قوانين تنشر القبح وتقتل الإبداع

قوانين تنشر القبح وتقتل الإبداع2019-11-11T13:27:53+00:00

قوانين تنشر القبح وتقتل الإبداع

دكتور/ عبد الباقي إبراهيم

 

 

كثيراً ما تصدر بعض القوانين بحسن نية بهدف إحكام التنظيم والإدارة في مجال من المجالات وعادة ما يركز المشرع على الجوانب الإجرائية من الواجبات والتعليمات ثم الجزاءات حاسباً في كل ذلك جميع الاحتمالات التطبيقية آخذاً في الاعتبار العوامل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للمجتمع الذي يتأثر بالقانون أو يؤثر على تطبيقه. وكثيراً ما يستعين المشرع بالخبرات والتخصصات المختلفة العاملة أو المتعاملة مع موضوع التشريع ولكن يبقى الهدف الأساسي في فكر المشرع هو ضمان إحكام التنظيم والإدارة والإجراءات والجزاءات وفي معظم الأحيان يرجع المشرع إلى القوانين المماثلة السابقة التي كانت مطبقة في نفس المجال وثبت قصورها في تحقيق أهدافها ويحاول بعد ذلك تطوير موادها بما يتناسب مع المستجدات السياسية وما أسفرت عنه التجارب التطبيقية، وقد يتعرض القانون بعد فترة من الزمن إلى التعديل والتغيير والتبديل بالإضافة أو الإلغاء حتى يصبح بعد ذلك كالثوب المهلهل المليء بالرقع التي يتوه المجتمع في فهمها أو متابعتها أو التعامل معها الأمر الذي يعطى الفرصة لكل من يريد أن يتلاعب بها ويلف حولها من خلال الثقوب التي ملأت الأثواب. وقد تراكمت الكثير من القوانين التي لم تعد صالحة للترقيع الأمر الذي يتطلب تفصيل قوانين جديدة بفكر وأهداف جديدة لكي تتناسب مع متطلبات وطموحات ومتغيرات القرن الواحد والعشرين. من هذه القوانين قانون تنظيم أعمال البناء وقانون المناقصات وقانون تخطيط المدن وقانون الإسكان والتي لم تستطع وقف انتشار القبح العمراني والتي قتلت الإبداع في ثناياها .. فتخلفت المدن المصرية عن غيرها من المدن العربية في عمرانها وعمارتها فاختنقت وانعدمت جمالياتها كما تحدث أخبارها ..

القانون الأول – قانون تنظيم أعمال البناء الذي كانت بداياته في أواخر الثلاثينيات عندما استوردنا ملامحه الأساسية من فرنسا وطبق في إطار نظام البلديات الذي كان معمولاً به من قبل فانتظم العمران وأخذت المدن المصرية زخرفها وأزينت ويشهد على ذلك ماضي القاهرة والإسكندرية وبورسعيد والإسماعيلية وغيرها إلى أن انقلب الحال وحلت الإدارية المحلية محل البلديات وانحرف القانون ليتدخل في تحديد الإيجارات ووضع الاشتراطات وتنظيم الجزاءات .. فتوقف البناء وتدهورت الثروة العقارية واختلت البيئة العمرانية وبدأت المحاولات إرجاع الأمر إلى ما كان عليه من قبل ولكن بأسلوب الترقيع في القوانين السائدة وليس بأسلوب التجديد .. فمحتوى قانون تنظيم أعمال البناء لا يزال مصراً على أن البرج نصف الواجهة حتى ولو كان برج الثور .. دون منطق فهو يطبق على المباني السكنية والإدارية دون تمييز بينها ومع ذلك يتم تقفيل البلكونات بكافة الوسائل والأشكال التي تشوه المعمار .. ويصر القانون على تطبيق أبعاد خاصة بالمناور الداخلية التي لم تصبح مناسبة للتهوية والإضاءة الطبيعية ولكن لتجميع القمامة المتساقطة عليها من المطابخ مع أن هناك وسائل بديلة للتهوية والإضاءة والقانون من ناحية أخرى لا يهمه تشطيب المباني من الخارج كما لا يهمه أشكال التعلية على المباني القديمة ذات الطابع المتميز. وصدر القانون ليطبق شروطه البنائية على جميع أنحاء الجمهورية لا يخص مدينة على أخرى سواء بنيت في الصحراء أو في المناطق الزراعية .. وسواء كانت في الشمال الممطر أو في الجنوب الحار وسواء طبق في أطراف المدينة أو في قلبها بل يطبق في كل أحياء المدينة دون تمييز بينها .. سواء أكانت تاريخية أو حديثة وسواء كانت جديدة أو قديمة منهارة أو ذات طبيعة خاصة. وأكثر من ذلك استثنى القانون في ذلك القرى التي قد أخذت الملامح العمرانية للمدن .. كما أخذت المدن الملامح العمرانية للقرى .. فاختلط العمران وتوحدت مشاكله .. وعند تقديم الرسومات اللازمة لاستخراج تراخيص البناء لا يميز القانون بين الغث والثمين فمعظمها يقدم بشكل لا يمت إلى العمارة بصفة إذ ليست إلا خطوطاً هندسية تعنى فقط بالأبعاد المطلوبة للترخيص ومعظمها يقدم بأسلوب متدني بمقياس كبير يتوه فيه المهندس المراجع الذي لا يهمه إلا القياسات والمسميات في المساقط والارتفاعات .. دون أدنى معايير للقيمة المعمارية ويتم البناء ولا يهم القانون إلا التنفيذ من واقع الترخيص .. سواء تم التشطيب الخارجي أو لم يتم وسواء كان اللون الخارجي أبيض أو أحمر فهذا متروك للمالك .. مع أن واجهات المباني هي في الواقع ملكاً للمجتمع قبل أن تكون ملكاً لأصحابها .. وهكذا انتشرت فوضى العمران في كل مكان .. ويختلط قانون تنظيم أعمال البناء في صورته المتخلفة بالعديد من القرارات الوزارية والأوامر العسكرية والتداخلات التنظيمية والمفاجآت الروتينية حتى اختلطت الأمور وتاهت المسئوليات عند العاملين في الأحياء أو المتعاملين معهم من الجمهور.

أما القانون الثاني فهو قانون المناقصات الذي يعتبر العمل المعماري سلعة من السلع الاستهلاكية أو التجهيزات المكتبية أو إنتاج الثروة الحيوانية والزراعية .. وأغفل القانون أن العمل المعماري يتضمن جانباً من الإبداع الفني بجانب الانتفاع الوظيفي .. فقد أغفل قانون المناقصات هذه الطبيعة فربما تنص الدعوة للمناقصة المعمارية مثلاً على توريد عدد معين من اللوحات المعمارية على الطراز الإسلامي لتتولى الإدارات المالية بعد ذلك تقييم أسعارها ليفوز بها العطاء الأرخص .. ونفس الأسلوب قد يطبق على الأعمال الفنية والإبداعية الأخرى فقد تطلب الإدارة المالية مثلاً توريد وتركيب لوحات فنية من المدرسة الحديثة أو الكلاسيكية .. أو توريد وتسجيل قطعة موسيقية بالعود والكمان لزوم الترفيه عن العاملين هكذا دون محددات لقيم فنية. وفي حالات كثيرة تصر الإدارة المالية على أن يتقدم المعماري بسجله التجاري باعتبار العمل المعماري تجارة وقد تجاوبت بعض المكاتب المعمارية لذلك واستخرجت لها سجلات تجارية حتى تستطيع التقدم بها في المناقصات وأصبحت العمارة عندهم تجارة .. هذا في الوقت الذي يصر فيه قانون الضرائب أن العمل المعماري لا يتضمن إنتاجاً فنياً أو إبداعاً ثقافياً كغيره من الفنون المعفاة من الضرائب فالقانون لا يعتبر العمل المعماري به أي قدر من الإبداع الفني .. وهكذا ينتشر القبح ويقتل الإبداع في وجود وزارة للثقافة أضافت أخيراً إلى اسمها التنسيق الحضري .. ومع ذلك فلا ثقافة معمارية ولا تنسيق حضري .. ويحاول بعض المحافظين الحفاظ على القيم الجمالية والحضارية لعمران مدنهم لكن دون فعالية تذكر بسبب النقص في القدرات الفنية وغياب التوعية الجماهيرية فكثيراً ما تلقى مسئولية انتشار القبح على المواطنين الذين لا يميزون بين الغث والثمين مع أنهم على استعداد للتجاوب إذا وجدوا القدوة والإرشاد من الأجهزة التنفيذية والإدارة المحلية والمنظمات غير الحكومية ، وإذا وجدوا التثقيف العمراني من الأجهزة الثقافية أو الإعلامية فالمسئولية هنا مسئولية مجتمع بمؤسساته الرسمية والشعبية بعد أن قتلت فيه القدرة على الإبداع والوسيلة لنشر الجمال بسبب القوانين والممارسات التي أفقدته القدرة والوسيلة .. لقد وصل العمران في المدن المصرية .. إلى حالة من التدهور الشديد الذي لا يتناسب ولا يتواكب مع النهضة الاقتصادية التي تدفعها التشريعات المتوالية والتي تمتلئ بها كل وسائل الإعلان المرئي والمسموع أما الاهتمام بالعمارة والعمران فلا وجود له إلا في بعض القصاصات والبرامج القصيرة .. وإذا كانت الدولة قد دخلت مرحلة الانطلاق الاقتصادي وبدأت تدعو إلى الثورة الإدارية فلا يبقى إلا الانطلاقة العمرانية التي تعيد الوجه الحضاري للمدينة والقرية المصرية ليس من باب الترف الثقافي ولكن لمردودها الاقتصادي والاجتماعي ولن يتأتى ذلك إلا بنسف القوانين القائمة وإصدار قوانين ولوائح جديدة تتناسب مع طموحات القرن الواحد والعشرين وتواجه نتائج اتفاقية الجات التي تستدعي الارتقاء بأداء المكاتب الاستشارية المحلية حتى تكون منافساً للمكاتب الأجنبية وإلا تقفل أبوابها وتسرح العاملين فيها لتزيد من عنف البطالة.

أما القانون الثالث فهو قانون التخطيط العمراني الذي صدر عام 1982، بعد فترة تراخي في مجلس الشعب بلغت إحدى عشر عاماً .. فقد أعد القانون عام 1971 على أساس بعض البنود المستوردة من القانون الانجليزي في الستينات .. والتي عفى عليها الزمن منذ عشرين عاماً .. فمنذ صدور قانون التخطيط العمراني حتى الآن بعد ستة عشرة عاماً .. لم يتم تقييم فعاليته وتطويره أو تجديده في ضوء المتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي مرت بها البلاد. فقد تم إعداد كثيراً من المخططات العامة للعديد من المدن منها ما اعتمد ومنها ما لم يعتمد بعد .. ثم تعرضت هذه المخططات إلى كثير من المتغيرات والتعديلات من قبل متخذ القرار في الإدارة المحلية .. إما بسبب القصور الشديد في الخبرات المتخصصة في أجهزتها .. أو بسبب تدخل المجالس المحلية وجماعات الضغط في العملية التخطيطية حتى أخرجت عن مضمونها وأصبحت المخططات العامة حبراً على ورق خاصة بعد أن تخلفت عن حركة العمران السريعة التي شهدتها المدن والقرى الأمر الذي ساعد على انتشار العشوائيات ولا تزال تنشر حول الكتل العمرانية وداخلها. ولا تزال الإدارة المحلية تعطي التراخيص تباعاً للأنشطة المختلفة في المدن والقرى دون محددات أو التزامات أو اعتبارات تخطيطية .. فازدحمت المدن وازداد القبح وتلاشى الإبداع. ويحاول المحافظ الذي يقوم بجولاته اليومية لإصلاح ما أفسده الدهر .. كما لو كان رئيساً للبلدية، يعمل دون أجهزة قادرة على إدارة عملية التنمية العمرانية كعملية مستمرة. إذ لا تزال عمليات التخطيط العمراني تطرح على المكاتب المتخصصة وغير المتخصصة في ظل قانون المناقصات .. وهكذا ينهار العمران في وجود قانون للتخطيط العمراني فقد فعاليته التنفيذية ولا يبقى منه إلا خرائط ملونة للعرض فقط مصوره أشكال المدن بعد فترات طويلة من الزمن مع أنها في الواقع ينهار عمرانها عاماً بعد عام. وأصبحت أمور العمران من اختصاص غير ذي الاختصاص .. واختل التوازن للبيئة العمرانية في المدن المصرية.

أما القانون الرابع فهو قانون الإسكان الذي جمد الإيجارات ومن ثم جمد البناء .. وربط أفراد المجتمع بالمكان بلا رغبة في الخروج منه. وإذا كانت فرص العمل قد توفرت في المصانع الجديدة في المدن الجديدة إلا أن العمال يذهبون إليها نهاراً ثم يرجعون إلى مأواهم ليلاً في مدنهم القديمة التي يزداد فيها التزاحم وتتفاقم فيها المشاكل الصحية والأمنية والبيئية وتنهار فيها الثروة العقارية وقانون الإسكان لا يتغير ولا يتطور ويجرى البحث عن مخرج لهذه المأساة في قانون جديد لاتحاد الشغالين الذي سوف يشغل الجميع ويشعل المشاكل الإدارية والتنظيمية والقانونية التي تفقده صلاحيته، وتبقى المجتمعات الجديدة تنادى على من يسكنها أو يستقر فيها فلا تجد إلا النذر اليسير وبذلك تتجمد الإستراتيجية القومية للتعمير وتفقد مضمونها وأهدافها في الخروج من الوادي الضيق.

لقد حان الوقت لوقفة جادة لإعادة الوجه الحضاري للمدن المصرية بنسف القوانين المعوقة ووضع القوانين الجديدة التي ندخل بها القرن الواحد والعشرين.

word
pdf