قانون التخطيط العمرانى لمن؟

قانون التخطيط العمرانى لمن؟2019-12-03T11:15:24+00:00

قانون التخطيط العمرانى / لمن؟ 

د. عبد الباقى إبراهيم

 

 

الأهرام الاقتصادى 12/1/1992 

يتم الآن مراجعة قانون التخطيط رقم 3 الذى صدر عام 1982م، لعل وعسى أن تجد بنوده المعدلة صدى لدى المسئولين عن التطوير العمرانى للمدن المصرية التى منها ما يقع فى قلب الأراضى الزراعية وهى كثيرة ومنها ما يقع على مشارف الأراضى الصحراوية وهى قليلة. فلا يزال مفهوم التخطيط العمرانى عند المسئولين عن الحكم المحلى عبارة عن تحديد عدد من المشروعات الهندسية مثل شق الطرق أوتوفير الصرف الصحى أو هو مجموعة من اللوائح المنظمة لقواعد البناء وتقسيم الأراضى. و هو المفهوم السائد فى أجهزة الحكم المحلى حيث يمثل نشاط التنمية العمرانية فى المحافظات نشاطا من أنشطة أجهزة  الإسكان فى بعض الأحيان أونشاطا مستقلا فى أجهزة خاصة تحمل نفس المسمى فى أحيان أخرى. وفى كلتا الحالتين تفتقر هذه الأجهزة إلى الخبرة والكفاءة التى تتناسب مع المفهوم الشامل للتنمية العمرانية الذى تتكامل فى إطاره المعطيات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية ويعمل على الرعاية المستمرة للنمو العضوى للمدينة كما يرعى النمو الاقتصادى والاجتماعى لسكانها فى إطار المحددات البيئية السائدة. 

وإذا كان الجهاز المركزى للتنظيم والإدارة قد اعتمد الهياكل التنظيمية والإدارية لأجهزة التنمية العمرانية فى المحافظات الا أن ذلك لم يتحقق بعد بالصورة المتكاملة فتارة ما توكل مسئولية جهاز التنمية العمرانية فى المحافظة إلى مهندس كهرباء وتارة توكل إلى مهندس ميكانيكا وتارة أخرى إلى مهندس زراعى ويندر أن يتولاها صاحب المؤهلات المناسبة…. وإذا كان جهاز التنمية العمرانية على المستوى المحلى يعتبر الجهاز الفنى للجان التخطيط العمرانى كما ينص على ذلك القانون الا أن هذه اللجان لا تزال بعيدة عن الإدراك العلمى للتنمية العمرانية فهى تجتمع لتقر موقعا مختارا لمشروع معين أولتوافق على تخصيص موقع معين لنشاط عام أوللنظر فى مشروع للصرف الصحى أولتعديل بعض لوائح تنظيم البناء فى شارع ما لصالح هدف ما ويعنى ذلك أن هذه الأجهزة وهذه اللجان تتعامل مع قانون التخطيط العمرانى فيما يختص بالمشاكل الآتية فقط دون النظر للمستقبل القريب أو البعيد. 

وهذا هو التعامل الطبيعى لمتخذى القرار الذين يسعون فقط لمواجهة المشاكل العاجلة للمواطنين دون تبصيرهم بالمشاكل التى سوف يواجهونها مستقبلا. وهنا تظهر الفجوة الكبيرة بين الفكر السياسى الذى يسعى للإرضاء العاجل لرجل الشارع والفكر العلمى التخطيطى الذى يسعى إلى مواجهة المشاكل بأبعادها العاجلة والقريبة والمتوسطة والطويلة الأجل بمنظار واحد وهذا ما يتطلب التعامل المستمر مع عملية التنمية العمرانية الأمر الذى يتطلب بناء الأجهزة القادرة على التعامل مع هذه العملية فى إطار الأسلوب الأمثل لإتخاذ القرار. وهنا يظهر البعد الديمقراطى فى التنمية العمرانية الذى يتمثل فى المشاركة الشعبية فى مراحل الإعداد والتخطيط والتصميم والتنفيذ. والمشاركة الشعبية هنا تحتاج إلى الإرتقاء بالمستوى الفكرى والثقافى للمجتمع حتى يستطيع أن يرى يومه كما يرى غده فى نفس الوقت… ولا يعتمد على مقولة “عيشنى النهاردة وموتنى بكرة”  بل يلتزم بالقول المأثور “اعمل لآأخرتك كأنك تموت غدا واعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا” ولكن يظهر أن متخذ القرار يعمل بمقولة “أعمل لنفسك كأنك تنقل غدا” وهذا هو سر التخلف الذى أصاب المدينة المصرية فى عصرها الحاضر. 

وعلى الجانب الآخر من الصورة تعمل المؤسسات التعليمية والعلمية على إعداد الخبرات التى تستطيع أن تتعامل مع عمليات التنمية العمرانية فى ظل قانون التخطيط العمرانى، ويزداد الخريجون والمؤهلون عاما بعد آخر ولا يجدون طريقهم إلى ما تأهلوا له بل تركوا ما تحصلوا عليه من علم وانطلقوا يبحثون عن أى عمل مكتفين باللقب الجامعى الذى حصلوا عليه فى مجال المقاولات أو التجارة أو السياحة …. على قدر ما لدى كل منهم من مؤهلات خاصة بعيدا عن المؤهل العلمى فاقدين بذلك سنوات طويلة من العمر قضوها فى تحصيل ما لا عائد من ورائه ما دام التخطيط العمرانى ما يزال بعيدا عن مفهوم معظم المسئولين على كافة المستويات التنظيمية و التنفيذيو والتشريعية …. وهنا يظهر التساؤل: قانون التخطيط العمرانى لمن؟ فى هذا المجال تحاول الهيئة العامة للتخطيط العمرانى أن تجد لها بعدا مكانيا لنشاطها الذى صدر به قرار إنشائها وذلك بإنشاء مراكز إقليمية للتخطيط العمرانى بدأتها بمركز الإقليم الثالث الذى يضم محافظات الشرقية والسويس والإسماعيلية وبورسعيد وسيناء الشمالية والجنوبية وتبدأ حاليا بإنشاء مركزا آخرا للإقليم الرابع الذى يضم محافظات وسط الدلتا … متبعا بذلك التقسيمات الإقليمية التى وضعتها وزارة التخطيط كأقاليم إقتصادية دون أن تقيم فيها الأجهزة القادرة على إعداد التخطيط الإقليمى الذى يغذى البرامج القومية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية. 

وهكذا قسمت مصر إلى أقاليم تخطيطية بلا أجهزة تخطيط إقليمى وأقيمت أجهزة التنمية العمرانية بلا أقاليم عمرانية … وهكذا تضيع المسئولية التخطيطية على المستوى الإقليمى ومن ثم تضيع على المستوى المحلى للمدن خاصة العالمية منها والتى تقع فى قلب الرقعة الزراعية والتى تنمو وتمتد ملتهمة آلاف الأفدنة سنويا دون خطة قومية تكبح جماحها الذى لايتوقف حتى فى ضوء القانون الذى يحد من الإمتداد العمرانى على الأراضى الزراعية والذى تطبقه وزارة الزراعة. 

وهكذا لا يزال مستقبل معظم المدن المصرية التى تقع فى الأراضى الزراعية غامضا فى غياب الاستراتيجية القومية الموجهة للتنمية العمرانية على المستوى القومى والاقليمى. فهل يتوقف نمو المدن القائمة فى الأراضى الزراعية عند حجم معين بعد زمن محدد أم تترك للانطلاق والنمو دون رابط، فإذا حد قانون الزراعة من نموها على الأراضى الزراعية فليس أمامها إلا النمو الرأسى حتى تصل إلى عنان السماء ومن ناحية أخرى لا تزال قوى الجذب فى المدن القائمة أقوى كثيرا من قوى الجذب إلى المدن الجديدة وهذا هو سبب تخلف هذه المدن الجديدة عن تحقيق أهدافها الاستيطانية. وإذا كان الأمر كذلك فلماذا إذن قانون التخطيط العمرانى ولمن؟ … هذه هى القضية. 

لقد تدهورت البيئة العمرانية فى كل من الريف والحضر على حد سواء فلا الريف أصبح قادرا على تحمل حجم سكانه ولا الحضر أصبح قادرا على استيعاب الزيادة المستمرة فى سكانه. لقد أصبحت نظرية حد الهجرة من الريف إلى الحضر نظرية بالية لتحل محلها نظرية أخرى تسعى إلى تفريغ كل من الريف والحضر من الفائض السكانى الذى يعتبر أساس المشاكل البيئية والصحية والاجتماعية والأمنية التى تواجه إنسان القرية والمدينة على حد سواء. ولم تعد المشكلة هى فى تطبيق التخطيط العمرانى بل هى تهيئة الاستراتيجية القومية التى تساعد على تطبيق هذا القانون …. ويتكرر التساؤل مرة أخرى عن جدوى قانون التخطيط العمرانى…ولمن؟  هل تستطيع الدولة أن تنقل الجامعات الإقليمية تدريجيا وعلى مراحل من مواقعها الحالية على الأراضى الزراعية إلى الأطراف الصحراوية وعلى أن تحل محلها إدارات الحكم المحلى التى تزاحم المواطنين فى مساكنهم وتصبح مبانى الجامعات مراكز حضرية إدارية تضم فى الوقت نفسه مدارس إبتدائية وثانوية. 

وهل تستطيع الدولة أن تنقل المصانع التى لاعلاقة لها بالإنتاج الزراعى من المناطق الزراعية إلى الأطراف الصحراوية بالتدريج وعلى مراحل. 
وهل تستطيع الدولة أن توجه إستثماراتها فى البنية الأساسية من المدن والقرى الواقعة فى الأراضى الزراعية إلى المجتمعات الجديدة على الأطراف الصحراوية. 
وإذا كان ذلك يبدو صعب المنال فى بدايته الا أنه فى النهاية سوف يؤكد البعد المكانى لبرامج التنمية الاقتصادية
و الاجتماعية. 

وإذا كان الاصلاح الاقتصادى قد حمل الشعب أعباء ثـقيلة فى بدايته انتظارا للأمل فى المستقبل، فإن ذلك ينطبق أيضا على الاستراتيجية القومية للتعمير.
فقد سبق أن وجهت الدولة إستثماراتها إلي توفير مياه الشرب فى الريف بقرارات سياسية دون النظر إلى المشاكل الجانبية التى نتجت عن هذه القرارات سواء فى تثبيت الفائض السكاني على الأرض الزراعية أوفى تدهور الحالة الصحية بسبب عدم وجود الصرف الصحي الذي يحول بطبيعة الحال إلى المصارف.

كما وجهت الدولة إستثماراتها إلى كهربة الريف بقرارات سياسية بحجة الحفاظ على الثروة الحيوانية وتشغيل السواقى بالكهرباء دون النظر إلى المشاكل الجانبية التى نتجت عن هذه القرارات سواء بالإقبال على إستعمال الأجهزة الكهربائية بكل أنواعها وإستقرار الفائض السكاني على الأرض الزراعية وبناء العمارات عليها….. واختلط الريف بالحضر كما اختلط الحضر بالريف وضاعت الملامح العمرانية لكليهما… وتفاقمت المشاكل.
لقد وجهت الدولة إستثماراتها لبناء الجامعات الإقليمية على الأراضي الزراعية بقرارات سياسية فجذبت معها العديد من الأنشطة التجارية والسكنية والإدارية وزاد الضغط السكاني على الأرض الزراعية وتستمر الدولة فى توجيه إستثماراتها بقرارات سياسية لشق الطرق فى الأراضي الزراعية لإجتذاب مزيد من العمران على جوانبها…. ويقف قانون التخطيط العمراني أمام كل ذلك عاجزاً عن التطبيق لا تعترف به قوى الضغط من أصحاب المصالح الخاصة، فلماذا إذن كان قانون التخطيط العمراني… ولمن؟

word
pdf