كيـف نضـع خريطـة مصـر المستقبـل

كيـف نضـع خريطـة مصـر المستقبـل2019-12-11T13:17:59+00:00

كيـف نضـع خريطـة مصـر المستقبـل

د. عبد الباقى إبراهيم

أستاذ التخطيط العمرانى جامعة عين شمس

الأهرام 7/7/1982

يظهر أن التخطيط قد أصبح من مظاهر العصر يأخذ به المتخصصون ليبنوا عليه برامجهم التنفيذية ، ويأخذ به غير المتخصصين ليستكملوا به الصورة المظهرية ، وإن كانوا فى واقع الأمر يأخذون قراراتهم التنفيذية بعيداً عن أى تخطيط ، وكثيراً ما تسير العمليات التنفيذية فى مشروع ما جنباً إلى جنب مع الدراسات التخطيطية على أمل اللقاء عن الإنتهاء من هذه المشروعات فيصبح هناك تخطيط قد تم ومشروع قد نفذ كما أصبح التخطيط مشاعاً بين المتخصصين فى المجالات المختلفة .

ولنأخذ هنا مثالاً فى جانب واحد من جوانب التخطيط وهو التخطيط العمرانى الذى أخذت به الدولة منذ عام 1956 .. وصار بعد ذلك حقلاً خصباً للتجارب يمارس فيه المسئولون عن قطاعات التعمير والإسكان هوايتهم الخاصة .. كما أصبح سلعة رائجة فى سوق الإستشارات الفنية ..أقبلت عليها الشركات من كل أنحاء  العالم تعرض كل منها خبراتها الدولية والعالمية فى مجلدات فاخرة ومخططات مبهرة تأخذ بألباب غير المتخصصين وتستهوى سماسرة الأعمال الإستشارية من أصحاب النفوذ والسلطان القديم وفى النهاية تصبح الصورة كالآتى : –
مجموعات من الشركات الإستشارية إنجليزية وأمريكية وأوربية فى تكتلات مع شركاء محليين من أهل الثقة لتخطيط مدن القناة بمفاهيم علمية عتيقة لا ترتبط أو تتناسب مع الواقع المحلى فى مصر أو فى غيرها من الدول النامية  هذا فى الوقت الذى يقيم فيه الخبراء المصريون مفاهيم معاصرة تطبق فى دول عربية مرت بنفس التجربة بعد التعامل مع الشركات الأجنبية ، وبعد أن إنتهت مخططات مدن القناة بدأ – بعكس الحال – التخطيط الإقليمى لإقليم القناة تولته شركات إنجليزية من قبل الأمم المتحدة .. بهدف تحديد اتجاهات التنمية العمرانية فى المنطقة ومن ثم تحديد مستقبل مدنها التى سبق أن وضعت مخططاتها ، هذا فى الوقت الذى يقوم فيه الخبراء المصريون بتوجيه العمليات التخطيطية بالأسلوب المتكامل فى دول عربية مجاورة .. سبقتنا كثيراً جداً فى هذا المجال .. وتصرف الأموال وتقدم الدراسات وينتهى المهرجان .

وعلى الجانب الآخر تقوم الشركات الهولندية بوضع التخطيط الإقليمى للساحل الشمالى مع شركاء محليين من أهل الثقة وذلك لتوجيه التنمية العمرانية فى هذا الجزء المترامى الأطراف من الأسكندرية حتى السلوم .. وتصرف الأموال وتقدم الدراسات وينتهى المهرجان ، وبعد فترة تقوم الشركات الألمانية بوضع تخطيط عمرانى لمنطقة من الساحل مع شركاء مصريين ثم لا تلبث أن تنتهى .. لتبدأ دراسات تفصيلية أخرى يشارك فيها الجميع وذلك فى الوقت الذى تقوم فيه جهات أخرى بأعمال تنمية أخرى فى نفس المكان .. دون إستئذان .. كل فى واد يمرحون ، وتظهر المشاكل التنفيذية فى تنمية الساحل الشمالى وتبدأ العمليات التخطيطية مرة أخرى من جديد .
وفى جنوب الوادى تقوم شركة أمريكية ومعها شركة لبنانية وتحت رعاية الأمم المتحدة بإجراء دراسات لتخطيط الإقليم الجنوبى من الوادى وللشركة اللبنانية فرصة أخرى فهى تعمل أيضاً فى عديد من المشروعات فى مصر .. مستخدمة الخبرات المصرية فى دياراهم دون وكيل أو كفيل .. والعمل فى إقليم جنوب مصر يتم مع وزارة التخطيط فى الوقت الذى تعمل الشركات السابقة مع وزرة التعمير .
وعلى ساحل البحر الأحمر قامت الشركات الفرنسية أيضاً بدورها لوضع دراسات للتنمية الإقليمية إنتهت فيها إلى أن مقومات التنمية فى هذا الجزء من مصر لا يتطلب كل هذه الأهمية .. فمواردها محدودة وتنميتها محدودة ولا يوجد فيها إلا مناطق محدودة للتنمية السياحية ..وإنتهى مهرجان البحر الأحمر وقدمت الدراسات وصرفت المعونات ..

وإلى الجنوب قليلاً فى أسوان بدأت شركة أمريكية بدراسات لتنمية وادى كركر عسى ان تجد فيه خيراً لتمتد إليه يد التنمية والتعمير ولا زالت الدراسات جارية ..إلى أن تنتهى إلى كتيبات رشيقة وخرائط جميلة .
وفى قلب العاصمة تقوم شركة فرنسية بوضع تصورها لتخطيط المرور بالقاهرة الكبرى كمقدمة لوضع مخططات شبكات مترو الأنفاق .. وعلى الجانب الآخر من القاهرة تقوم شركة دانماركية بتخطيط الجيزة .. بعيداً  عن القاهرة فلكل مخططها الخاص وكأنهما لا يمثلان كيانا واحداً ..

ومع كل هذا التشتت فى الدراسات والتباين فى الإتجاهات يفطن المسئولون إلا أنه لابد من وضع دراسة قومية لتعمير مصر بمدنها وأقاليمها شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً .. وكلفت شركة أمريكية بوضع هذه الدراسة الموسعة لتحديد خريطة مصر المستقبل .. وقدمت الدراسات ووضعت البدائل والتصورات لتنمية سيناء والوادى الجديد وساحل البحر المتوسط وساحل البحر الأحمر ومدن مصر .. خاصة القاهرة والأسكندرية .. وإنتهت الدراسة إلى نتيجة واحدة .. وهى ليس فى الإمكان أحسن مما كان .. ولا داعى للتوسع العمرانى ففى الوادى ومدنه متسع لأربعين مليوناً آخرين ومست بذلك المدن الجديدة التى بدأت تظهر قبل هذه الدراسة وإكتشفت الحقيقة وإتهمت الشركة الأجنبية بعدم الصلاحية والبعد عن الواقعية ، بعد ثلاث سنوات من دراسات متواصلة ..

هذا فى الوقت الذى تقوم فيه شركات أمريكية أخرى .. بإنهاء دراساتها للتنمية الإقليمية لشبه جزيرة سيناء – والتى تقول فيها أن سيناء يجب ألا تستوعب أكثر من ثلاثمائة ألف نسمة أى ثلث عدد سكان مصر الجديدة .. لأن الموارد غير متاحة والمؤشرات الإقتصادية كلها تؤيد هذا .. ويلتقى هذا الإتجاه بالدراسات الشاملة لتعمير مصر ..

وبعد كل هذه التجارب وهذه المفارقات تتعاقد وزارة التعمير على دراسة التخطيط الإقليمى للوادى الجديد ، بعد أن أشارت الشركات الإستشارية الأجنبية إلى أنه لا فائدة من التنمية لأن كمية المياه الجوفية فيه غير محددة المعالم وإقتصاديات التنمية فيه أكبر من طاقة الإقتصاد المصرى عام 2000 .. ولكنها المكاتب الإستشارية ذات النفوذ والسلطان القديم .. عندها المبررات لكل شىء .. والشركات الهولندية حاضرة دائماً وجاهزة للقيام بالعمل ..
ومع ذلك فكل هذه الدراسات لا تزال مخزونة لا يمسها إلا المقربون .. بعيدة عن الرأى العام الفنى أو التخطيطى .. وقد حان الوقت لنشرها على العلماء والجامعات والطلبة والطالبات ليروا ماذا يدور فى بلدهم من دراسات ومنجزات .. لقد حان الوقت لعرضها على المجالس المتخصصة لتقول رأيها فيها .. فى الوقت الذى إستغرقته .. فى المال الذى أنفق عليها .. فى النتائج التى توصلت إليها .. ربما تحل المشاكل الإقتصادية أو تخفف عن مشاكل التعمير والإسكان .. أو تساعد على تحديد النسل ..

ويبدأ التخطيط .. والعمران منه .. مرحلة جديدة بتجارب جديدة .. وذلك بعد صدور قانون التخطيط العمرانى ملزماً المحافظات بضرورة وضع مخططات المدن فيها ، ويبقى التساؤل عن تعريف المدن دون إجابة هل هى عواصم المحافظات أو عواصم المراكز أو المدن الريفية … أو كلها مجتمعة بما فيها القاهرة والأسكندرية .. والعجيب فى هذا القانون أنه يؤكد عدم إعتماد أى تخطيط تفصيلى لأى منطقة فى مدينة ما إلا بعد إعتماد تخطيطها العام الذى يحدد مستقبلها لمدة عشرين عاماً مثلاً .. كما يؤكد عدم إعتماد التخطيط العام لأى مدينة إلا بعد التخطيط الإقليمى الذى تقع فيه المدينة ..والأقاليم التخطيطية حتى اليوم لم تستقر حدودها .. ولكل شيخ مجتهد طريقته .. ويعنى ذلك أن تخطيط منطقة ميدان محطة طنطا لن يعتمد إلا إذا إعتمد تخطيط طنطا وتخطيط الإقليم الذى تقع فيه مدينة طنطا  وهل هو محافظة الغربية أو وسط الدلتا أو الدلتا .. وهذا علمه عند المجتهدين .. وتبقى منطقة ميدان محطة طنطا .. تنتظر هذه السلسلة من التخطيطات ، هذا هو قانون التخطيط العمرانى الذى صدر أخيراً وتمت مناقشته على كل المستويات ويظهر تساؤل آخر .. عن كيفية وضع كل هذه المخططات هل هى الأجهزة المحلية التى لم تتهيأ لهذا العمل بعد .. أو هى المكاتب الإستشارية المحلية أو الأجنبية التى تؤدى خدماتها بنفس النمط التقليدى للمخططات العامة .. ثم متى يمكن تغطية هذه الأعداد الكبيرة من المدن التى يبلغ عددها حسب تقدير المجتهدين 150 مدينة يبدأ فى ثلاثين منها .. كيف ؟ هنا يظهر سؤال آخر .. هلى هناك إستراتيجية عمرانية عامة لتوجيه هذه المخططات ؟

وتستمر التساؤلات وتستمر التجارب .. والمشاكل تتفاقم .. ويهرب أهل الخبرة يعمرون فى الدول العربية التى سبقتنا فى هذا المجال .. ويبقى أهل الثقة يتعلمون من التجارب .

word
pdf