كذب المخططون ولو صدقوا

كذب المخططون ولو صدقوا2019-11-21T13:41:38+00:00

كذب المخططون ولو صدقوا…

د. عبد الباقي إبراهيم

كبير خبراء الأمم المتحدة بالتنمية العمرانية سابقا

 

المخططون ليسوا كالمنجمين .. فهم يبنون رؤياهم البعيدة والقريبة الأجل على أساس من العلم والمعرفة والخبرة, ففي عام 1962 صدرت توصيات مؤتمر الإسكان الآسيوي الأفريقي يحذر من أشد خطر يواجه مصر في حينه وهو استمرار التناقص في مساحة الأراضي الزراعية بسبب الامتدادات العمرانية المستمرة للقرى والمدن عليها, ووضعت لذلك خريطة مصر التي تشير إلى ضرورة خلق محور عمراني زراعي/ صناعي على طول طريق القاهرة الإسماعيلية شرق الدلتا وآخر على طول محور القاهرة الإسكندرية ورسم خطوط الاتصال العرضية على الدلتا لتفريغها من الفائض السكاني إلى هذين المحورين. وبنفس المفهوم وعلى نفس الخريطة تحددت المحاور العرضية على صعيد مصر التي تصله بالبحر الأحمر لشق محاور عمرانية جديدة لتفريغ الفائض السكاني من الصعيد. وجاء في رسم خريطة مصر عام 1962 ضرورة وضع الآليات التي تساعد على تفريغ الوادي الضيق الذي يحتل 4% من أرض مصر من الفائض السكاني سواء باللوائح الضريبية والتنظيمية أو القوانين الموجهة للعمران باعتبار التخطيط والتنمية عملية مستمرة لابد وأن يكون لها أجهزتها التي تعمل على المستويات القومية والإقليمية والمحلية للتكامل بين الخطط العمرانية وبين الخطط الاقتصادية الاجتماعية للدول.

واستمرت بعد ذلك المؤتمرات والندوات والأحاديث التي تحذر من هذا الخطر المفدح وحذرنا في حينه من إنشاء الجامعات الإقليمية على الأراضي الزراعية واقترحنا لموقع جامعة الزقازيق شرق بلبيس في شرق الدلتا بدلا من عاصمة المحافظة, وموقع جامعة شبين الكوم في مدينة الخطاطبة في غرب الدلتا بدلا من وسط الدلتا .. وهكذا خوفا من التكدس العمراني الذي يترتب عن ذلك .. وقد ترتب .. وضاع تحذير المخططون أمام قوة القرار السياسي وسيطرة المجالس المحلية على أسلوب اتخاذ القرار .. وتضخمت مدن الدلتا والصعيد, كما حذر المخططون من بناء أي مشروعات في القاهرة والمدن الكبرى تساعد على جذب مزيدا من السكان إليها, ومع ذلك يتم إنشاء قاهرة جديدة على مساحة 45000 فدان ليتضخم عدد سكانها إلى 20 مليون حتى يستحيل إداراتها, كما حذر المخططون من كهربة الريف ومده بمياه الشرب قبل توفير ذلك في القرى والمدن الجديدة شرق وغرب الوادي لزيادة عوامل الجذب إليها مع إيجاد عوامل الطرد من المجتمعات العمرانية القائمة, ومع ذلك تم مد القرى بمياه الشرب دون صرف صحي وتفاقمت المشاكل البيئية في الريف المصري, كما حذر المخططون من إنشاء أي مشروعات لا تخدم الزراعة مباشرة على الأرض الزراعية ومع ذلك أقيمت المصانع والمطابع والمخازن التي لا علاقة لها بالزراعة .. وتاهت التوصيات التخطيطية أمام قوة جماعات الضغط والقرار السياسي .. ونتج عن ذلك تضخم القرى وتحول الكثير منها إلى مدن لتزيد المشكلة العمرانية تعقيدا باستقرار السكان في الريف سواء منهم من يعمل في الزراعة أو الخدمات أو من يعمل في المصالح والمؤسسات في المدن المجاورة .. واختلط مفهوم المدينة والقرية في المجتمعات العمرانية القائمة ففقدت المدينة هويتها بعد تريفها وفقدت القرية هويتها بعد تمدينها .. وفقدت بذلك المعايير التخطيطية مصداقيتها في التعريف أو التقدير وساء الحال في كل من المدينة والقرية على حد سواء .. وبعد كل ذلك ترصد الدولة البلايين لزيادة طاقات القرى القائمة ومدها بكل ما يجعل منها مراكز أكثر جذبا للسكان لإقلال الضغط السكاني على المدن والقاهرة بصفة خاصة. ونكون بذلك قد زدنا من مشاكل القرى للحد من مشاكل المدن مع أن كلاهما أسوأ من الآخر. ولن يخرج السكان بعد ذلك من الوادي الضيق ليزداد ضيقا على ضيق, ويستمر إيجار المساكن في المدن بالقروش ولن يتركها سكانها إلى التجمعات الجديدة حتى لو اضطروا لركوب الصعب في رحلاتهم للعمل خارج المدن القائمة والعودة إليها آخر النهار.

ومع كل التحذيرات تخرج علينا صحف يوم 30 ديسمبر في نهاية عام 1995 بعد أكثر من ثلاثين عاما من التحذير تعلن أنه تم توفير 2200 مليون جنيه لتوزيع 178 فدان على 135 ألف شاب بمشروع مبارك القومي لتمليك شباب الخريجين للأراضي المستصلحة وذلك في إطار خطة لاستصلاح 150 ألف فدان باستثمارات قدرها 900 مليون جنيه سنويا يوفر القطاع الخاص منها 400 مليون جنيه والدولة 500 مليون جنيه لتنفيذ البنية الأساسية مع ما يصحب ذلك من إجراءات جاذبة للشباب من قروض ميسرة إلى معونات عينية وخدمات عامة في التجمعات العمرانية, القروية الجديدة. وفي نفس الوقت تطالعنا نفس الصحف بعنوان ” حماية الأراضي الزراعية من التجريف والتصحر” إذ عرضت على مجلس الوزراء مذكرة من وزير الزراعة تشير إلى أن الزراعة واجهت في السنوات الماضية وحتى عام 1980 تحديات كبيرة نتيجة للزيادة السكانية الكبيرة التي تصل إلى نحو مليون نسمة كل تسعة أشهر في الوقت التي فقدت فيه الزراعة حوالي مليون فدان من أخصب الأراضي بالدلتا والوادي نتيجة للزحف العمراني من بناء على الأرض الزراعية والتجريف وإنشاء المصانع فوق الأرض المنزرعة .. غير المساحة التي فقدتها الأرض الزراعية من عام 1980 حتى عام 1995 والمقدرة بحوالي مليون فدان أخرى وأن الدولة قد حققت خلال الخطتين الأولى والثانية استصلاح 1,4 مليون فدان حيث بلغ حجم الاستثمارات في هذه المشروعات 3,4 مليار جنيه لتنفيذ مشروعات البنية الأساسية, وتقول مذكرة وزير الزراعة أنه لتحقيق الهدف الحقيقي وراء فلسفة الخروج إلى الصحراء الواسعة التي تحيط باللون الأخضر من كل جانب أن تسير برامج الاستصلاح والمجتمعات العمرانية الجديدة في توافق تام وبالتنسيق الكامل وإلا فقدنا ما أنجزناه وتضيع مسطحات كبيرة من الأراضي الجديدة. واقترحت المذكرة مراعاة إقامة المجتمعات العمرانية الجديدة على بعد 10-15 كيلومتر من أي أرض مستصلحة حتى لا يتحول النشاط الزراعي مرة أخرى إلى نشاط عقارات ويزحف البناء على الأراضي الزراعية المستصلحة في قلب الصحراء .. وذلك كحماية وحيدة للأراضي الزراعية في إطار سياسة استصلاح الأراضي وبرامجها مستقبلا وإلا سيقضى على جميع الأراضي التي تم استصلاحها خلال السنوات الماضية ويكون كمن يهدم بالليل ما بناه بالنهار.. كما تقول المذكرة .. الأمر الذي يعني بقاء مشكلة الزحف العمراني تسير دون سياسة كبح جماحها .. بعد ثلاثين عاما من التحذير..
هذا في الوقت الذي يحسب فيه وزير الأشغال العامة والموارد المائية حساباته لتوفير المياه اللازمة للأراضي المستصلحة زيادة عن المياه اللازمة لمناطق التعمير الجديدة التي بدأت تظهر حول المدن وتضرب بحزامها حول القاهرة من كل جانب حتى تكاد تقتلها وتقتل معها حضارة ألف عام. كل ذلك والدولة لا تزال تبحث في رسم خطة قومية للتنمية العمرانية من جهة ووضع الخطط الخمسية المستقبلية في إطارها المكاني والمشاكل تتفاقم يوما بعد يوم .. وتخرج هذه الخطط دون إعداد للآليات التي تضمن تحقيقها في الواقع بالمنهج التكاملي بعيدا عن التضارب في الأداء, وترسم أسلوب اتخاذ القرار بشأنها حتى لا تتداوله الأهواء والمصالح الشخصية لجماعات الضغط المختلفة, فوزير الأشغال العامة والموارد المائية يقرر أن استهلاك مصر من المياه سنويا قد وصل إلى 63 مليار متر مكعب من مياه النيل والمياه الجوفية معا. وسوف تبلغ هذه الاحتياجات 73 مليار متر مكعب عام 2000 ويعني ذلك أن برامج التنمية العمرانية لابد وأن ترتبط أساسا بقدرة الدولة على توفير المياه وقدرة المجتمع على الحد من استهلاكه منها .. ويستمر التحذير دون استجابة .. حتى تقع الكارثة ..

وبعد ثلاثين عاما من التحذير يحذر المخططون مرات ومرات من الواقع الحالي الذي وصلت إليه المدينة والقرية المصرية على حد سواء .. والقاهرة أكبر دليل على تفاقم المشاكل الأمنية والصحية والبيئية والمرورية إذ تكاد تصاب بالجلطة المرورية لانسداد شرايينها بالإضافة إلى المناطق العشوائية, فما بالك بصورتها بعد ضرب الحزام العمراني حولها من الشرق حيث يتضاعف تعدادها ويتوقف قلبها عن أداء وظيفته, وإذا كان من السهل اتخاذ القرار بحل مشكلة الطريق الدائري عند منطقة الأهرامات واتخاذ القرار بحل مشكلة كوبري الأقصر, ومن قبله كوبري أبو العلا أو اتخاذ القرار وحل المشاكل المترتبة عن السيول, أو توفير الاعتمادات لتجديد البنية الأساسية لبعض المدن أو حل المشاكل المترتبة عن تعارض الاختصاصات بين السياحة والتعمير والحكم المحلي أو غير ذلك من المشاكل الموضعية المحددة .. فإن مشكلة الامتداد العمراني على الأراضي الزراعية وما يترتب عليها من فقدان كل أراضي الدلتا بحلول عام 2030 وتوقف مدينة القاهرة عن أداء وظيفتها في نفس العام هذه المشكلة تستوجب التنويه والتحذير مرة ومرات بعد ثلاثين سنة تحذير لقيام أجهزة الدولة من مرقدها لمواجهة هذا الخطر الداهم وتتوقف عن عادة الصحيان فقط بعد وقوع الكوارث. كما في المجاري إذا طفحت والقطارات إذا اصطدمت والسيول إذا اغرقت والمروريات إذا توقفت والعشوائيات إذا تفاقمت واستشرت.

إن فقدان الأراضي الزراعية في الدلتا أمام الزحف العمراني وتوقف النبض في قلب القاهرة بعد أن تسد شرايينه حينئذ لن تنفع معها القرارات والتوجيهات والصيحات وبعد فوات الأوان يرجع أصحاب القرارت والسياسات ليتذكروا تحذيرات المخططون منذ عام 1962م, ويحذر المخططون مرة أخرى من عدم الإسراف في وضع المخططات دون العمل على إيجاد الآليات التي تستطيع أن تعمل لتنفيذها.. فالعالم الآن قد انتقل من أسلوب إعداد المخططات والدراسات التي توضع على الأرفف إلى أسلوب إدارة عملية التنمية المستدامة, بالآليات المساعدة والأجهزة القادرة والقرارات الواعية. ومع ذلك يقول بعض المغالطون أين كان المخططون مما نحن فيه الآن, قد يكون ذلك جهلا لما قاموا به .. أو تجاهلا لدورهم الذي أدوه في خدمة مصر أو يكون راجعا إلى إيمانهم بكذب المخططين ولو صدقوا ..

وإن كان أغلبية المخططون قد فقدوا الأمل في الإصلاح العمراني, بعد أن استبعدوا من الساحة فإن بوادر الأمل تظهر في التشكيل الجديد للوزارة التي يرأسها وزير التخطيط السابق الذي يدرك مشاكل مصر العمرانية وقد آمن بضرورة وضع الخطط الخمسية القادمة في إطارها المكاني ولكن يبقى أن يهيأ الآليات التي تضمن تحقيق ذلك في أسرع وقت قبل فوات الأوان, ضمانا لاستقرار العملية التنموية واستمرارها من خلال أجهزة تعمل بالأسلوب التكاملي على المستويات القومية والإقليمية والمحلية, مع تحديد دور القطاعات التنفيذية منها من ناحية ومدها بالبيانات والمعلومات التخطيطية من ناحية أخرى.
وإذا كانت الزيادة السكانية تمتص الجزء الأكبر من نتائج الإصلاح الاقتصادي, فإن الامتدادات العمرانية داخل الوادي الضيق تزيد الطين بلة. إن الإصلاح الاقتصادي لابد وأن يتواكب مع الإصلاح العمراني.

word
pdf