عن الإسكان… لا تعقدوا الأمور أكثر مما هي عليه

عن الإسكان… لا تعقدوا الأمور أكثر مما هي عليه2019-11-21T14:55:44+00:00

عن الإسكان… لا تعقدوا الأمور أكثر مما هي عليه

أ.د عبد الباقي إبراهيم

رئيس مركز الدراسات التخطيطية والمعمارية

 

تعقيبا على ما كتبه الدكتور ميلاد حنا تحت عنوان ورقة الشفاء لأزمة الإسكان.. حل ضريبي لفتح الشقق المغلقة.. وما سبق ذلك مما كتبه عن الطريق إلى العدالة في توزيع المساكن أو المساكن القديمة إتحاد لسكانها.. وما تم في هذه الموضوعات من مناقشات وما أدلى عليها من آراء.. وإشارة إلى ما نشرته الصحف اليومية عن الدراسات التي أعدتها جامعة عين شمس عن الجوانب الاقتصادية لمشكلة الإسكان.. أو ما جاء في تصريحات السيد وزير الإسكان عن مشروعاته لبناء المساكن بدلا من المدافن.. أو عن خطته لبناء مدينة لإسكان الشباب في شمال مطار القاهرة الدولي.. أو ما يقبل عليه السيد الوزير من اقتراحات للحفاظ على سلامة المباني وجودة البناء وغير ذلك من الموضوعات المتناثرة التي تعالج الجزئيات في المشكلة دون الكليات.. والتي تتعامل مع الفروع دون الأصول.. فهي في نظرنا تزيد من تعقيد الأمور أكثر مما هي عليه من تعقيد وهناك اتفاق على أن أجهزة الدولة لم تعد قادرة على تحمل أعباء أكثر.. سواء في مجال الضرائب, خاصة في موضوع شائك وغير محدد المعالم مثل موضوع الشقق المغلقة, أو مجال التنظيم الإداري لاتحادات السكان, أو توزيع المساكن الشعبية الحكومية.. كما أن هناك اتفاق على أن مشكلة الإسكان جاءت نتيجة للعديد من القوانين المتداخلة أو المتباينة أو المتراكمة, وهي لا تتحمل مزيدا من القوانين أو اللوائح لتزيد الأمور تعقيدا على تعقيد..

وإذا تابعنا مقال الأستاذ عبد الرحمن عطية في الأهرام الاقتصادي (3/12/1984) عن الأوضاع الظالمة لملاك العقارات القديمة لرأينا مدى التخبط الذي كان سائدا في أوائل الستينيات, والذي أهدرت فيه الشريعة والشرعية وأعطت الحق للتوريث لمن لا يستحق, هنا كان أصل الداء ومنبت المشكلة, كما أن ما جاء في الصفحة الأخيرة من الأهرام الاقتصادي (3/12/1984) للدكتور علي الدين هلال عن القاهرة تبحث عن مسئول يوضح لنا أن هناك خلل كبير في التنسيق بين أجهزة التخطيط والتنمية والتعمير والإسكان والحكم المحلي والمحافظات إلى درجة أفقدت الأمور مقوماتها العلمية أو التنظيمية أو الإدارية.. هذا بالإضافة إلى ضعف الكفاءات الفنية فيها إلى الدرجة التي انمحت فيها مسئولية وكلاء الوزارات وأصبح الوزير هو المحرك الأول والأخير لجميع الأمور في وزارته أو محافظته.. تدفعه دوافع شخصية ونفسية لا يقدر عواقبها على المدى الطويل, وهو الإنجاز السريع وفي أقرب وقت ممكن لأن ذلك تثبيت لصورته أمام الحاكم الذي يعين أو يقيل الوزراء.. فأصبح الوزير على قمة السلم الوظيفي في الدولة.. مع أن وظيفته ليست ثابتة.. تتغير فتتغير معها الخطط والأولويات والمفاهيم, وتنتظر الأجهزة ما يشير به الوزير دون أن يكون لها رأي في تسيير الأمور.. وهذه أكبر المشاكل الإدارية والتنظيمية التي تكاد تشل حركة الإنتاج والتطور والانطلاق.. والإسكان جزء من هذه الحركة.

فإذا نظرنا إلى موضوع إسكان الشباب نرى أن ما اتخذ فيه من قرارات أو وضع له من إجراءات لم تكن تهدف إلى شيء إلا توفير الأعداد الوفيرة من الوحدات السكنية بأي شكل وفي أي مكان كهدف سياسي لمواجهة مشاكل الشباب حتى قيل أن الغاية هو أن يعرف الطالب قبل أن يتخرج من الجامعة ويخرج إلى الحياة العامة أن له مسكن ينتظره في مكان معين وبقدر معين يتسلمه بعد وقت معين.. فأي منطق هذا الذي يحدد مكان الإقامة دون أن يحدد أولا مكان العمل.. وأي منطق يحدد مكان العمل دون أن يوفر أولا الفرص الجديدة للعمل.. هذا في الوقت الذي تقيم فيه الدولة العديد من المشروعات الثقافية والتعليمية والصحية والإدارية والمالية والإنتاجية.. داخل المدن القائمة فتستقطب إليها العمالة الجديدة لتبحث عن المسكن الجديد على الأراضي الزراعية المحيطة بالمدن أو تتزاحم في الإسكان القائم في هذه المدن. وترتفع الصرخات مرة أخرى بسبب التزاحم السكاني وتفاقم حالة المرافق والخدمات العامة.. فترتفع الأدوار لتنهار المباني.. وتدور الحلقة.. هكذا دون استراتيجية عمرانية ملزمة لكل الهيئات وكل الوزارات. ومع هذه الظاهرة الخطيرة تنشر تصريحات المسئولين التي تقول أن الطريق الدائري لمدينة القاهرة مثلا سوف يوفر مناطق لاستيعاب عشرة أضعاف سكان مصر الجديدة أي حوالي سبعة ملايين نسمة جدد لتقيم على قلب القاهرة.. وكأن توفير الإسكان في أي مكان وبأي شكل هو الهدف الأول والأخير أو هو المحرك السياسي لكل التصريحات والإجراءات هذا في الوقت الذي يؤكد فيه المخططون أن أي مسمار يدق في القاهرة هو بمثابة مسمار يدق في نعش القاهرة..

ومن الغريب في هذه البلد أنه في السنوات الأخيرة اجتمعت اللجان الاستشارية والعلمية مرات ومرات وصدرت عن اللجان القومية والجامعية دراسات و دراسات. و تقدمت الجهات الدولية والأجنبية باقتراحات وتوصيات كلها حول مشكلة الإسكان, ومع ذلك فلا نرى حركة أو خطوة تتقدم بها حتى إلى مجال الحل وليس في نطاق الحل نفسه- فالدارسون لمشكلة الإسكان يستطيعون الرجوع إلى العديد من القوانين التي صدرت منذ أوائل الستينيات حتى الآن ليروا كيف أدت هذه القوانين إلى التعقيد المستمر للمشكلة.. لأن كل قانون كان يصدر لحل جزئية معينة فإذا به يعقد جزئيات أخرى وهكذا, كما يستطيع الدارسون لمشكلة الإسكان الرجوع إلى العديد من التصميمات والتخطيطات التي أعدت من قبل ليروا كيف أدت إلى انهيار حالة الإسكان والعمران في المدن المصرية لأنها كانت توضع بسرعة لمواجهة أغراض وقتية لتثبيت أهداف سياسية.. كيف إذن يمكن تصور حالة العمران في مصر وهي تتفاقم يوما بعد يوم.. حتى وقفنا عاجزين أمامها.. متى إذن تتحرك الأمور..

لقد اتخمت مصر بالدراسات وشبعت من التوصيات والاقتراحات وانتشر فيها حمى الندوات والمؤتمرات وأصابها مرض اللجان واللجان المنبثقة عن اللجان.. وقد حان الوقت لها أن تشفى من هذه الأمراض لتتحرك في إطار إستراتيجية عمرانية واضحة وبرامج مفصلة تنفذ على المدى الطويل والقصير.. لقد حان الوقت لأن يلتقي فكر الخبراء بفكر الجماهير للاتفاق على الهدف ووضع خطط الوصول إليه مهما كانت الصعوبات فكل يهون أمام المواطن المصري.. ما دام يرى الهدف والمصير ماثلا أمامه في وضح النهار فيشارك في تحقيقه والوصول إليه.. هذا ما ننتظره من القيادة السياسية. لقد أصبحت مشكلة الإسكان في مصر كالثوب العتيق الذي انتابته آفة اللوائح والقوانين وملأته البقع البالية من المشروعات الارتجالية حتى أصبح باليا لا يتحمل المزيد منها, فالتعرض لمشكلة الإسكان بأوضاعها الحالية أصبح دربا من الدوران حول النفس يصيبها بالدوخان وفقدان الوعي, الأمر الذي يتطلب بداية جديدة من منطلق جديد على أرضية جديدة لا تشوبها الرقع البالية من اللوائح والقوانين أو المشروعات الارتجالية.. أرضية مبنية على الشرعية السماوية التي تنظم التعاملات والعلاقات الإنسانية.. أرضية مبنية على إستراتيجية واضحة لتعمير الأرض الجرداء لتزرع بالمصانع والأشجار.. أرضية مبنية على الدعوة الشاملة لصد الخطر الذي يهدد مستقبل المدن والقرى في مصر التي أصبحت كالسرطان تأكل كل ما تبقى من قوت الشعب في الأرض الزراعية.. أرضية مبنية على نظرة مستقبلية يشارك فيها المجتمع بخبرائه ومسئوليه أفراده.. أرضية مبنية على برامج عمل منظمة لفرق عمل منظمة تضرب في جميع الجهات بفكر واحد وهدف واحد قبل ان تغلبنا الأمور فلا تقوم لنا بعد ذلك قائمة.. إنها معركة التنمية والتعمير.
ight;”>

word
pdf