ســـور القاهـــرة العظيــــم

ســـور القاهـــرة العظيــــم2019-11-20T14:09:13+00:00

ســـور القاهـــرة العظيــــم

دكتور عبد الباقي إبراهيم

رئيس مركز الدراسات التخطيطية والمعمارية

 

التاريخ يعيد نفسه، لقد تميزت القاهرة القديمة بأسوارها وبواباتها التى أصبحت إحداها رمزا لمحافظة القاهرة، فكانت كل مدينة يقيمها الوالى يحيطها بسور كبير حرصا على أمن السكان وربما للحد من هجرة الريف إليها فكانت الفسطاط ثم القطائع ثم العسكر ثم قاهرة المعز ثم قاهرة صلاح الدين التى أحاطها بدر الجمالى بسوره المعروف… ثم انفتحت المدن وامتدت منها مدن أخرى مثل الإسماعيلية ثم مصر الجديدة والأوقاف ومدينة نصر، تعبر كل منها عن حقبة تاريخية وسياسية معينة، واليوم بدأ التفكير فى إعلان القاهرة مدينة مغلقة وظهرت هذه الدعوة من أجهزة الإعلام كما ظهرت من المسئولين عن القاهرة… وإغلاق مثل هذه المدينة يعنى العودة إلى الماضى، وإنشاء سور عظيم حول القاهرة الكبرى تتخلله بوابات كبيرة لا تدخل منها الجمال والدواب كما كان الماضى ولكن تدخل منها السيارات والقطارات ويقف عند كل بوابة جهاز للجوازات والهجرة وآخر للجمارك وتعود القاهرة بذلك إلى عهد العصور الوسطى ولكن فى القرن العشرين، كل ذلك للحد من الهجرة التى تزيد من مشاكلها يوما بعد يوم وتضغط على خدماتها ومرافقها العامة. والقاهرة التى تضم حوالى ربع سكان مصر تصبح بذلك ولاية من ولايات مصر الأمر الذى يتطلب إعادة النظر فى نظام الحكم المحلى القائم فيها.

ومشروع سور القاهرة العظيم يتعرض إلى جدل فنى حول مساره وعما إذا كان يحيط بالقاهرة الصغرى أو يتسع ليحيط بالقاهرة الكبرى بما فيها جزء من محافظة الجيزة وجزء من محافظة القليوبية، وهنا يظهر جدل آخر حول تبعية الإدارة العامة لشئون السور، فهناك اتجاه بان تكون هذه الإدارة تابعة لجهاز القاهرة الكبرى وهناك اتجاه آخر بأن تكون فى كل محافظة من محافظات القاهرة الكبرى إداراتها الخاصة بشئون جزء بالسور الذى يقع فى نطاقها الإدارى. ويتصور المهندسون السور العظيم على شكل أمبوب كبير يدور حول القاهرة على طول مسار الطريق الدائرى الذى يتم تصميمه تبرعا من أحد المكاتب الاستشارية ويموله البنك الدولى للتنمية والتعمير. ويمر بهذا الامبوب مترو سريع يصل بين بوابات السور العظيم والتى تقف عندها حركة المواصلات البرية والحديدية القادمة من خارج القاهرة الكبرى ليوزعها المترو على الأنحاء المختلفة للمدينة الكبيرة بعد المرور بإجراءات الجوازات والهجرة والجمارك، وهناك اتجاه آخر يهدف إلى شق مصرف كبير حول القاهرة تصرف فيه المياه الجوفية التى تعوم عليها القاهرة ثم تتحرك فيه خطوط نقل نهرية تربط بين أنحاء القاهرة الكبرى كما تقف أيضا عنده حركة المواصلات القادمة من خارج القاهرة وهكذا تصبح القاهرة جزيرة منعزلة يسهل إدارتها. هذا بالإضافة إلى ما سوف يوفره المصرف الجديد من إمكانيات زراعية كبيرة خارج المدينة شرقا وغربا لتعويض الاراضى الزراعية التى أكلتها مدينة الأوقاف.

ويتطلب إنشاء سور القاهرة العظيم العديد من الإجراءات الإدارية والمالية خاصة بالنسبة للضرائب والجمارك فهناك إتجاه بأن تتضاعف الجمارك على السيارات ووسائل النقل المختلفة داخل السور العظيم، كما تتضاعف الضرائب العقارية ورسوم تراخيص البناء أيضا وهناك اتجاه لفرض “رسم” جراج على كل سيارة تبيت فى الشارع أو الحارة على أساس أن الشوارع هى ملك للدولة وان إشغالها بهذا الكم الكبير من السيارات يقلل من كفاءتها واستثمارها. ويظهر اتجاه آخر بأن يكون التعليم العالى داخل السور العظيم بمصروفات إلا للمتفوقين من أبناء المدينة أو من خارجها. وترشيدا للطاقة يظهر اتجاه جديد يفرض على كل عمارة فى شارع وحارة أن توضع على واجهاتها مصباحا للإنارة بقوة إضاءة موحدة وشكل موحد يعيد إلى القاهرة ملامحها التراثية القديمة من اللوائح المقترحة للبناء توفير مجمع قمامة فى كل مبنى يجهز بحوض قلاب يفرغ حمولته مباشرة فى سيارات القمامة التى يعد لها موقف خاص بها ويتم ذلك فى الساعات الأخيرة من الليل بحيث تتبع هذه السيارات مصانع الأسمدة العضوية الموجودة عند أطراف المدينة لتحديد الاراضى الزراعية الجديدة بالسماد.

ومع اختلاف الرأى حول مسار سور القاهرة الكبرى تختلف الآراء أيضا حول إدارة المدينة وإذا كان من المرجح أن إنشاء السور حول القاهرة الكبرى سوف يتطلب نوعا جديدا من الإدارة المحلية يظهر فى صورة حكومة محلية مكون من مجلس وزراء محلى وميزانية محلية ومجلس نواب محلى وأجهزة إعلامية محلية بدأت بالقناة الثالثة للتليفزيون وذلك حتى تتفرغ الحكومة المركزية لشئون الدولة خارج السور بعد أن ثبت أن 40? من استثمارات الدولة يتركز فى القاهرة الكبرى التى تضم 25? من سكان مصر وان معظم إنجازاتها تصب أيضا فى القاهرة التى أصيبت بتخمة خطيرة وعسر هضم شديد لا تنفع معه إلا جرعة كبيرة من شربة ملح قوية تشربها حتى تستطيع أن تفرغ ما فى جوفها من فضلات إلى الخارج فى الصحارى التى تحيط بها، فلم تعد معدتها قادرة على هضم هذا الحجم من المشروعات وهذا الكم من الأنشطة الإدارية والتجارية التى ظهر طفحها على كل جزء من شرايين المدينة المريضة فى صورة محلات ومطاعم وورش وبنوك وشركات والمدينة المريضة بذلك تحتاج إلى جهاز تمريض قادر على العناية بها وضبط نبض الحركة فيها.. جهاز يتكون من ممرضين وممرضات من رجال الشرطة ذوى ثقافة عالية وزى جديد يتناسب مع الظروف البيئية التى يعملون فيها ويفرضون احترام القانون على الشوارع داخل السور العظيم فضابط واحد أو ضابطة واحدة فى شارع واحد خير من مائة خيال مآته موقعهم الطبيعى فى زراعة الأرض التى تتعرض للبوار.

ومن التنظيمات التى يتطلبها السور العظيم وضع بطاقات خاصة بسكان المدينة والبعض يقترح زيا موحدا أو علامات مميزة على الذراع الأيسر حتى يمكن التعرف على السكان المقيمين داخل السور من غيرهم. وقد يتطور الأمر إلى وضع نظام شبيه بنظام الجنسية التى تمنح لكل من ولد بالقاهرة الكبرى من أب قاهرى وأم قاهرية مضى على إقامتهما أكثر من خمس سنوات وبحيث تسقط الجنسية القاهرية على كل من يغادر المدينة لمدة أكثر من خمس سنوات متتالية وقد يتبع ذلك نظام خاص باستثمار المال العربى والاجنبى داخل السور العظيم بحيث تكون مساهمة القاهريين بأكثر من نصف حجم الاستثمارات المخصصة للمشروع وبحيث تخضع شركات الاستثمار الجديدة اللوائح والقوانين السائدة فى المدينة الكبيرة خاصة بنظم البناء وسعر الطاقة ونظام الضرائب المحلية وتشغيل الأجانب. وكل هذه الموضوعات سوف تتطلب دراسات تنظيمية وإدارية خاصة تحتاج إلى إعادة النظر فى قانون الحكم المحلى بهدف تطويره من واقع الممارسة الطويلة.

ويثير مشروع سور القاهرة العظيم العديد من ردود الأفعال على المستوى الاقليمى. فمواطنى الأقاليم التخطيطية التى حددتها وزارة التخطيط قد يطالبون بالحكم المحلى لأقاليمهم أسوة بالحكم المحلى للقاهرة الكبرى كأقاليم تخطيطى. وهنا تصبح أجهزة الحكم المحلى على مستوى المحافظات الإدارية قلقة من هذا الاتجاه حيث أنها لا تمثل أقاليم تخطيطية لها مقومات التنمية الاقتصادية الاجتماعية والعمرانية معا. فهى ليست إلا أقاليم إدارية فقط لم تتغير صورتها عن صورة المديريات من قبل. ومن جانب آخر تثير بعض الأقاليم التخطيطية عددا من التحفظات على مشروع سور القاهرة العظيم فبعضها يطالب بعدالة توزيع استثمارات الخطط القومية بالنسبة لعدد السكان ولا تستأثر القاهرة الكبرى بحوالى 40? منها وهى لا تضم إلا حوالى 25? من عدد سكان الدولة. وبعضها يطالب باستثمار نسبة أكبر من موارده المحلية. فالمناطق البترولية ربما تطالب باستثمار نسبة أكبر من عائد البترول فى التنمية المحلية وكذلك منطقة قناة السويس قد تطالب بنفس المبدأ. والمنطق فى ذلك أن تركيز الاستثمارات فى الوادى الضيق لا يساعد على الانتشار السكانى خارج الوادى ومن ثم تضاعف مشاكل المدن والقرى الحالية أكثر مما يساعدها على حل مشاكلها. وان توازن توزيع الاستثمارات على الأقاليم التخطيطية سوف يساعد على توازن التوزيع السكانى على المستوى القومى.

وإذا كانت مشاكل القاهرة هى نفسها مشاكل كل مدن وقرى مصر فإن فكرة إقامة سور القاهرة العظيم قد تنتقل إلى غيرها من مدن وقرى مصر وتعود جميعها لتمثل نماذج معاصرة من مدن العصور الوسطى وإلا لماذا تعلن القاهرة مدينة مغلقة لتستأثر هى بالنصيب الأوفر من الخدمات على حساب دافعى الضرائب فى الأقاليم الاخرى.
وسور القاهرة فى النهاية هو تعبير يحيط بكل فكر علمى أو أدبى أو ثقافى ويمصره فى داخله فالقاهرة كانت ولا تزال يطلق عليها اسم مصر.
وتعامل كأنها هى كل مصر، فمنها تصدر التشريعات ومنها تتخذ القرارات وعنها تتحدث وسائل الإعلام.. هى السور العظيم الذى يحيط بكل فكر.. فمتى ينفك هذا الحصار .

word
pdf