غرفة عمليات لما بعد الزلزال

غرفة عمليات لما بعد الزلزال2019-12-03T13:25:21+00:00

غرفة عمليات لما بعد الزلزال 

 

نوفمبر 1992

 
عندما كانت مدينة لندن تدق بأطنان القنابل المدمرة يوميا أثناء الحرب العالمية الثانية ، كانت جميع الأجهزة الرسمية والتطوعية تعمل على انقاذ الجرحى ودفن الموتى وازالة آثار التدمير الرهيب ، وكان السكان يلجأون يوميا الى الخنادق والملاجىء تحت الأرض ، وكان الشعب يعيش على نظام شديد من التقشف فى المأكل والملبس ، والامهات يحملن أطفالهن ويهاجرن بهم الى معسكرات خاصة فى المناطق الريفية . كانت مبانى لندن تنهار يوميا وتشب فيها الحرائق من جراء الضرب الجوى المستمر. فى أثناء هذه الاحداث المتلاحقة وعلى مدى سنين الحرب الثانية كان هناك المخططون والعلماء الذين لاعلاقة لهم بالانقاذ أو العلاج أو التسكين والتموين يعملون ليل نهار فى مخابئهم يدرسون ويبحثون فى مستقبل هذه العاصمة بعد أن تضع الحرب أوزارها … وانتهت هذه الدراسات فى عام 1945 الى وضع المخطط الاول لمستقبل لندن الكبرى سعيا الى تخفيف الضغط السكانى فى العاصمة وإنشاء تجمعات سكنية جديدة حولها بهدف توزيع السكان على أوسع مساحة ممكنة من الارض لعلاج المشاكل التى ترتبت على زحام العاصمة والتى كانت طعمة سائغة للقنابل والغارات التى فاقت كل الزلازل والكوارث … وعندما وضعت الحرب أوزارها بدأت أعمال البناء والتعمير فى المدن الجديدة بعيدا عن المناطق العمرانية المزدحمة. 

واذا كانت مصر قد مرت بعدد من الحروب والكوارث فى العصر الحديث بداية من نكسة 1967 الى زلزال اكتوبر 1992 كما مرت بعديد من الازمات المترتبة على التكدس السكانى الرهيب فى المناطق المزدحمة فى المدن القائمة ، فيظهر ان الدروس المستفادة منها لم تنته بعد … وان كانت مصر قد بدأت نشاطها فى المدن الجديدة منذ 1975 ثم فى انشاء التجمعات السكنية حول القاهرة منذ 1987م الا ان هذا النشاط لم يحقق كل أهدافه نظرا للتضارب فى التوجهات الاقتصادية. فبينما الاسكان فى المدن الجديدة ينهار فى اطار الاقتصاد التعاونى أو الحر تجد الاسكان فى المدن القديمة لا يزال يدار فى اطار الاقتصاد الاشتراكى الذى يقيد القيم الايجارية ويخضعها للقوانين التى صدرت فى أوائل الستينات والتى لا تساعد بأى شكل من الاشكال على النزوح الى المدن الجديدة . ومع كل ذلك زادت المشاكل الامنية والصحية والاجتماعية فى المناطق المزدحمة فى المدن القائمة ولم تتضح بعد الابعاد التنفيذية والتشريعية لتحقيق الاهداف الاستراتيجية العمرانية للدولة والتى تهدف الى خلخلة المناطق المزدحمة فى المدن القديمة وتشجيع الهجرة الى المدن الجديدة ، وربما يكون ذلك راجعا الى عدم الرغبة فى الدخول الى معركة التهجير وربما يكون ذلك راجع الى جماعات الضغط التى استشرت مصالحها فى المخالفات البنائية والمتاجرة فى أراضى الدولة ، وربما كان ذلك راجعا الى ضعف الاجهزة التنفيذية والرقابية. 

واستمر الحال الى أن طلبت القيادة السياسية البحث عن مخرج قابل للتنفيذ لتأمين مستقبل القاهرة وكان ذلك فى أوائل 1992م ، وأمرت بتشكيل لجنة قيادية لوضع تصوراتها العملية لمواجهة مشاكل القاهرة وتحديد مستقبلها . واجتمعت اللجنة وقدمت مرئياتها لرئيس الوزراء ، وانتهى الامر الى هذا الحد دون الاعلان عن النتائج أو الاساليب أو التوصيات وفقدت العملية مصداقيتها … وفى نفس الوقت شكل وزير التعمير لجنة خاصة للبحث فى أسلوب تفريغ المناطق المزدحمة فى القاهرة من نسبة الانشطة والسكان التى تزيد على الطاقة الاستيعابية لهذه المناطق … وتوقف نشاط اللجنة فور تشكيلها . ربما تحسبا لما تسفر عنه اللجنة القيادية التى شكلت بقرار من رئيس الوزراء … وتوقف الامر الى هذا الحد … ثم أنشأت وزارة التعمير مع ذلك جهازا لتطوير منطقة القاهرة التاريخية وذلك بالتنسيق مع الجهات ذات العلاقة مثل : الاوقاف والآثار ومحافظة القاهرة ، دون أن يكون لمثل هذا الجهاز الصلاحيات الكاملة لتطوير المنطقة شاملة الاختصاصات التى تنتقل اليه من الجهات السابقة ذات العلاقة كما هو الحال فى مشروع تطوير صنعاء القديمة أو مدينة فاس أومدينة تونس أو مدينة حلب أو غيرها ، وقد تم التنبيه الى ضرورة انشاء جهاز له كل الصلاحيات لتطوير القاهرة الاسلامية منذ عام 1980م ، ولكن ما من مجيب. 

واذا كانت الدولة لم يقدر لها القيام بتفريغ الفائض السكانى من المناطق المزدحمة فى المدن القديمة ومنها على وجه الخصوص . مدينة القاهرة بسبب العوامل السياسية أو الاقتصادية أو الادارية أو التنفيذية بالرغم من التنبيهات العلمية على مدى ثلاثين عاما. فقد جاء زلزال اكتوبر رحمة للعالمين . اضطرت معه الدولة الى اسكان من فقدوا مساكنهم فى مناطق الاسكان الجديدة فجاء تفريغ القاهرة من عند الله الرءوف الرحيم ، وأصبحت الامور واضحة أمام القيادات التى انشغلت فى تدبير وسائل العلاج والاعاشة للمنكوبين وازالة آثار الزلزال وقامت جميع المؤسسات والهيئات تعمل بقلب رجل واحد تقدم مالديها من معونة لمواجهة هذه الكارثة القومية ، ولعل فى ذلك دافعا للبدء فى تقرير مصير المناطق المزدحمة فى القاهرة الكبرى ومستقبلها فى ضوء ما أصابها من انهيارات وتصدعات وما صاحب ذلك من وفيات واصابات . واذا كانت الدولة مشغولة بكل أجهزتها فى معالجة آثار الزلزال ، فلا أقل من أن تشغل نفسها فى نفس الوقت بمستقبل القاهرة وغيرها من المدن القديمة . هذه هى البداية…. وهذه هى الفرصة الذهبية التى يمكن أن يقتنع فيها المجتمع بضرورة الانتشار على رقعة أوسع من الارض واخلاء المناطق المتدهورة والحد من الارتفاعات والابراج والضرب على أيدى المخالفين للشروط الفنية والتشريعية سواء من المسئولين أو من أصحاب العقارات … وهذه فرصة ذهبية لاعادة النظر فى تأهيل المهندسين والفنيين حيث ظهر أن معظم المهندسين العاملين فى الادارات العامة للاسكان فى الاحياء ليسوا من المؤهلين فى أعمال البناء والتنظيم فمنهم مهندسو ميكانيكا أو كهرباء أو كيمياء أو تخصصات أخرى لا علاقة لها بالبناء أو التشييد. 

فى هذا الجو المشحون بالتضحية والجدية لا بد وأن تبدأ الدولة وبنفس القوة  والجدية فى تحديد الاستراتيجية العمرانية لمصر ووضع البرامج التنفيذية والتشريعات القانونية واللوائح التنظيمية التى تدعم هذه الاستراتيحية ، وتنقلها من حيز النظرية الى حيز التطبيق بعد أن تمت القناعة التامة بأهمية هذه الاستراتيجية ليس فقط لمواجهة أى هزات أرضية مستقبلة ولكن لمواجهة الهزات الاجتماعية والصحية والامنية التى تتوقعها أجهزة الاستشعار الفكرى من بعد. واذا كانت الدولة قد أقامت غرفة عمليات مركزية فى مجلس الوزراء لمواجهة المشاكل الناتجة من الزلزال ، فلا أقل من أن تقيم غرفة عمليات موازية لمواجهة مشاكل ما بعد الزلزال والمتمثلة  فى: الاستراتيجية القومية للتعمير … هذا هو التحدى الحضارى الذى تواجهه مصر قبل أن تدخل الدولة فى حالة الاسترخاء المنتظرة بعد الزلزال الكبير. واذا كان من فقدوا مساكنهم قد نقلوا الى مناطق الاسكان الجديدة للاستيطان الدائم فيعنى ذلك أنهم لن يعودوا مرة أخرى الى مناطقهم القديمة ، وهنا يمكن أن تتدخل الدولة لتعويض أصحاب الاراضى التى أخليت بانهيار مبانيها بأراض أخرى فى المدن والمجتمعات الجديدة ، مع الزيادة فى عوامل الطرد من الجهة الاولى وزيادة عوامل الجذب فى الجهة الثانية ، الامر الذى يتطلب العديد من اللوائح والتشريعات والنظم الادارية مع وضع البرامج التنفيذية التى تحقق هذه الاهداف ، واذا كان العديد من المدارس قد انهار فلا أقل من إعادة بنائها على مواقع جديدة فى المناطق السكنية الجديدة … وهكذا …

word
pdf