سياسة الاسكان وتفجير طاقات المجتمع للبناء

سياسة الاسكان وتفجير طاقات المجتمع للبناء2019-12-03T09:35:17+00:00

سياسة الاسكان وتفجير طاقات المجتمع للبناء

د. عبد الباقي إبراهيم 

أستاذ بهندسة عين شمس 

 

الأهرام 26/2/1992 

 لا تستطيع الدولة أن تبنى إلا ما يقرب من 5 % من الوحدات المطلوبة على المستوى القومى فى حين استطاع القطاع الخاص المحدود الدخل بناء حوالى 80 % من حجم الاسكان حول مدينة مثل القاهرة فى صورة اسكان عشوائى. وإن دل ذلك على شئ فإنما يدل على قدرة المجتمع على بناء الاسكان الاقتصادى دون تدخل من الدولة ما دامت توافرت له الأرض .. دون مقابل ولكن تحت شروط معينة لا تتيح له بيعها أو التصرف فيها إلا بالبناء. والمجتمع استطاع أن يوفر المياه والكهرباء ووسائل الصرف الصحى البسيطة .. وظهرت هذه المجتمعات السكنية معبرة عن احتياجات المجتمع مع تباين قدرات أفراده والنتيجة فى مجملها أقدر وأوفق من الاسكان الرسمى الذى تحول بعد فترة قصيرة إلى مناطق متخلفة بيئياً وصحياً وأمنياً والأمثلة كثيرة فى أرجاء القاهرة .

وإذا كان الحال كذلك فلمإذا تنفق الدولة كل ما تنفقه على الاسكان الاقتصادى طالما يستطيع المجتمع أن يبنى مساكنه الاقتصادية بنفسه، فليس على الدولة إلا أن توفر الأرض دون مقابل دون بيع أو تسجيل ولكن فقط لحق الانتفاع ثم بعد ذلك تفجر طاقات المجتمع فى البناء وتتخذ الاجراءات لزيادة عوامل الجذب إلى المناطق الجديدة .. ليس فقط على مستوى المدن الكبرى ولكن على المستوى القومى .. فمن العبث إضافة الوحدات السكنية على المدن القائمة فى المناطق الزراعية. كما أنه من العبث إضافة أى مبان للخدمات أو المؤسسات الادارية والتجارية فى هذه المدن التى تتعرض لحالة من التخمة تكاد تقضى على كيانها العمرانى والاجتماعى والاقتصادى معاً. وإذا كانت الدولة قد وضعت بعض القوانين التى تهدف إلى الحفاظ على الأراضى الزراعية إلا أنها لم تضع البديل للامتدادات العمرانية المتوقعة بالرغم من أى قانون. والاجراءات التى تساعد على زيادة عوامل الجذب إلى المناطق الجديدة وزيادة عوامل الطرد من المناطق القديمة ترتبط أساساً بتغيير قانون العلاقة بين المالك والمستأجر وهوالقانون الذى لم يجد الشجاعة الكافية لاصداره على مدى السنوات السابقة. كما ترتبط أيضاً بالضرائب العقارية وأثمان الخدمات والمرافق العامة. وذلك بخلاف نظام الحوافز للعاملين فى المناطق الجديدة. ودعم القيمة الإيجارية فى مناطق الجذب بما يتوازن مع القيمة الإيجارية المعدلة فى القانون الجديد الذى يحدد العلاقة بين المالك والمستأجر فى مناطق الطرد. ومن الطبيعى أن تواجه مثل هذه الاجراءات بالمقاومة من المواطنين المقيمين فى مناطق الطرد والمتمتعين بالإيجارات المخفضة والخدمات السهلة والمرافق الميسرة .. ومن الطبيعى أن تؤثرهذه المقاومة علىإتخاذ القرار بالنسبة لهذه الاجراءات وهو القرار الصعب الذى يتطلب الشجاعة وإلا فسوف تستمر الحالة كما هى عليه بل وسوف تزداد تعقيداً ..

وإذا رجعنا إلى أرقام النتائج الأولية لتعداد السكان فسوف نفاجأ بزيادة عدد الوحدات السكنية على عدد الأسر ووجود فائض من الوحدات السكنية يقدره البعض بنحو 1.8 مليون وحدة ويقدره البعض الآخر بنحو 2.5 مليون وحدة وذلك نتيجة لظاهرة تخزين الوحدات السكنية وهذه ظاهرة طبيعية يلجأ إليها المجتمع عندما يشعر بالقلق وعدم الاحساس بالأمان على مستقبله ومستقبل أبنائه حتى نجد العديد من أصحاب العقارات يحتفظون بوحدات سكنية لأنجالهم وأحفادهم ، وهذا وإن كان حقاً لهم فإنه يعطل كماً كبيراً من موارد الدولة المتمثلة فى مواد البناء والتجهيزات المعمارية .
 

 إن تفجير طاقات المجتمع فى البناء لا بد أن يتم فى إطار الاستراتيجية العمرانية للدولة. فالإسكان العشوائى وإن كان له إيجابياته فهو أيضاً له سلبياته التى كادت تخنق بها المدن والقرى على حد سواء. لأنه ينمو حول المناطق التى تزداد بها فرص العمل خاصة فى المدن الكبيرة التى تمتص نوعيات مختلفة من العمالة الطفيلية غير المنتجة والتى تعيش على فضلات مجتمع المدينة كما تعيش على خدماته ومرافقه .. وسوف تستمر هذه الظاهرة وتتفاقم إذا ما تركت الأمور دون تخطيط لتحريك فرص العمالة إلى مناطق التعمير الجديدة وذلك بتوفير عوامل الجذب فيها فى نفس الوقت مع توفيرعوامل الطرد من المناطق المزدحمة. فكيف يمكن جذب الفائض السكانى من المناطق المزدحمة إلى المناطق الجديدة، والعائلة فى المناطق المزدحمة تسكن فى وحدة سكنية لا يزيد إيجارها الشهرى على خمسة جنيهات. الأمر الذى لا يتوافر مثله فى مناطق التعمير الجديدة. لذلك لجأ أصحاب المصانع فى المدن الجديدة إلى توفير وسائل النقل لعمالها الذين يقيمون فى المدن القديمة بدلاً من توفير المساكن المناسبة لهم بجوار مصانعهم .. وحتى إذا تم ذلك فإن العامل الذى يسكن مسكناً بإيجار منخفض فى المدن القديمة لن يتركه بل سوف يختزنه أيضاً له ولأولاده وتتفاقم بذلك ظاهرة تخزين المساكن مرة أخرى ما لم تظهر عوامل جديدة طاردة من المدن القديمة مثل رفع ايجارات المساكن فيها بما يتناسب مع الواقع ومستويات الدخل وعمر السكن ..

إن تفجير طاقات المجتمع لبناء الاسكان الاقتصادى قد يصطدم بالعديد من المعوقات الإدارية والفنية والاقتصادية خاصة فيما يرتبط بتوفير مواد البناء الأمر الذى يتطلب تغييراً جذرياً فى صناعة البناء بحيث يوزع إنتاجها النمطى من خلال ما يشبه الجمعيات التعاونية الاستهلاكية أو مرفق البناء بحيث يكون المنتج قابلاً للنقل والتركيب سواء بواسطة عمال المرفق أو بواسطة ورش البناء الصغيرة أو بواسطة السكان أنفسهم إذا نجح مبدأ المشاركة الشعبية فى البناء وهو المبدأ الذى طبق فى العديد من دول العالم الثالث بالجهود الذاتية وبتكنولوجيا البناء المتوافقة بعيداً عن التعقيدات التكنولوجية .. وهنا لا بد من إعادة النظر فى توزيع الانتاج من صناعة البناء بحيث يوجه معظم الانتاج النمطى إلى الجمعيات الاستهلاكية لمواد وتجهيزات البناء التابعة لمرفق البناء .. ويوجه الباقى إلى الاسكان المتوسط أوفوق المتوسط. وترفع الدولة يدها عن التدخل عن عمليات البناء نفسها حيث يتعدد المقاولون ثم مقاولو الباطن ثم مقاولو باطن الباطن الأمر الذى يرفع سعر تكلفة الاسكان الرسمى إلى أضعاف ما يمكن أن يقيمه المجتمع بنفسه كما هو حاصل فى مناطق الاسكان غير الرسمى المسمى بالعشوائى أو غير المخطط عمرانياً.. كما يتحدد هنا نصيب الفرد أو الأسرة من إنتاج صناعة البناء بحيث يأخذ المشاركون فى بناء الاسكان الاقتصادى نصيبهم المناسب ويأخذ القادرون على بناء الاسكان المتوسط أوفوق المتوسط نصيبهم المناسب أيضاً وما يفيض عن ذلك يوجه بأسعار أعلى للقادرين على بناء الفيلات والشاليهات فى القرى السياحية. وهنا لابد من التمييز فى هذا الشأن بين احتياجات التنمية لبناء القرى الفندقية واحتياجات التنمية لبناء القرى التعاونية لعامة الشعب واحتياجات التنمية لبناء قرى المصايف الخاصة للقادرين من أفراد الشعب، وهو الأمر الذى يدخل بطبيعة الحال فى اطار الفكر السياسى والاقتصادى للدولة .

ولقد انتشرت جمعيات الاسكان التى يسعى معظمها إلى المضاربة فى الأراضى وتبقى الأرض بعد مدها بالمرافق سنوات عديدة دون استثمار أو استغلال وتتعرض المرافق العامة إلى التلف والانهيار . وإذا تم البناء فى أحيان أخرى أعلنت جمعيات الاسكان عن بيع ما وفرته من وحدات سكنية وتحولت الجمعيات بذلك إلى شركات عقارية تتاجر فى الوحدات السكنية مثلها مثل معظم شركات الاسكان فى القطاع الخاص . والنتيجة الحتمية لهذه السياسة هو عدم تحقيق الهدف من توفير الوحدات السكنية لذوى الدخول المحدودة .. مما يستدعى إعادة النظر فى قانون ونظم تعاونيات البناء التى خرجت عن أهدافها ولم تعد توفرالمسكن لمن لا مسكن له ولكن توفر المسكن أو أكثر لمن له مسكن حتى يربح من عمليات البيع المباشرة أو بالوكالة. ولم تقتصر مهمة تعاونيات الاسكان على توفير المساكن لمن لهم مساكن ولكن أيضاً لتوفير الفيلات والشاليهات لهم فى القرى السياحية ليتمتعوا بها ثم يعرضوها للبيع بعد ذلك .. إن جمعيات الاسكان فى تكوينها الحالى وبنفس النظم واللوائح التى تحكمها حالياً تعتبر أحد المعوقات أمام تفجير طاقة المجتمع فى بناء الاسكان الاقتصادى الأمر الذى يتطلب تقويم نتائج هذه الجمعيات لنرى أن معظم ما أنتجته من وحدات سكنية مغلق أو مختزن. وأن عدداُ كبيراً من أراضى البناء التى وفرتها لأعضائها لم يتم بناؤها أو استثمارها .

إن تعاونيات الاسكان لا يهمها إلا توفير الوحدات السكنية فى أى مكان قابل للتعمير دون اعتبار إلى استراتيجية قومية أو أهداف انتاجية. بمعنى آخر دون ربط السكن بالعمل وتوجيههما إلى مناطق التعمير الجديدة .. الأمر الذى يستدعى النظر إلى مفهوم الاسكان التعاونى ليصبح انتاجياً واسكانياً معاً. ولن يتحقق ذلك إلا بربط برامج التنمية الاقتصادية الاجتماعية ببرامج التنمية العمرانية ..

إن تفجير طاقات المجتمع لبناء الاسكان الاقتصادى يمكن بربط سياسة الاسكان فى المدن الجديدة بتنمية الصناعات الصغيرة أكثر منها بتنمية الصناعات الكبيرة مع إعطاء الأولوية للصناعات التى تتطلب عمالة أكثر من الصناعات التى توفر فيها الأيدى العاملة. من هنا يظهرالاتجاه إلى بناء ما يسمى بالقرى الانتاجية فى المناطق الجديدة كبديل للقرى المنتجة فى المناطق القديمة .

وإذا كانت التنمية العمرانية تتطلب التكامل الاقتصادى لعناصر التنمية فإن القرى الانتاجية الجديدة يمكن أن تمثل الكفة المتوازنة للقرى السياحية التى بدأت تظهر فى مناطق التعمير الجديدة، ترتبط بها وتتكامل معها وتشاركها الخدمات والمرافق العامة خاصة وأن القرى السياحية لا تستعمل إلا فترات قصيرة من السنة . وهكذا ترتبط سياسة الاسكان بسياسة الانتاج فى الدولة .
 

فلم تعد سياسة الاسكان مرتبطة فقط بقوانين ولوائح الاسكان أو بتكوين الجمعيات التعاونية أو بتوفير أعداد كبيرة من الوحدات السكنية فى خطط سنوية أو بوجود مخزون من الوحدات السكنية المغلقة أو بفرض التصميمات النمطية للعمارات السكنية على المدن المصرية القديمة والجديدة. فسياسة الاسكان فى مصر المزدحمة بسكانها لا بد أن تنبع من الاستراتيجية القومية للتعمير والانتاج والانتشار على الأراضى الصحراوية والحفاظ على كل شبر من الأراضى الزراعية حتى ولو تطلب الأمر تفريغها من الفائض السكانى عليها. ولم تعد أهداف برامج التنمية الاقتصادية الاجتماعية هى زيادة الدخل القومى اقتصادياً بنسبة معينة ( 7 % مثلاً ) بل زيادة الرقعة المأهولة بالسكان على الأراضى الصحراوية حتى ولو حققت نسبة أقل من الدخل القومى على المدى القصير للخطط الخمسية. فالخطط الطويلة الأجل هى النموذج الأمثل لمتطلبات التنمية القومية فى مصر بصفة خاصة. لذلك يصبح تقييم نتائج دراسات الجدوى الخاصة بالمشروعات الانتاجية أو الخدمية مرتبطاً بمدى تحقيقها لأهداف الاستراتيجية القومية لغزو الصحراء .

word
pdf