خطة سكانية جديدة فى القرية والمدينة ” تدعو إلى الربط بين الإسكان الحضري  والإسكان الريفى فى منظومة واحدة متكاملة . وفى مقال أخر فى 4/3/1986 (الأهرام) تحت عنوان ” زحف العمران الصناعي على الأرض الخضراء ” حذرنا فيها وبالأرقام من العواقب السلبية التى سوف تعاني منها مصر إذا استمر الحال على نفس المنوال لمعدلات الزحف العمراني للمدن والقرى من أنه سوف يغطي كل الأرض الزراعية بالدلتا بالعمران عام 2035 وقد سبق أن طالبنا بضرورة أخذ البعد المكاني فى الاعتبار عند إعداد الخطط الخمسية للتنمية الاقتصادية الاجتماعية وذلك فى مقال نشر فى 20/12/1985 (الأهرام) تحت عنوان ” البعد المكاني فى الخطة الخمسية الثانية ” .. كما سبق وأن نشرنا فى 18/2/1964 مشروعاً لتنظيم الأجهزة العاملة فى مشروعات بناء القرية وذلك بإنشاء جهاز يضم مختلف الهيئات العاملة فى بناء القرية ليتولى دراسة أوجه الحياة الزراعية والصناعية والاجتماعية والعمرانية فى الريف.

     وفى المؤتمرات العلمية قدمنا عدداً من البحوث فى هذا المجــال كان أولها بعنـوان ” مسـتقبل الريف المصري ” مقدم لمؤتمر الاتحاد الدولي للمعماريين (كوبا 1963) وآخر بعنوان ” أسـس تخطيط القرى المصرية ” مقدم إلى مؤتمر المنظمة الأفريقية الأسيوية للإسكان ( القاهرة 1963) وآخر بعنوان ” امتداد المناطق الحضرية والريفية فى مصر ” مقدم إلى نفس المؤتمر (سنغافورة 1967 ) فى هذا البحث شرحنا إمكانية الامتداد الأفقي للتعمير الزراعي والصناعي فى شكل إقليمين على الطرفين الشــرقي والغربــي لدلتــا النيــل مع شــبكة طرق عرضيــة
(مروحية) وذلك لتفريغ الدلتا من الفائض السكاني على الأرض الزراعية وجذبه إلى الإقليمين الشرقي والغربي للدلتا حيث يشتمل كل من الإقليمين على منظومة متكاملة ومتدرجة الأحجام من المدن المركزية والمدن الصغيرة والقرى تنشأ جميعها لتعمير الصحراء على جانبي الدلتا وتتصل اتصالاً مباشراً  بالمعمور القديم ووضعنا لذلك الأسس الكفيلة بغرس المجتمعات الواردة من الدلتا إلى الإقليمين الجديدين بالإضافة إلى أسلوب إدارة التنمية فى كلا الإقليمين وذلك تحقيقاً لمبدأ الانتشار فى الأرض وتعميرها كما أمر الإسلام بذلك وحث عليه.

     فقد كان الدافع الأساسي وراء هذه المقالات والبحوث هو العمل بالمنهج الإسلامي والتكافل الاجتماعي بين الطبقات والتوازن العمراني بين المدن والقرى وتضييق الفوارق الحضارية بين الطبقات الريفىة والحضرية وتوفير المناخ للتنمية الذاتية .

إسكان الفقراء:

الفقراء جزء فى النسيج الاجتماعي للأمة واختصهم الله بالرعاية والعناية ، قـــال تعالى: ” إنما الصدقات للفقراء والمساكين والمؤلفة قلوبهم والعاملين عليها” – 10 التوبة9 – ويبلغ تعدادهم أكثر من ثلث السكان فى الدول الإسلامية وإذا كانت ظروفهم المادية والاجتماعية قد حالت دون توفير الإسكان اللائق لهم فإن على باقي أفراد المجتمع من الطبقات الأعلى مادياً أن يتكفلوا بالمساهمة فى إيوائهم فى بيئة عمرانية تتوفر فيها الحد الأدنى من المتطلبات المعيشية. ومساهمة الأغنياء هنا إما أن تكون مالية كجزء من زكاة المال أو تكون عينية بالتبرع بمواد البناء أو بالتجهيزات المعمارية أو تكون فنية بالعطاء العلمي فى التصميم والإنشاء والتدريب على البناء بالجهود الذاتية. فقد حث الإسلام الإنسان على التعيش من عمل يده خير له من السؤال . قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم : ” والذي نفسي بيده لأن يأخذ أحدكم حبله ويتحطب على ظهره خير له أن يأتي رجلا يسأله أعطاه أو منعه” – رواه أبو هريرة – . وإذا كان الفقير من الناس لايستطيع المساهمة المالية فى بناء مسكنه فلا أقل من أن يساهم بالمشاركة فى أعمال البناء بمجهوده الخاص إذا ما تيسرت له نظم البناء المناسبة مما يقدمه العلماء و يدخل فى التصدق بالمعونة الفنية التى تساعد على ابتكار طرق بسيطة للبناء يستطيع الفرد العادي تناولها . والمعونة الفنية قد تأتي من العلماء أو من المهندسين أو من مراكز بحوث البناء ، أما التصدق بالمال فيأتي من الزكاة وما يفرضه الإسلام على الأغنياء من صدقة ترد على الفقراء – فعن ابن عباس رضى الله عنهما قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم – وهو يوصي معاذ قبل سفره إلى اليمن : ” ادعهم إلى شهادة لا إله إلا الله وأني رسول الله فإن أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات فى كل يوم وليلة فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة من أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم” . ويبقى البحث عن الآليات التى تتحمل جمع الزكاة والصدقات وتوجهها إلى أعمال البناء وتشرف على تدريب الفقراء لبناء مساكنهم بأنفسهم وتمدهم بالمعونة الفنية وبمواد البناء المناسبة . وفى هذا السبيل قمنا بإنشاء جمعية خيرية سميت الجمعية المركزية لإيواء المحتاجين سجلت فى وزارة الشئون الاجتماعية ( عام 1996) وكان الهدف من إنشائها هو تسكين الفقراء المقيمين فى أكشاك الصفيح والخشب والمتناثرين فى أركان المدن وفى المناطق العشوائية بها. والفئات الفقيرة عادة ما تكون فقيرة مالياً واجتماعياً وثقافياً وإنتاجياً.

وإسكان الفقراء فى صورته الشاملة لا يقتصر على توفير الوحدات السكنية المناسبة مع الخدمات اللازمة لها ولكنه يشمل التأهيل الاجتماعي للسكان مع توفير فرص العمل لهم فى المجالات الحرفىة أو الخدمية . ولتحقيق هذا الهدف وضعت الجمعية مشروعاً إرشادياً لتطبيق هذا التكامل فى الإسكان ليكون محلا للدراسة والتقويم يتم على ضوء نتائجه و الاستمرار فى مشروعات أخرى ، وهنا تدخل التعاليم الإسلامية كموجه لعمليات التأهيل الاجتماعي ومن ثم فى توفير فرص العمل الحرفى والخدمي للسكان فى منظومة متكاملة للبناء الاجتماعي العمراني السليم .

تبدأ المرحلة الأولى للمشروع الإرشادي ببناء مسجد صغير وملحقاته وأمامه ساحة تصلح للنشاط الرياضي وعلى الجانب الآخر منها مجموعتين من غرف الإيواء المؤقت تقام على جانبي شارع للمشاة وعند طرفى المجموعتين توجد دورتان للمياه واحدة للرجال وأخرى على الطرف الآخر للنساء. و يتم الإيواء المؤقت للفئات المستهدفة فى هذه الغرف لفترة مدتها حوالي ستة أشهر تتم خلالها عملية التأهيل الاجتماعي عن طريق دور محو الأمية وتعليم الصلاة والأصول الدينية كما يتم خلالها أيضا التدريب على أعمال البناء بالجهود الذاتية وإرساء أساسات الوحدات السكنية حسب التصميم المعد لذلك ثم تبدأ المرحلة الثانية بأعمال البناء بالجهود الذاتية للمجموعات السكنية المحيطة بالساحة التى أمام المسجد وتأخذ هذه المرحلة حوالي عام واحد ينتقل بعدها السكان من غرف الإيواء المؤقت إلى الوحدات السكنية الجديدة بحيث تكون أولوية التسكين والاختيار لمن اجتاز مرحلة التأهيل الاجتماعي المتضمنة شهادة محو الأمية والمحافظة على الصلاة وممارسة الرياضة الخفىفة والحفاظ على نظافة المكان كل حسب ترتيبه فى التقييم أو الامتحان. وهكذا تدخل الفئات المستهدفة مساكنها وهي مؤهلة اجتماعياً ودينياً ، ثم تبدأ المرحلة الثالثة بتحويل غرف الإيواء المؤقت بعد تركها إلى ورش للأعمال الحرفية والخدمية من حياكة أو نسيج أو إصلاح الأجهزة الكهربائية أو الصحية أو غسيل الملابس آلياً بالإضافة الى محلات البقالة والجزارة والخضراوات والفواكه اللازمة لوحدة الجوار التى قدر حجمها فى المشروع الإرشادي بحوالي 975 نسمة على مساحة قدرها 5,5 فدان.

وهكذا تتم عملية التسكين المتكاملة اجتماعياً واقتصادياً وعمرانياً، ويقوم على المشروع فريق من المرشدين: الأول مرشد اجتماعي والأخر مرشد إنتاجي والثالث مرشد عمراني ومدربين يعملون تحت إشراف المدير القائم على المشروع والمعين من قبل الجمعية الخيرية التى تقوم بدورها مستقبلاً تحت الإشراف الفني والمالي والإداري لما قد يسمى بالمؤسسة العامة لإيواء المحتاجين التى تمد مثل هذه الجمعيات بالأراضي المتوفرة كما تمدها أيضا بالمخططات والتصميمات والمبالغ التى تمنح للأسر المستهدفة والتى تقدم بدورها حوالي 1000جنيه للمساهمة فى أعمال البناء وذلك لإثبات جديتها فى المشاركة الشعبية وذلك بالإضافة إلى المساهمة بحوالي1600 ساعة عمل يقوم بها أفراد الأسرة القادرين على العمل والتى تقدر قيمتها بحوالي 3000جنيه من تكاليف بناء الوحدة السكنية وتساهم الجمعية من خلال أموال الزكاة والتبرعات بحوالي 6000 جنيه وتصبح إجمالي تكاليف الوحدة حوالي 10000جنيه ( بأسعار 1997) بخلاف المرافق العامة وتبلغ مساحة الوحدة السكنية حوالي 45م2 وبذلك يكون تكلفة المتر المربع الواحد فى المتوسط حوالي 222 جنيه باعتبار أن طريقة البناء المطبقة فى هذا المشروع الإرشادي وهي بالحوائط الحاملة المبنية من قوالب من الطوب المفرغ من مادة كسر الحجر والأسمنت بنسبة 1:8 تجهز فى قوالب خاصة ويتم بنائها بالكبس يدوياً بطريقة سهلة وهي لا تحتاج إلى البياض من الخارج أو من الداخل إلا إذا تطوع الساكن بذلك. وتقدم الأرض للجمعية بنظام حق الانتفاع لمدة خمسين عاما وتعطى الوحدات السكنية بإيجار بسيط ويحق للجمعية أن تلغي عقد الإيجار إذا وجدت أن شاغل الوحدة لا يعتني بها من الناحية البيئية أو البنائية.. وهكذا يمكن بناء وحدات جوار صغيرة لسكان العشش يتم تسكينهم فيها اجتماعياً وعمرانياً واقتصادياً . وقد يفرز المشروع الإرشادي نتائج يمكن اتخاذها أساساً لوضع سياسة عامة للدولة لإيواء المحتاجين يتم تعريفهم وتصنيفهم بواسطة أجهزة البحث الاجتماعي ويرعاهم اجتماعياً إمام المسجد المدرب على هذا العمل وهكذا يكون الفكر الإسلامي هو الوجه الحقيقي لأسلوب إسكان الفقراء.

وإذا كان هذا المشروع الإرشادي لم يرى النور فى الواقع العملي لعدم قدرة الإدارة المحلية على توفير الأرض المناسبة . إلا أنه وضع أساساً عملياً ومنهجاً علمياً لأسلوب التصدي لإسكان الفقراء بمفهومه المتكامل اجتماعياً واقتصادياً وعمرانياً والذي يوفر مبدأ التكافل الاجتماعي والاقتصادي فى المجتمع وحتى تضيق الفجوة بين الأغنياء والفقراء نتيجة لتطبيق اقتصاديات السوق فى شكلها المطلق وحتى لا يتمادى البعض فى حب التكاثر فى الأولاد والأموال دون حدود. قالى تعالى ” ألهاكم التكاثر،حتى زرتم المقابر، كلا سوف تعلمون، ثم كلا سوف تعلمون، كلا لو تعلمون علم اليقين، لترون الجحيم ، ثم لترونها عين اليقين، ثم لتسألن يومئذ عن النعيم ” صدق الله العظيم (8 التكاثر 104).وذلك حتى يعلم أصحاب القصور أن مصيرهم القبور فلا يغالوا ولا يتفاخروا.
قال الشاعر:
أن أهل القصور إذا أميتوا بنوا فوق المقابر بالصخور
أبو اللامباهاة وفخـــروا على الفقراء حتى فى القبور
العمارة فى التراث الإسلامي:

التراث الإسلامي هو كل ما خلفه السلف الصالح من فكر وإنجاز علمي وثقافى وفلسفى واجتهادات دينية تخدم الإنسان المسلم وتصلح من حاله. سواء كان هذا التراث كلمة مكتوبة نثراً أو شعراً أو بياناً أو ما أقيم من أعمال لعمارة الأرض التى استخلف فيها الإنسان سواء فى بنايات أقاموها لخدمة الدين والدنيا وليس للتباهي كهؤلاء الذين يقيموا المساجد ولا يعمروها إلا قليلا أو يقيموا لهم مصانع لعلهم بها يخلدون أو يبنون فى كل ريع آية فيها يعبثون، كما نشاهد فى كثير مما أنشىء من مساجد شامخة أو قصور فاخرة أو مدافن مبنية تحت قباب عالية . ودراسة التراث المعماري هنا تكون إما بالتأسي بالعمل الصالح منه أو لأخذ العبرة مما آل إليه. وقد يعجب الإنسان من دقة الصناعة والبناء والزخرف والإسراف فيه ثم يتأسف بعد ذلك على عاقبة المسرفين الذين عملوا لدنياهم أكثر مما عملوا لآخرتهم . وهنا يكون الانتقاء من التراث ما قد ينفع والابتعاد عما لا ينفع و يكون الاقتباس مما يوفره التراث من مبادىء تخطيطية أو تصميمية أو الانتفاع من نماذج الأعمال الحرفية نصاً أو روحاً واستعمالها فىما يتناسب مع القدرة الإنتاجية والحاجة المعيشية وتوفير الخصوصية أو لمواجهة الظروف المناخية بالمعالجات البيئية أو لإثراء القيم الفنية التى تتناسب مع التعاليم الإسلامية . فلكل قطر إسلامي تراثه المعماري الذي أنشأ بعد ظهور الإسلام . أما التراث المعماري لعصور ما قبل الإسلام فله شأن آخر. فقد نجد فيه عناصر الاستمرارية الحضارية وقد يكون له فى وجدان المسلمين شيء من النفور كتراث فرعون ذى الأوتاد الذي طغى فى البلاد والذي قال لهامان أن يبني له صرحاً لعله يبلغ الأسباب وهو التراث الذي يعطيه الغرب أهمية خاصة ليس فقط بسبب ما تم خلال هذه العصور من إنجازات علمية وطبية وإنشائية وفنية مبهرة ولكن لرغبة دفينة لتهميش الحضارة الإسلامية كما نراه جلياً فى سردهم لتاريخ العمارة ابتداء من الفرعونية ثم اليونانية ثم الرومانية ثم العصور الوسطى ثم عصر النهضة ثم عصر الثورة الصناعية ثم عصر الاتصالات واعتبار التراث المعماري فى الإسلام إنتاج حضاري هامشى ظهر فى فترة محددة من الزمن ثم اختفى.

العمارة فى التراث الإسلامي لا يجب أن تقرأ منفصلة عن المكونات الأخرى للتراث من علوم وفنون وآداب وتاريخ وفقه وفلسفة وغيرها من إنجازات الفكر الإسلامي ولا يجب أن يقتصر البحث هنا على التراث الإسلامي فى دول المشرق أو المغرب العربي ولكن أيضا فى باقي البلاد الإسلامية من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب , باعتبار أن الإسلام لا يحده مكان أو زمان ، وإذا كانت كثير من البحوث والدراسات العمرانية قد تعرضت إلى تحليل المدينة الإسلامية بقيمها ومكوناتها المعمارية فى العالم العربي الذي شهد فجر الإسلام وعصر الخلفاء الراشدين إلا أن انتشار الدعوة الإسلامية فى كافة ربوع الأرض يستدعي ملاحقة هذه الدعوى بالمزيد من البحث والدراسة للمقومات العمرانية فى هذه المناطق البعيدة حيث تختلف الظروف المناخية والبيئية والجغرافية والجذور الثقافية ليس فقط بهدف التوثيق والتحليل كما فى العديد من الدراسات السابقة ولكن بهدف استخراج المعايير والمحددات التى تحكم العمران الإسلامي فى حركته وتطوره فى البيئات المختلفة كبديل للمعايير والنظريات التى يقدمها الغرب تباعاً ويغزو بها بلاد المسلمين.

وإذا كانت العمارة التراثية هى منبع للقيم التشكيلية والفنون الحرفية التى ظهرت فى المباني الرسمية من قصور ومساجد وحصون ومدارس إلا أن العمارة التقليدية فى المدينة الإسلامية تعتبر منبعاً خصباً للقيم الإنسانية المتمثلة فى علاقة الإنسان بالعمران كما نشاهده فى الأحكام الشرعية التى ترعى حقوق الجار والجوار أو التى تتعامل مع مفهوم الملكية وإحياء الأرض الموات أو التى تحدد الضرر والضرار فى أمور العمران أو التى تحدد دور المحتسب والقاضي فى إصدار الأحكام التى تحكم العمران هذا بخلاف القيم التشكيلية والمعمارية التى تطرحها العمارة التقليدية التى أفرزتها النظم الاقتصادية المحلية و العلاقات الإنسانية والاجتماعية ونظم البناء بالجهود الذاتية والمعالجات المعمارية لمواجهة الظروف المناخية ، والعمارة التقليدية بذلك تعتبر هى المرجع الأهم لعلوم العمران والتى يمكن أن تستخلص منها المعايير والنظريات التى تحكم العمران الإسلامي فى حركته وتطوره مع حركة التقدم العلمي والتكنولوجي التى تخدم الإنسان ولا تضره ولا تتعارض مع التعاليم والقيم الإسلامية. إن التراث وليد المكان والمعبر عن شخصيته و يصعب زرعه فى مكان آخر إلا من خلال حركة المد الثقافى والحضاري بين الأقطار . وإذا كان التراث المعماري يعبر عن حقبات محددة من تاريخ المكان فإن إعادة بنائه نصا فى التاريخ الحديث يعتبر ردة عن التطور والتقدم الذي يدعو إليه الإسلام فىما ينفع المسلمين.

لقد تعاملت مع التراث المعماري خلال تجربتي الأولى فى بناء مسكني الخاص ومبنى مركز الدراسات التخطيطية والمعمارية المكمل معه وبدأت بعد ذلك الدعوة إلى إحياء القيم التراثية فى العمارة من خلال الدورات التدريبية التى ينظمها المركز وقد حاضر فيها عدد كبير من رواد الحركة الفكرية فى مصر وعلى رأسهم المهندس حسن فتحي ومنها الدورة التدريبية التى نظمها المركز فى مدينة جدة بالمملكة العربية السعودية عام 1986 بدعوة من أمين جده المهندس سعيد فارس فى ذلك الوقت وقد سجلت الأوراق التى ألقيت فى الندوة فى كتاب باللغتين العربية والإنجليزية شاملة تجربة دراسة مشروع تطوير منطقة الجمالية الذي تم بالتعاون مع البنك الدولي ففى عام 1983 اتصل بنا الدكتور إسماعيل سراج الدين نائب رئيس البنك الدولي لمشاركته فى إعداد الشروط المرجعية لدراسة تطوير المنطقة شمال الجمالية حتى تكون أساساً لإعداد كتيب يتضمن تقرير فني يستفاد منه فى عرض المشروع على المنظمات والهيئات الدولية لتوفىر 400 مليون دولار لتطوير القاهرة التاريخية. وقد تم إعداد هذه الدراسة بواسطة مجموعة متميزة من أكبر خبراء مصر فى ذلك الوقت فى مجال التخطيط العمراني والعمارة والاقتصاد والاجتماع والسياحة والمياه الجوفية والطرق والنقل والتاريخ بالتعاون مع المكتب العربي وقد سلمت المسودة النهائية للدراسة الى محافظة القاهرة عام 1985 وحفظت بسبب عدم الموافقة على إنشاء هيئة خاصة بإدارة عمران القاهرة التاريخية تنتقل إليها اختصاصات وزارات الثقافة والإسكان والأوقاف والمحافظة بعد اعتبار القاهرة التاريخية محمية تراثية وذلك حتى يمكن تنفيذ المشروعات المختلفة بصورة متكاملة ولكن تجمد الموقف الذي أثرته على صفحات الجرائد اليومية وأثرته فى ندوة الحفاظ على عمارة المدن التاريخية التى أقيمت فى البنك الدولي بواشنطن أوائل مايو 1999. حيث تحدثت عن تكامل عمليات الارتقاء بالحجر مع الارتقاء بالبشر. وقد شملت عمليات الارتقاء بالإضافة إلى صيانة المباني التاريخية وإعادة استعمالها واستغلالها للارتقاء بالبنية التحتية من ناحية والبنية الفوقية من ناحية أخرى وذلك من خلال المشاركة الشعبية بالإضافة إلى التنمية الاستثمارية للمناطق الفضاء أو الخربة بإقامة مشروعات تتناسب مع طبيعة المدينة التاريخية. وفى هذا المجال تشكلت لجنة وزارية استشارية للقاهرة التاريخية كنت أحد أعضائها وقد أظهرت قناعتي التامة بتكامل عمليات الارتقاء بالبنية العمرانية بعمليات الارتقاء بالبنية الاجتماعية لسكان القاهرة التاريخية وذلك فى منظومة إدارية تنظيمية تضمن استقرار واستمرار هذه العمليات بهدف رفع مستوى الحياة المعيشية وإحياء القيم الإسلامية
الحفاظ على البيئة فى الإسلام:

البيئة فى تعريفها العام هى كل العوامل الطبيعية المحيطة بالإنسان من ماء وهواء وأرض وقد حثت التعاليم الإسلامية على الحفاظ عليها وعدم الإضرار بها أو تلويثها أو إفساد خصائصها التى جعلها الله خالصة لصالح الإنسان نقية لا تشوبها شائبة تضر به صحياً أو نفسياً أو معيشياً . سبحانه وتعالى لم يخلق السماء والأرض وما بينهما باطلا.. قالى تعالى : ” وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ، ذلك ظن الذين كفروا ، فويل للذين كفروا من النار . أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين فى الأرض ، أم نجعل المتقين كالفجار ” – 28ص 38- .

والإفساد هنا ينطبق كل ما يضر الإنسان ويفسد حياته ومعاشه وأمنه وسلامته وصرته وصيامه ومعاملاته .. والبيئة التى يعيش فيها ، سواء فى تلويث الهواء أو المياه أو فى كل ما يضر بصحة الإنسان من الأرض التى فيها معاشه ، سواء فى الشارع أو فى المسكن أو فى الطريق . عن أبي برزه- رضى الله عنه – قلت: يا نبي الله علمني شيئا أنتفع به- قال : اعزل الأذى عن طريق المسلمين . والأذى هنا هو كل ما يؤذي الإنسان فى بصره وأنفه وجسده وهو ما يعبر عنه حديثا بالتلوث البصري والتلوث البيئي من روائح فاسدة أو مخلفات سائلة أو جافة تسبب فيها الإنسان وأفسد بها ما أنعمه الله على الإنسان من طبيعة صحية ومياه صافىة وهواء نقي. وهو ما نهى عنه الإسلام منذ ما يقرب من ألف وأربعمائة عام وهو ما بدأت تهتم به الدول منذ عام 1972 من خلال المؤتمر الدولي الذي عقد فى السويد فى هذا العام وتولد عنه برنامج الأمم المتحدة للبيئة والذي صدر عنه العديد من التوصيات والدراسات والاتفاقيات والأساليب التى تساعد على سلامة البيئة والحفاظ عليها من عبث الإنسان بما يصدره عنه من ملوثات صناعية أو كيماوية أو من سلوكيات ضارة أو من استهلاك للموارد الطبيعية من غابات ونباتات وحيوانات الأمر الذي يدخل تحت بند الالتزام بالتنمية المستدامة التى تعنى بتلبية متطلبات حياة الإنسان حاضراً ومستقبلاً. قال تعالى: ” ولا تفسدوا فى الأرض بعد إصلاحها ” – 85 الأعراف7- وقال تعالى : ” فاتقوا الله وأطيعون ولا تطيعوا أمر المسرفىن الذين يفسدون فى الأرض ولا يصلحون ” -152الشعراء26- وقال تعالى: “وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد فى الأرض ” -77القصص48- .
إن فى الإسلام وتعاليمه كل ما هو فى صالح الإنسان وما ينظم حياته ومعاشه وما يحافظ على البيئة التى يعيش فيها ويحيى .
ويعتبر الدخان بكافة أنواعه -كما يقول د. صالح الهذلول فى كتابه المدينة العربية الإسلامية يعتبر مجلباً للضرر لورود نص قرآني يشير إليه على أنه عذاب أليم – قال تعالى: ( فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين ، يغشى الناس هذا عذاب أليم) – 10-11 سورة الدخان -كما قال أيضاً أن الأصل فى منع الروائح الكريهة فى قوله صلى الله عليه وسلم ” من أكل من هذه الشجرة فلا يقرب مسجدنا يؤذينا بريح الثوم ” فإذا كان آكل الثوم ينبغي ألا يقرب المسجد لأنه يزعج وينفر الآخرين برائحته فإنه يمكن قياساً على ذلك الاستنتاج بعدم جواز نشر الروائح الكريهة فى شوارع المدينة وأحيائها وكما يرى الفقهاء والمحدثون فى الضوضاء نوعاً من الأذى ينبغي منعه وهو ما نسميه حالياً بالتلوث السمعي وهكذا يتم تطبيق مبدأ لا ضرر ولا ضرار فى كل أمور البيئة من تلوث سمعي إلى تلوث بصري إلى تلوث رائحي أو تلوث بيئي.
المنهج الإسلامي فى علوم العمران:

المتتبع للحركة العلمية فى علوم العمران والعمارة والتخطيط فى العالم العربي وربما فى العالم الإسلامي يجد أن أصول مناهج هذه العلوم قد استمدت من الغرب سواء من المدرسة الفرنسية أو الإنجليزية أو الأمريكية كما أن هذه العلوم قد ارتبطت فى بعض البلاد بالعلوم الهندسية وفى غيرها بعلوم الفنون الجميلة وذلك باعتبار العمارة علم وفن ومن ثم دخلت النظريات الغربية فى تشكيل وجدان المعمار المسلم الذي لم يجد أمامه المرجعية العلمية إلا فيما يصدره الغرب من فكر فى كتبه ومجلاته التى غزت الساحة الإسلامية واستقرت فيها حتى أن كثيراً من المدارس المعمارية فى دول العالم الإسلامي ترجع إلى الجامعات والمنظمات المعمارية فى الغرب لمباركة مناهجها واعتمادها وكأن علماء العالم الإسلامي من المعماريين قد عجزوا عن وضع مناهج علوم العمران التى تتناسب مع بيئاتهم وحضاراتهم ومجتمعاتهم.

وإذا كان الجانب الهندسي فى علوم العمران يتطلب الإطلاع على أحدث منجزات العالم فى هذا المجال إلا أن ذلك يتطلب توطين هذه العلوم فى المجتمع الإسلامي بما يتناسب مع قدراته وإمكاناته وبما يسمى بتكنولوجيا البناء المتوافقة وخاصة ما يتوافق منها مع إمكانات وقدرات الفئات الفقيرة من المسلمين وهم الأولى بالرعاية، الأمر الذي يرتبط بصناعة البناء التى تتوجه إليه علوم الكيمياء والطبيعة بما فيها من مواصفات واختبارات وقليل من مبادىء الهندسة الإنشائية والمدنية والصحية والكهربائية والصوتيات والتكييف والتى أصبحت تخصصات مستقلة تتكامل فى الحيز العمراني من خلال برمجة وإدارة عمليات التصميم والتشييد وبالتالي فى اقتصاديات البناء كخدمة واحدة من تكامل المعرفة بما يتناسب مع قدرات و إمكانات المجتمع المسلم حتى لا تحتاج إلى الاستيراد من غير الدول الإسلامية.
وتبقى بعد ذلك العلوم الإنسانية التى تنطلق من المنهج الإسلامي وتؤثر مباشرة على علوم العمران كتاريخ العمران فى الإسلام ومبادىء الاجتماع الإسلامي ومبادىء الاقتصاد الإسلامي وجغرافية المدن والمجتمعات الإسلامية والمنهج الإسلامي فى الإسكان والتعمير وعلاقات وحقوق الجوار والقواعد الشرعية المنظمة لها ونظم البناء المتولدة عنها. وهنا تصبح عمارة الفقراء مادة أساسية من مواد علوم العمران وبالتالي يصبح الارتقاء بالبيئة العمرانية وإدارة العمران من المواد الأساسية كما يتضمن المنهج أيضا مواد ثابتة مثل التراث والعمارة التقليدية، فلم تعد العمارة من الوجهة الإسلامية محصورة فى تصميم الفنادق والمنتجعات وقاعات المؤتمرات والمدارس والمستشفيات ولكنها تمتد إلى تعمير الأرض والاستيطان وبناء الإنسان مع بناء العمران لكل الطبقات . وينقلنا المنهج الإسلامي فى علوم العمران إلى المرجعية العلمية فى هذا المجال حيث من الملاحظ أن المناهج المبنية على النموذج الغربي قد فرضت معها المرجعية الغربية فى النظرية الفكرية والعلوم الإنسانية وتغافلت المرجعية الإسلامية فى الشريعة والعقيدة والأحكام التى تنظم العمران ، كما تغافلت مؤلفات وأعمال العلماء من المعماريين المسلمين من داخل الوطن العربي أو من خارجه كما تغافلت المراجع الفقهية فى الاجتماع والاقتصاد الإسلامي وفى جغرافية المدن فى البيئات الإسلامية. ومن المفارقات أن نجد أقساماً فى الجامعات فى الدول الإسلامية تحمل اسم العمارة الإسلامية بينما غيرها فى نفس الدولة لا تحمل نفس الاسم وكأنها من دولة أخرى. وحتى الآن لم تتفق المناهج فى علوم العمارة والعمران فى العالم الإسلامي على صيغة واحدة فهى لا تزال تتأرجح بين النموذج الغربي ومحاولة بناء النموذج الإسلامي كما لم ترجع إلى أصول العقيدة الإسلامية كأساس لبناء المناهج التعليمية. وإذا كان قد ظهر فى الغرب العديد من الاتجاهات والنظريات المعمارية المختلفة و المتلاحقة فلا مانع من عرضها عرضاً سريعاً لإثبات أن النظرية الإسلامية فى علوم العمران نظرية ثابتة القيم والمضامين وتصلح لكل مكان وزمان وهى تختلف فى التشكيل والتعبير باختلاف المكان والزمان وأنها بذلك تعتبر النظرية الوحيدة ذات الصبغة العالمية كعالمية الإسلام فى ظل مبدأ الوسطية الذي تنهار أمامه كل من النظم الاشتراكية والرأسمالية التى تؤثر فى مضمونها على النتاج المعماري والعمراني لشعوبها.

نظرا لاتساع دائرة المعارف فى علوم العمران مع اتساع دائرة التخصصات فإنه بات من الضروري تحديد المناهج المناسبة لكل تخصص بما يتناسب مع سوق العمل أو حاجة المجتمع، فلم يعد هناك مكان للمعمار الموسوعة الذي يلم بجميع المواد والمناهج من إعداد دراسات الجدوى لما قبل الاستثمار أو التخطيط العام أو التصميم العمراني إلى التصميم المعماري والتصميمات التنفيذية ثم إدارة المشروعات العمرانية. فقد أصبح العمل فى أي من هذه المجالات يحتاج إلى مجموعة متكاملة من التخصصات ، فلم يعد التصميم المعماري وحده هو محور العملية التعليمية كما هو الحال فى معظم الجامعات الإسلامية حيث ينتظر من الطالب أن يلم بجميع الفلسفات الفكرية والعلوم الإنسانية والفقهية والتاريخية والاجتماعية بجانب العلوم الهندسية ذات العلاقة . ففى هذا المجال يمكن الفصل بين إعداد المعمار الذي يستطيع أن يلبي حاجات للفقراء ومتوسطي الحال من المجتمع متضمناً الخدمات والمرافق العامة و تهيئة البيئة العمرانية المناسبة للمجموعات السكنية فى وحدات الجوار مع الإشراف على تنفيذ هذه الأعمال بالوسائل المتاحة ، وكذلك إعداد المعمار الذي يستطيع أن يلبي الحاجة إلى مباني خاصة مثل قاعات المؤتمرات والتجمعات الإدارية والتجارية أو المستشفىات والمباني التعليمية والمراكز الثقافية أو النوادي والمنشآت الرياضية أو المتاحف والمساجد الكبيرة وكل ذلك يحتاج إلى الإلمام بالتراث الثقافى والاجتماعي للمكان مع المعرفة بأصول المعمار فى الإسلام. وهكذا يصبح لكل فئة منهجها الخاص فى العملية التعليمية فى الدول الإسلامية وكذلك الحال بالنسبة لمناهج التخطيط العمراني الذي يشارك فيها المعمار كعضو فى فريق متعدد التخصصات يعمل بأصول علوم العمران فى الإسلام الذي يتطلب القيام بأعمال التصميم و التخطيط بواسطة مجموعات أكثر منه بواسطة أفراد تأكيداً لمبدأ التصميم الجماعي من الخارج والتصميم الفردي من الداخل مع إتاحة الفرصة دائما للتجديد والتطوير والابتكار والإبداع فى حدود الأصول فى علوم العمران الإسلامي ، وفى كل الحالات يمكن عرض التراث الثقافى الإسلامي على الطلبة لإثراء الفكر من خلال محاضرات عامة تعرفهم بالعلماء المسلمين مثل الخوارزمي والكندي والفارابي والبوزجاني والبغدادي والمقدسى وابن رشد ممن أثروا العلوم والفنون والآداب الإسلامية ومن المعاصرين مثل المهندس حسن فتحي.

وينتقل المنهج الإسلامي فى علوم العمران إلى مجال البحث العلمي الذي يهدف لتحويله إلى وضع قوالب عملية يمكن تطبيقها فى الواقع العملي وتغيير ما هو قائم من اللوائح والقوانين الخاصة بنظم البناء والتعمير والتى استمدت مبادئها من الفكر الغربي فى بداياته والتى تسببت فى تخلف الأوضاع العمرانية فى المدينة الإسلامية المعاصرة كما يهدف البحث العلمي أيضا الى تطوير الآليات الخاصة بإدارة العمران لتحقيق المنهج الإسلامي فى علوم العمران وحتى لا تقتصر البحوث على الاستقصاء والتشخيص والتحليل واسترجاع الماضي والترحم عليه فإذا لم تنتقل النظريات إلى الواقع العملي فقدت مصداقيتها ومضمونها ، من هذا المنطلق يمكن توجيه البحوث المقترحة إلى المجالات التالية:-
1- تقييم التشريعات الخاصة بالتخطيط العمراني ووضع البدائل العملية التى تضمن بها تطوير ما هو قائم من عمران وتوجيه ما يستجد منه إلى ما يحقق المنهج الإسلامي فى التعمير.
2- تقييم القوانين واللوائح وشروط أعمال البناء المطبقة فى العالم الإسلامي وإعادة صياغتها لتحقيق المنهج الإسلامي فى العمارة.
3-تقييم الأوضاع الإدارية والقانونية التى تحكم المؤسسات المؤثرة على حركة العمران فى الدول الإسلامية وتطويرها بما يحقق أهداف المنهج الإسلامي فى التعمير ويشمل ذلك القوانين الخاصة بإعمار الأرض وملكيتها والتصرف فيها والعلاقة بين الفرد والمجتمع فى التعامل معها.
4- وضع دلائل الأعمال التى تساعد المعمار المسلم على الالتزام بطابع المكان من خلال حرية استعمال المفردات المعمارية التى تتفق عليها الجماعة فى إطار وحدة الطابع مع الالتزام بالقيم الإسلامية عند إعداد المخططات أو التصميمات بحيث يكون هناك دليل لكل مدينة إسلامية تتولى تطبيقه الإدارات المحلية.
5- إثراء الفكر المتكامل للحضارة الإسلامية يقوم به علماء الدين الإسلامي بالتعاون مع العلماء المسلمين من التخصصات المختلفة فى مجال علوم العمران بهدف إظهار الوجه الحضاري للإسلام فى الريف أو الحضر.
6- إجراء البحوث والتجارب التطبيقية للحصول على تكنولوجيا البناء المتوافقة مع إمكانات وقدرات المجتمعات الإسلامية المختلفة مع البحث فى طرق إيواء المحتاجين والفقراء فيها.
7- إجراء البحوث التى تهدف إلى الارتقاء بالبيئات العمرانية للمجتمعات الإسلامية وتعظيم دور المنظمات الأهلية فى هذا المجال.

وتعتبر الجامعات الإسلامية هى المؤسسات الرائدة التى تتحمل الدعوة إلى إثراء الوعي بالمنهج الإسلامي فى علوم العمران ونشر الرسالة الحضارية للإسلام حتى تصل إلى متخذي القرار لتطوير الواقع المرير الذي آل إليه العمران فى الأمة الإسلامية فى آخر هذا الزمان.
ففى زيارتي لعدد من أقسام العمارة والتخطيط العمراني فى عدد من الجامعات البريطانية ( عام 1986) باحثاً عن أسلوب ربط المناهج بمتطلبات المجتمع والممارسة المهنية وجدنا ما يساعد على تفعيل هذا المبدأ حتى يمكن تطبيقه فى العالم الإسلامي بما يتناسب مع متطلباته واحتياجاته وبيئته وعقيدته.
الأمسيات المعمارية والدعوة إلى عمارة المسلمين:

فى إطار النشاط الثقافى الذي اضطلع به مركز الدراسات التخطيطية والمعمارية بالإضافة إلى إصدار مجلة عالم البناء والكتب التى تحمل فكر تأصيل القيم الإسلامية فى بناء العمران المعاصر دأب المركز على تنظيم أمسيات معمارية دعى إليها كبار المفكرين من علماء الإسلام مثل الدكتور أحمد عمر هاشم والدكتور عبد الصبور شاهين للإدلاء بمرئياتهم بالنسبة للعمارة فى الإسلام فلم يكن لديهم إلا ما ذكر من آيات قرآنية وأحاديث نبوية ولا اجتهاد بعد ذلك سواء بالقياس أو الاستنباط.. وتم تعزيز ذلك بآراء المفكرين الذين يعملون فى حقل الفكر الإسلامي مثل الدكتورة نعمات فؤاد والأستاذة ليلى إبراهيم والمرحوم بدر الدين أبو غازي ثم بآراء كبار المعماريين مثل الراحل حسن فتحي وغيره من المجتهدين فى هذا المجال. وكان يحضر هذه الأمسيات أعداد كبيرة من شباب المعماريين الذين تدربوا ودرسوا المناهج المعمارية النابعة من المناهج الغربية فى النظرية والفكر والأسلوب والتصميم .. وكان الهدف من هذه الأمسيات هو تنوير هؤلاء الشباب بالبعد الحضاري الذي تميز به التراث المعماري وبالتالي الى التعريف بالعمارة الإسلامية كما يراها الغرب ويراها الشرق ثم بالحوار المستمر وبمراجعة علاقة المفاهيم الإسلامية بالعمارة وسبب وصف العمارة بالإسلامية وكان لابد من البحث فى أسباب ومصداقية هذا التوصيف ومدى ملاءمته لكل ما يوصف بالإسلامية فى العمارة أو فى التخطيط العمراني.. فكانت الأمسيات المعمارية التى كانت تعقد فى كل شهر هى وسيلة الحوار والنقاش والتساؤل والبحث فى أعماق الفكر الإسلامي للتعرف على وضع العمارة فى الإسلام سواء بالنص فى الآيات القرآنية والأحاديث النبوية أو بالقياس أو الاستنباط الأمر الذي أدى إلى الكتابة فى هذا الموضوع بعد ما يقرب من عشرين سنة من الحوارات والكتابات واللقاءات والأمسيات المعمارية .. ثم كانت بعد ذلك الدعوة التى وجهت إلينا إلى المؤتمرات والندوات المحلية والعالمية التى تناقش موضوع التراث وربط الأصالة بالمعاصرة والبحث عن هوية العمارة فى الإسلام .. فكانت اللقاءات فى مالطة وأندونيسيا والأردن والعراق وزنزبار ودبي والكويت وباكستان وواشنطن وفى عدد من الجامعات البريطانية حيث زرت أقسام العمارة والتخطيط العمراني فيها وكان آخرها فى مدينة أدنبره حيث دعيت إلى أمسية معمارية طلب فيها الحديث عن العمارة الإسلامية فحولت الحوار إلى موضوع العمارة فى الإسلام . وكانت كل هذه اللقاءات والأمسيات هى التى ساعدت على تثبيت وتركيز فكر العمارة فى الإسلام التى أتعرض له فى هذا الكتاب.

word
pdf