شاهد عيان على عمارة البلدان

شاهد عيان على عمارة البلدان2019-12-01T09:16:31+00:00

شاهد عيان على عمارة البلدان

جريدة الوفد 10/12/1994

 

قال ابن خلدون فى مقدمته الشهيرة ” الملك بالجند … والجند بالمال … والمال بالعمارة … ” وقال ابن الازرق فى كتابه
” لا جبايه الا بالعمارة … ولا عماره الا بالعدل … وفى السياسة بالعدل عمرت الأرض وقامت الممالك … ” وقال أيضا أن الظلم يؤدى إلى خراب العمارة فاذا كان الظلم بتوجيه الأموال إلى غير مستحقيها أدى ذلك إلى ترك العمارة. هذه مقتطفات من اقوال السلف الصالح فى معالجة المصالح … ويظهر أن الخلف ليس خيرا من السلف – وفى هذا المجال يقول فى ” شاهد عيان على عمارة البلدان ” أنه فى بداية القرن العشرين وفد إلى مصر من أهل الفرنجه رجل فطين كان يسمى البارون امبان الذى وجد فرصته فى سوق العمران …فمد نظره بعيدا عن الأرض الخضراء حيث وجد ضالته فى بحر الصحراء … وكان عنده حاسة الاختيار دون أن يتردد أو يحتار … فوضع عينه على أرض قحلاء لا نبات فيها ولا ماء، قريبة من عين شمس الواحة حيث وجد فيها مياه الآبار بالواحه … ولما كان من الماء كل شىء حى … وضع تصوره لبناء أول حى، وعقد مع كبار المسئولين عدة اجتماعات انتهت معهم إلى توقيع الإتفاقات … فكانت أول شركة تعمير يساهم فيها جمع كبير، وكانت بداية الانطلاق مع الجهد والعمل الشاق…

فبدأ بتكوين الإدارة القادره على انجاز الأعمال والمؤهله لحسن الاستقبال. فلا عقد ولا تعقيد ولكن تذليل كل عائق شديد. المهم هو جذب المستوطنين وإغراء المستثمرين … وكان الخواجه شديد الفصاحه ومتميزا  باللباقة والفصاحة. فشق طريقا واسعا بدأ من ضاحية العباسية وانتهى إلى قلب المنطقة التجارية … سماه الخليفة المأمون وكان محكم التصميم … آمن ومأمون … زرعه بالنخيل والأشجار لمزيد من التجميل والابهار … وسير عليه تراما أبيض اللون ليجذب إليه العيون… ثم بنى فندقا لعظماء الجيل وأنشأ بجواره حلبة لسباق الخيل، هكذا كان يجذب القادرين بالشمال واليمين.. ليبنوا لأنفسهم القصور إلى أن تستقر الأمور… بعدها جذب العاملين فى البنوك والشركات وأقام لهم المساكن من كل المستويات … ووفر لهم المراكز التجارية المتميزة بالملامح المعمارية … وجاءت الجمعيات تبنى المدارس والمستشفيات … وكان هم الخواجه الحرص على نظافة المكان ليزيد من جذب السكان … ثم بنى لنفسه صرحا من العمارة الهندية وبازيليكا من العمارة البيزنطية … وهى الكنيسة التى دفن فيها … بعد أن قدم للمصريين نموذجا من التخطيط والتعمير… فلم يكن مهندسا ولكن كان له عقل كبير.

وفى جنوب المحروسة بدأ فى الثلاثينيات مشروعات أخرى مدروسة … منها الضاحية التى سميت بالمعادى كمنوذج إرشادى على مساحة من الأرض الصحراوية على ضفة النيل الشرقية … شمال حلوان الضاحية الصحية … أخذت المعادى مياهها من النيل وانتشر فى كل ارجائها الاشجار والنخيل … وامتلأت المعادى بأرقى المدارس والنوادى … ولفت فيلاتها الأشجار فى صورة تأخذ الأبصار … عالجت المشاكل البيئية بالوسائل الطبيعية … وفى شمالها خططت جاردن سيتى المدينة الحدائقيه على أحدث الطرق الإنجليزية … انتشرت فيها الحدائق والقصور تحمل ملامح العمارة من كل العصور… وحتى ما أن دخلت المحروسة حقبة الاربعينيات اختطت الأوقاف لها مدينة للفيلات … تخطيطها لم يكن فى الحسبان الذى اختاره البارون امبان للانتشار على الأراضى الصحراوية ولكن بالعكس انتشرت على الأراضى الزراعية، واقتلعت منها المزروعات وما لبثت أن امتلأت بالعمارات … لو رأها البارون إمبان  لقتلته الأحزان … من هنا بدأ تخريب الديار فى وضح النهار … دون وازع أو رقيب من بعيد أو قريب … واستمر الحال على نفس المنوال .. فزحفت شبرا على الأراضى الزراعية تلتها الجيزة حتى الحرانية … وهكذا انتشر فيروس العمران وكأنه سرطان يقتل الأرض الزراعية ويزرعها بالأعمدة الخرسانية … اعتبرها العامة من الناس طفرة حضارية مع انها فى الواقع نكبة انسانية … وقف أمامها الحكام دون حركة أو كلام.

وفى زيارة مدروسة للقاهرة المحروسة فى بداية الستينات – وجدنا العديد من المخططين السامعين الطائعين … وكان منهم من خطط لآلاف الصناعات فى مختلف المدن بالمحافظات … من صناعات الصلب والحديد حتى صناعة اقفاص الجريد … وافتى أن مصر بذلك دخلت عصر الصناعة وستبقى بها حتى قيام الساعة … ولم يدر أنه بذلك يجبر السكان على الاستقرار فى نفس المكان دون اعتبار لامتداد العمران الذى يأكل الزروع ويعرض البشر للفقر والجوع … وأفتى سلطان زمانه وهو جالس فى مكانة تخفيف الضغط عن العاصمة المحروسة يتطلب خططا مدروسة. فلجأ إلى أحد شباب المخططين عسى أن يقول له آمين. ويطلب منه تصميم جامعة جديدة على أرض طمية شديدة …وعندما اشار عليه المخطط الصغير بتحريك المشروع إلى صحراء بلبيس نهره وكأنه ابليس … وقال له اذا كنت ناسى فهذا قرار سياسى ،، وخرج المخطط الصغير يحمل خيبة الأمل على ظهر أكبر جمل … وانقلبت فى عقله النظريات وصاحب السلطة لا يدرى ما هو آت … من مصاعب ومشكلات … فقد تزاحم العمران واختفت الزراعات … وتكررت المأساة بقرارات  عشوائية دون ادراك للأهمية … ودعا سلطان زمانه وهو جالس فى مكانه بتوسعة طريق القاهرة الاسكندرية الزراعى … هكذا دون أى داعى … الا ما تصوره بأنه سوف يخدم المستوطنات … ويوفر جميع المتطلبات  … وهو لا يدرى انه بعد قليل من السنوات سوف تنمو على جانبيه الطفيليات، كما أمر أمير الامراء بمد شبكة تغذى الريف بالكهرباء على امل ان تدور بها السواقى لتروى الارض الشراقى … لكن ما حصل هو انتشار الثلاجات والغسالات وتبعها التليفزيونات والفيديوهات … ثم أمر أمير الأمراء بمد شبكة لتغذية الريف بالماء . دون ادراك ضرورة الصرف الصحى حتى لا ينهار المستوى الصحى … وبذلك قربت القرية من المدينة وضاعت ملامحها الريفية وامتدت منازلها الخرسانية على الاراضى الزراعية ولم تترك فرصة لتعمير الاراضى الصحراوية.

هكذا كانت عشوائية القرار التى خربت الديار وفى نفس الوقت والزمان اصدر رئيس الديوان أمرا بتخفيض الايجارات واتخاذ جميع الإجراءات التى تهدف إلى إغلاق سوق العرض والطلب بالضبه والمفتاح وذهبت عقود الايجار ادراج الرياح … فصفق لذلك المستأجرون وهم فى غفله لا يدركون ولا يفكرون فيم سوف يكون … ولما رأى السلطان ترحاب الجماهير قام بإحكام الرقابة على التأجير … وزاد فى التخفيضات وهو لا يعلم بما هو آت … من انتشار العشوائيات وتزاحم المحلات … وتفشى الموبقات وعموم الفساد صفوف العباد … وهكذا زحف العمران على الزراعة فى أسوأ خليط دون خطه أو تخطيط … والادارة ترقب تفشى هذا السرطان وكأنهم عمى أو طرشان … حتى اذا ما ظهر هذا الهباب الذى يسمونه الإرهاب .. انفتحت الابواب وخرجت الاموال … بعد ان ساءت الاحوال … وقامت الإدارة المحلية بقيادة المعركة المصرية … عسى ان تجد لها مخرجا من هذه الورطة بعد ان كثر الآذان فى مالطة .. وهكذا كانت عشوائية القرار سببا فى خراب الديار.

وفى بداية السبعينات … انتشرت الدعوات والصيحات بضرورة الخروج من الوادى والانتشار بالعمران فى البوادى … وكانت سيناء من قبل بعيدة المنال … وكان دخولها من المحال … فكانت منطقة معزولة … موصودة لا موصولة وعندما اجتاحها التتار فى وضح النهار اقاموا فيها عدة سنوات استثمروا كل ما فيها من خيرات … واكتشفوا فيها الشواطىء والأعشاب وجذبوا اليها الاذناب والاحباب إلى ان شاء الله وصحت الأمة .. وذهبت  الغمة … وأزيلت الأسوار وأضيئت الأنوار … هنا بدأ التعمير يعبر القنال إلى سيناء على ظهر القوارب بهدوء وتثاقل … حتى بدأ اكتشاف ما فيها من كنوز من رأس محمد حتى قرية الفيروز … ثم عقدت الندوات ونظمت المؤتمرات وأعدت الدراسات والمخططات … واجتمعت اللجان … ولجان اللجان التى أدعت انها أخذت كل شىء فى الحسبان … ولكن يظهر انه لم يحن بعد الاوان … وتهدأ  العاصفة التى ليس لها من دون الله كاشفة … وعسى ألا تتكرر عشوائية القرار التى تؤدى إلى خراب الديار.

وبعد مرور الايام والسنين قام صاحب السلطان بتقسيم الساحل الشمالى إلى قطع من الاراضى … بالتقاضى والتراضى … وباعها للجمعيات لعلها تقيم عليها المشروعات واذا بها فيلات وشاليهات اطلق عليها مجازا سياحية مع انها فى الواقع منتجعات طائفية … امتصت الفائض من المدخرات حيث لا مجال آخر غيرها من الاستثمارات … يقيم فيها أصحابها قليل من الأيام ثم تقفل أبوابها بقية العام … وهذا فى حكم الشرع للمال إهدار … لا علاقة له بالاستثمار … وهكذا اغلقت المستوطنات البشرية ذات الوظائف الانتاجية، وكان ذلك نتيجة القرار الذى لا يعرف له قرار … ثم أمتدت الرحلة إلى مدن الصعيد عسى ان يوجد فيها جديد … فقد وضع لها من المخططات العديد ، ومع ذلك لم تلتفت اليها الأنظار … وبقيت طويلا فى غرفة الإنتظار … حتى ظهر فيها هذا الهباب الذى يسمونه الارهاب … وفى الحال تغيرت الأحوال … واتجهت الانظار إلى غرفة الانتظار تعتذر عن النسيان وتطلب الغفران وتجرى الأجهزة لتهيئة المكان لاستقبال مشروعات التنمية والعمران … لعل وعسى تصدق الاقوال وتتحقق الآمال وتتحسن الأحوال … إنها أمنيات تحتاج إلى دعم من التشريعات والقرارات . واذا بالسيول تكشف المستور … وتنهمر الأمطار كالبحور … وتخرج الأموات من القبور، وتجرى النار فى الاراضى كالأنهار تحرق الكبار والصغار … وتنهار المنازل المقامه وكأنه يوم القيامه … وتخرج الهيئات تجرى فى جميع الجهات تسأل عن العون والهبات … وتصدر التعليمات والتصريحات … وتضع فى برهة المخططات والتصميمات … وتقدم البطاطين وتلعن عمارة الطين … ولم ترجع فى ذلك إلى المراجع التى عالجت إسكان الريف ولم تنظر للخبراء من ذوى القصد الشريف … ولم تتعلم بعد ان عشوائية القرار هى اساس الدمار… مع انها قد مرت من قبل  بزلزال لا يزال على البال .. ويظهر ان السلطان يؤمن فى مصر أن الانسان سريع النسيان … وإن غدا سوف تهدأ  الامور … ويرجع الغطاء ليخفى المستور.

وواصلت القافلة المسيرة بتعليمات كثيرة تبحث عن علاج للمدن الجديدة من أمراضها العديدة .. فصدرت التوجيهات للطبيب الشاب ان يبيع أراضيها للأحباب … ولأصحاب المدارس والجامعات وانشاء نمط واحد للفيلات وهو يتصور بذلك انه يقيم ضاحية مثل المعادى كمشروع ارشادى … او مثل مصر الجديدة التى اقيمت من مدة بعيدة … ولفتت اليها الانظار قبل ان يصيبها الانهيار … مع ان التعمير ليس بالنقل أو التقليد ولكنه بالخبرة والفكر السديد … بالتخطيط الذى يرى المستقبل القريب،  مع المستقبل البعيد … فقد أصاب الناس الحيرة من كثرة المساكن المهجورة، فقد اصبح هناك إسكان بلا سكان … بينما هناك سكان بلا اسكان … كل ذلك بسبب عشوائية القرار الذى ورث الايجار … وحشر الناس فى غرف كالكرار، واختلط الاموات بالأحياء من ساكنى القبور … وغيرهم من ساكنى العشش والجحور … وعمارة الفقراء لا يهتم بها أحد من السادة الاغنياء والساسة الأدعياء الذين كونوا الجمعيات وشيدوا لهم من القصور والفيلات ما فاق الخيال مما لم يخطر لأحد على بال … دون إدراك بما يجره ذلك من وبال … وارتفعت العمارات متحدية القوانين والقرارات والدولة فى نوم سبات … وعندما هزها الزلزال … قامت تجر الاذيال … تبحث عن الحلول عند أصحاب العقول … وفجأة ينفخ فى البوق ان انفروا الى الشروق واحجزوا الاراضى فى كل موقع فاضى … ومن لم يصبه الدور فعليه بالتوجه للعبور لعل فيها مكانا بعد الغاء تخطيط الالمان … وامتدت اليها أفواه الحيتان … فان لم تجدوا فيها المطلوب فعليكم بالسلام … وهذا ليس آخر الكلام … فهناك القطامية التى تعانى من نقص المرافق الخدمية … والا فلتتجهوا إلى المعادى الجديدة لعل فيها فرصة اكيدة .. وان لم تجدوا شيئا فليس أمامكم الا الهروب لمدينة الغروب … فليس هناك خطة موضوعة مكتوبة … أو مسموعة … فما هى الا افكار وتوجيهات تخطر على البال، وبسرعة يتخذ القرار فى أى وقت بالليل أو بالنهار … إنها العشوائية التى تؤدى إلى شر البليه، وينتهى متسائلا عن المصير … ويرد قائلا انه بيد الله العلى القدير … فلم يعد هناك حول للمخططين ولا قوة للمنفذين … والجواب دائما عند السياسيين الذين عندهم علم اليقين فعندهم جميع الأسرار التى يؤسسون عليها القرار … والجميع من خلفهم يتفرجون …. يتكلمون ويكتبون بكل الحرية والجدية … ولكن لا يشاركون فى اتخاذ القرار بحجة ان الوقت لا يتحمل الانتظار … وتسير الامور كما يريد السلطان فى وضح النهار … وعندما تظهر الاخطاء يتبرأ الجميع من المسئولية وكأن ما جرى كان بيد خفية … هذه هى آثار الدمار الذى سببته عشوائية القرار.

word
pdf