سياحة الفلاحين

سياحة الفلاحين2019-12-02T11:26:32+00:00

سياحة الفلاحين

د. عبد الباقي إبراهيم

الاهرام الاقتصادى 1993

 

تتركز صناعة السياحة أساسا على اجتذاب الأفراد والجماعات من كل أرجاء العالم بعد توفير كل وسائل الضيافة والارتقاء بوسائل النقل والأمن سواء كانت وجهتهم السياحة الثقافية أوالسياحة الترفيهية أوكلتيهما. وزاد على ذلك سياحة المؤتمرات والأسواق والمعارض الدولية. وتعتنى صناعة السياحة أيضا بتشجيع رؤوس الأموال الأجنبية والمحلية على الاستثمار السياحى، وخطت مصر فى هذا المجال خطوات واسعة وإن كانت لم تصل بعد إلى مناطق جذب بعيدة فى العالم. الأمر الذى أثرى الاقتصاد القومى وأمده بالعملات الصعبة.

وعلى الوجه الآخر من عملية السياحة تهتم الدولة بالسياحة الداخلية كمكون أساسى فى اقتصاديات السياحة. ويستفيد من السياحة الداخلية مختلف الطبقات تبعا لقدراتهم الادخارية ووعيهم السياحى وعادة ما يستفيد بالسياحة الداخلية سكان المدن من رجال الأعمال وأصحاب المهن وبعض الحرفيين والموظفين الذين زحفوا على الساحل الشمالى يتملكون منازلهم النائية فيما يسمى مجازا بالقرى السياحية … وفى كل ذلك خير لمصر ولبعض المصريين ولكن تبقى فئة لا علاقة لها بالسياحة من قريب أو من بعيد … وهى فئة الفلاحين الذين يصلون النهار بالليل سعيا وراء الرزق الذى تنتجه الأرض الزراعية ويقيمون فى المساكن الطينية ويستعملون الطرق والشوارع الترابية ويعانون من الأمراض المتوطنة بسبب النقص فى صحة البيئة وانتشار الميكروبات فى المصارف التى تستقبل مخلفاتهم. وإذا كان هناك قلة منهم تحاول أن يجد له مكانا لقدم على إحدى الشواطىء القريبة منها فإن الغالبية العظمى منهم والتى تبلغ أكثر من نصف سكان مصر لا يمارسون السياحة ويقتنعون بما يشاهدونه على شاشة التليفزيون فى برنامج ” خمسة سياحة”.

وإذا كانت الدولة تحتاج إلى رؤوس الأموال التى تساهم فى الاستثمار السياحى وإلى المدخرات التى توظف فى السياحة الداخلية بهدف زيادة معدلات الدخل القومى الأمر الذى ليس للفلاحين فيه دور على الاطلاق إلا أن الدولة تحتاج أيضا إلى ما هو بنفس الأهمية الاقتصادية وهو تحريك فائض السكان من الأراضى الزراعية إلى الأراضى الجديدة والعمل على خفض الكثافات السكانية العالية على المدن والقرى الزراعية فى نفس الوقت وذلك بتوجيه الاستثمارات فى برنامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية إلى حيث ما يجب أن يتواجد الناس وليس إلى حيث ما لا يجب أن يتواجد الناس. وهنا لابد من قناعة الفلاحين المكدسين على الأرض الزراعية التى أصابها التفتيت بأن يتحركوا إلى مجالات أخرى جديدة خارج الوادى الأخضر أو على أطرافه… ولكن لن يتم ذلك إلا بدعوة جماعات الفلاحين للقيام بجولات سياحية استطلاعية يتعرفون فيها على المناطق الجديدة فى سيناء أو الوادى الجديد فى مناطق الاستيطان فى الساحل الشمالى أوعلى أطراف الوادى … فالمعرفة الشخصية بالشىء تقضى على التهيب منه، والحركة المتواصلة إلى مناطق التعمير الجديدة تقلل من بعدها. ومراكز الاستقبال والاستعلام فى المناطق الجديدة تزيل الكثير مما قد يخفى على الناس وتوفر المعلومات الصحيحة مع الارشادات العملية.

فالفلاح المصرى يقضى معظم حياته لا يخرج من قريته إلا إذا اضطر للذهاب للمدينة القريبة لقضاء بعض حاجاته الملحة والعالم من حوله مجهول لا يعرف له عرضا أو طولا … مصر بالنسبة له هى القاهرة … وإذا دعته مصر للعمل فهو صادر من القاهرة التى تحمل اسم مصر كلها أما باقى أرجاء مصر من غير القاهرة فهى بعيدة عن العين بعيدة عن القلب لا يعلم عنها الفلاح شيئا … فهو يقيس رحلته بسرعة الدابة التى يركبها وليس بسرعة السيارة أو الطيارة… فهو بمقياسه بعيد كل البعد عن مناطق الجذب، إن كثرة تردده على هذه المناطق تقلل كثيرا من تهيبه منها. وتقلل كثيرا من الرباط المقدس بينه وبين أرضه القديمة التى لم يعد له فيها إلا أمتار معدودة سوف توزع بين أولاده من بعده. إن كثرة التردد على المناطق المبشرة بالخير سوف يفتح أمام الفلاح عوالم جديدة وأفاقا واسعة للعمل والانتاج.

وإذا كنا نرى مجموعات الفلاحين فى الصين يقدمون من كل الأرجاء ليتجمعوا فى الميدان الكبير فى العاصمة ” بكين ” ليتعرفوا على مقر الحكم الذى يحكمهم ولتزول عنهم ظاهرة الاغتراب عن الأحداث التى تؤثر فيهم، فلا أقل من أن نرى مجموعات الفلاحين فى مصر يجوبون أرجاء البلاد للتعرف على أرجائها التى تبشر بالخير لهم ولأولادهم من بعد أن المعرفة بالشىء هى نصف الطريق إلى الحل. وهذه دعوة لنوعية أخرى من السياحة … سياحة الفلاحين … أمرها متروك لمن عنده قوة البصيرة.

وسياحة الفلاحين لابد وأن تمتد إلى المعارض الزراعية التى تقام فى المناطق الجديدة وأكثر من ذلك إلى مراكز البناء بالجهود الذاتية التى تتبع أجهزة تعمير هذه المناطق. إنها سياحة التنوير والترشيد لهذه الفئة المحرومة من العديد من مقومات الحياة الكريمة. فلا يكفى أن نوفر له مياه الشرب ولا نستطيع توفير الصرف الصحى لمخلفاته التى تملأ المصارف. ولا يكفى أن نوفر له الكهرباء التى تنير له الطرق ولا تدير له السواقى فهو بسياحته الجديدة سوف يرى أن مستقبله ومستقبل أولاده من بعده مربوط بمناطق التعمير الجديدة بدلا من الالتفاف حول المدن فى مناطق عشوائية يعيش فيها على فتات المدينة ويصبح عرضة للخروج عن العرف والقانون.

إن سياحة الفلاحين هى أول الطريق للخروج من هذا الوادى الضيق الذى تكاد تختنق فيه الملايين إن لم تصبهم المجاعات فى مستقبل الأيام، إن سياحة الفلاحين سوف تساعد على الارتقاء بالمستوى الاجتماعى والاقتصادى والبيئى لهذه الفئات من المناطق الجديدة، فلنفتح لهم الأبواب ونوفر لهم وسائل الانتقال والاتصال. ولو على حساب الدولة ولا أقل من أن يعامل أبناء الفلاحين كمعاملة شباب المدن وإذا كانت هذه الفئة قد حرمت كثيرا فى الماضى والحاضر… فلا أقل من أن نعينها ونفتح أمامها أبواب المستقبل المشرق.

word
pdf