عمارة الفقراء الأولى بالرعاية عشوائيات

عمارة الفقراء الأولى بالرعاية عشوائيات2019-12-01T09:38:21+00:00

?عمارة الفقراء الأولى بالرعاية عشوائيات

 

الأهرام الاقتصادى 27/6/1994

 

دخلت العشوائيات قاموس العمل الوطني واصبحت تجب كل عمل يتم بلا هدف او غرض واضح .. وانتقل التعبير من المناطق العشوائية  إلى القرارات العشوائية إلى التحركات العشوائية .. وغيرها . وقد عرفت المناطق العشوائية بأنها المناطق غير المخططة ونشأت دون اعتبار للقواعد والقوانين المنظمة للبناء . وهذا يخالف الواقع فهذه المناطق مخططة بالجهود الذاتية التي تعكس المتطلبات المعيشية والاجتماعية للسكان وذلك بالتلقائية النابعة من القيم الثـقافية السائدة فى المجتمع والتي تنعكس على النسيج العمراني لهذه المناطق كما تنعكس على مواد وطرق الانشاء المستعملة فى البناء تماماً مثل تلقائية المدينة الاسلامية القديمة فى القاهرة أو صنعاء او الرباط أو فاس .. مع الفارق .. حيث لا وجود للخط المستقيم فى التخطيط او للنمط الواحد فى تقسيم الاراضي ، فكل عائلة لها تقسيمة من الارض لها ابعادها الخاصة تختلف فى المساحة تبعاً لقدرة الانسان على البناء . تماماً مثل تلقائية بناء القرى المصرية التي لم يخططها مخطط بل اقامها المجتمع تبعاً لمتطلباته المعيشية والاجتماعية والامنية التي افرزت شارع دائر الناحية والنجع والعزبة . ولم تكن السيارة من متطلباتهم المعيشية بل سير الدابة والمشاه . الاختلاف الوحيد بين المدينة الاسلامية القديمة والمناطق العشوائية ( التلقائية ) الحديثة ، أن العلاقات الانسانية والقيم الثـقافية فى الاولى كانت اكثر نضجاً منها فى الثانية ، الامر الذي اثر على مستوى البناء والاسكان . كما ان الاولى كان يحكم مسيراتها المحتسب والقاضي ، الامر الذي تفقده المناطق الثانية مع ان بعض هذه المناطق العشوائية ( التلقائية ) كانت قادرة على توفير المرافق من مياه وكهرباء بطرق تعاونية وذلك فى غياب اي تدخل من خارج هذه المناطق التي لم تجد من يعاونها من السلطات المحلية .

وظاهرة العشوائية هي ظاهرة طبيعية افرزتها اليات التنمية القومية التي توجه استثماراتها الى حيث ما لا يجب ان يكون الناس وليس إلى حيث ما يجب ان يكونوا وهذه ابسط قواعد التنمية الاقليمية ، فاذا كانت القاهرة تمتص حوالي 40 % من الاستثمارات القومية لخدمة حوالي 20 % من سكان مصر . فالنتيجة الحتمية ان تستقطب القاهرة باستثماراتها الباحثين عن الرزق من الصعيد والدلتا . وهكذا بالنسبة للمدن الكبرى مثل الاسكندرية وطنطا وغيرها من عواصم المحافظات وان كان ذلك بنسب متفاوتة . فظاهرة العشوائية ظاهرة قومية افرزها غياب البعد المكاني فى التنمية القومية الذي بدأنا نبحث عنه بعد تفاقم المشاكل بالرغم من الدعوات المستمرة من خبراء التخطيط الذين ضاعت نداءاتهم ادراج الرياح وحل محلها القرار السياسي الذي لا يرى البعد الزمني للقرار السياسي . ان قرار انشاء جامعات فى الاقاليم كان قراراً عشوائياً حيث جر الوباء العمراني على عواصم هذه الاقاليم وقراها مع ان الاراضي الصحراوية كانت متاحة شرقاً وغرباً من الرقعة الزراعية  ، وهكذا بدأت المناطق العشوائية (التلقائية) تنمو من بداية الستينات ولم يعترضها أحد .. بل بالعكس قامت الدولة بتقنين وجودها لتجذب مزيداً حولها . ولم يكن ايقاف هذه المناطق يحتاج إلى استثمارات بل كانت تحتاج اكثر إلى قرارات توجه الاستثمارات إلى حيث ما يجب ان يكون الناس وليس إلى حيث ما لا يجب أن يكونوا . وهكذا استشرت هذه الظاهرة التي احاطت بكل المدن كأحزمة فقر تكاد تطبق على هذه المدن . ان السياسة التي تتبناها الدولة بالارتقاء بالمناطق العشوائية ( التلقائية ) ومدها بالمرافق والخدمات وشق الطرق بها لتسهيل العمليات الأمنية .. سوف تساعد على استقرار اكثر الفئات التي تعيش فى هذه المناطق . وكان من الممكن توجيه الاستثمارات المخصصة لذلك ولو جزئيا إلى حيث ما يجب ان تكون هذه الفئات مع توفير فرص العمل فى المناطق الجديدة بأسلوب التعاون الانتاجي السكني كما فى العديد من دول العالم الثالث . ويكفي تجربة مترو الانفاق والكباري العلوية فى القاهرة التي امتصت حجماً كبيراً من الاستثمارات كان يمكن توجيهها إلى مناطق جديدة يتوفر فيها العمل والسكن وتمتص بالتالي زحام المرور المتولد عن الانشطة التي تتكثف فى العاصمة .

وهنا تتكرر النغمة القديمة مرة أخرى بضرورة الاهتمام بتطوير القرية حتى لانقذف بالفائض السكاني فيها إلى المدينة الكبيرة. مع أن القرية تعاني من الضغط السكاني اكثر من المدينة الكبيرة.. ويكفي تجربة الطرق الكثيرة التي شقت فى الارض الزراعية لتجذب اليها مزيداً من العمران الذى يأكل بالتالي ما تبقى فى مصر من أرض زراعية . وقد يكون فى ظاهر هذه المشروعات نعمة قصيرة الأمد ولكنها فى واقع الأمر نقمة  على المدى الطويل ، الأمر الذي يجب أن تعيه القيادات السياسية صاحبة القرار . فهناك من القرارات العشوائية التي تصدر دون ادراك بمشاكلها الجانبية ..

فالقانون الذي يمنع البناء على الاراضي الزراعية خارج نطاق القرى الذي حددته الخرائط المساحية عام 1986 لا قيمة له فى الواقع لأن القرى قد تضاعفت مساحتها حتى عام 1993 على الارضي الزراعية اذ أن القانون قد صدر دون توفير البديل لإمتصاص هذه الزيادات السكانية العمرانية .والبديل كان فى توزيع الاستثمارات إلى حيث ما  يجب ان يكون الناس و ليس إلى ما لا يجب أن يكونوا. وهكذا تتوه اصوات الخبراء والمخططين فى خضم بحر السياسة وامواجه . واذا كانت القياده السياسية قد جمعت خبراء الاقتصاد لتستمع لأرائهم فى اسلوب الاصلاح الاقتصادي الذي بدأت نتائجه تظهر على الساحة المصرية ، فقد آن الوقت لأن تدعو القيادة السياسية متخذة القرار خبراء التنمية الاقتصادية الاجتماعية العمرانية لتستمع لارائهم فى رسم خريطة مصر المستقبل ، الأمر الذي يحدد مصير مصر المستقبل ويفسح الطريق للاصلاح الاقتصادي ان يؤتى ثماره ، فليس المهم هو اصدار القرارات  بالارتقاء بالمناطق العشوائية من ناحية وتخطيط المناطق الجديدة حول مدن الصعيد او فى سيناء . ولكن المهم هو ايجاد الاليات القادرة على تحقيق الاستراتيجية العمرانية للدولة ، الامر الذي يحتاج إلى اعادة الهيكل التنظيمي لإدارة الدولة وتطوير اسلوب اتخاذ القرار على كل المستويات القومية والاقليمية والمحلية ، حتى يخرج عن المركزية الشديدة التي لا ترى المشاكل الا فى شوارع القاهرة وأحيائها حيث مراكز المعلومات ومراكز الاعلام ومراكز القرار ، ان الاستراتيجية الامنية للدولة تستدعي فى المقام الاول استراتيجية لتوزيع السكان على اوسع رقعة من الارض. ان معالجة المناطق العشوائية ( التلقائية ) التي بدأت فى بعض المدن لا بد وان تواكبها خطة  لتوطين الفائض السكاني من المدن القائمة فى مناطق جدبدة تختار بعناية وذلك من خلال آليات قادرة على الاختيار والانتقاء من مناطق الطرد وتوفير عناصر الجذب الاقوى للإستيطان الجديد هذا لا يتم من خلال بناء مساكن جديدة فى مناطق جديدة ولكن عملية متكاملة من التنمية الاقتصادية والاجتماعية العمرانية المتواكبة .. وهنا تظهر أهمية ادارة وتنظيم عملية التنمية المتكاملة اكثر من وضع بعض المخططات والبرامج فى ضوء بعض الاحصائيات . ان متطلبات التنمية تحتاج إلى وضع المخططات والبرامج فى ضوء الامكانيات الادارية والتنظيمية المتاحة والقادرة على نقلها من حيز النظرية إلى الواقع وهذا هو اساس النظرية المعاصرة فى التنمية المتكاملة والمتواصلة .

وتبقى مشكلة العشش منفصلة عن المناطق العشوائية ، فالاولى لها صفة الايواء المؤقت بينما الثانية لها صفة الايواء الدائم .. والعشش تمثل صورة قائمة فى النسيج العمراني للمدينة المصرية . كما انها تمثل اعتداء لاسافرا على اراضي الدولة التي لا تجد لها صاحباً يحافظ عليها . كما تمثل ظاهرة العشش مصدراً للجرائم الاخلاقية والامراض الاجتماعية ، يعمل سكانها فى الانشطة المحرمة أو الاعمال الطفولية . والعشش بذلك تصبح الأولى بالازالة الفورية سواء تواجدت فى المناطق العشوائية
( التلقائية ) أو خارجها .. الأمر الذي يتطلب شجاعة فى المواجهة وقدرة على التنفيذ بعد الاعلان والاعلام . واذا كان اصحاب العشش قادرين على اقامة مساكن الايواء المؤقت لهم ـ فيمكنهم  البناء بأنفسهم اذا ما توفرت لهم المواد والأرض تحت الرعاية الاجتماعية والفنية بدلا من توفير مساكن جاهزة لهم سوف تكون زريعة لغيرهم لانشاء مزيداً من العشش بهدف الحصول على مساكن اخرى مستقبلاً وهكذا .. وهنا يظهر دور الجمعيات الخيرية فى بناء المساكن والتي قد يمتد نشاطها لأيواء من لا مأوى لهم . فالدولة بكل مواردها لا تستطيع ان تواجه ايواء من لا مأوى لهم بالاسلوب التقليدي فى بناء الوحدات السكنية الاقتصادية مهما كان حجمها او شكلها فهي لن تصل إلى قدرة من لا مأوى لهم على دفع مقدمات مهما قلت قيمتها .. وتهدف الجمعيات الخيرية لبناء المساكن إلى اعطاء الدفعة الأولى لمن لا مأوى لهم للأيواء . ثم رعايتهم بعد ذلك واستثمار جهودهم  الذاتية لأستكمال مساكنهم واعطائهم الفرصة للمشاركة  فى الاسر المنتجة  التي يمكن ان تسدد بعض اقساط الاسكان منها مستقبلاً وما على الدولة الا توفير الاراضي لهذه الجمعيات كي تباشر أعمالها وتوفر لها دلائل الاعمال الفنية للتخطيط والبناء ويمكن الاستفادة فى هذا المجال لتجارب المنظمات غير الحكومية فى دول العالم الثالث ، وما توفره منظمة الامم المتحده للأستيطان البشري من معونات فنية .

واذا كانت الدولة تسعى إلى اطلاق حرية سوق الاسكان للعرض والطلب فلن يستفيد من ذلك الا القادرون من اصحاب الدخول المتوسطة والاعلى . وتبقى عمارة الفقراء معلقة دون رعاية او عناية لا ينفعها عرض او طلب .. ولا ينفعها نظام البناء بأسلوب المقاولات . والحل يمكن بعد ذلك فى انشاء الجمعيات الخيرية للأسكان تمول من حصيلة الزكاه والتبرعات وغيرها من الموارد والمعونات الدولية .. هذا هو السبيل إلى ازالة خطر العشش ومواجهة مشكلة العشوائيات .

word
pdf