كيف يخططون لمصر؟

كيف يخططون لمصر؟2019-11-21T12:05:16+00:00

كيف يخططون لمصر؟

د. عبد الباقي إبراهيم

أستاذ التخطيط العمراني بهندسة عين شمس

 كبير خبراء التخطيط العمراني بالأمم المتحدة سابقا  

    
يظهر أن التخطيط قد أصبح ظاهرة من مظاهر العصر يأخذ به المتخصصون ليبنوا عليه برامجهم التنفيذية . . ويأخذ به غير المتخصصين ليستكملوا به الصورة المظهرية وإن كان في واقع الأمر يأخذون قراراتهم التنفيذية بعيدا عن أي تخطيط .. وكثيرا ما تسير العمليات التنفيذية في مشروع ما جنبا إلى جنب مع الدراسات التخطيطية على أمل اللقاء عند الانتهاء من هذه المشروعات فيصبح هناك تخطيطا قد تم .. ومشروعا قد نفذ … كما أصبح التخطيط مشاعا بين المتخصصين في المجالات المختلفة .. فهناك التخطيط الاقتصادي الذي يوجه اقتصاديات البلاد وله أجهزته و خبراؤه المتخصصون فى القطاعات المختلفة و هناك التخطيط العمرانى الذى يوجه حركة التعمير فى البلاد و له أيضا أجهزته وخبراؤه المتخصصون في الإسكان والطرق والمرافق والخدمات العامة والاقتصاد والاجتماع أيضا .. كما أن له قوانينه ولوائحه .. وكلا من التخطيطين يسير في طريق خاص لا رابط بينهما أو لقاء .. اللهم إلا من خلال بعض اللجان للتعرف والمعرفة .. فلا عمل مشترك ولا مفاهيم أولغة مشتركة توجد بينهما .. ثم هناك التخطيط القطاعي الذي يوجه المشروعات القطاعية .. وهو تخطيط يرتبط بصاحب النفوذ الأول في القطاع يوجهه تبعا لرغباته وفلسفاته ويظهر أثر ذلك في القرارات المتعارضة وينعكس ذلك بطبيعة الحال على الأجهزة الإدارية فتصيبها بالشلل والتخبط وعدم المبالاة وهناك تظهر الدعوات لسن القوانين الخاصة بالتعديل والتغيير والانضباط ولا يدرك المجتمع نهاية لهذا الدوار.

ولنأخذ هنا مثالا في جانب واحد من جوانب التخطيط .. وهو التخطيط العمراني الذي أخذت به الدول منذ عام 1956 وصار بعد ذلك حقلا خصبا للتجارب يمارس فيه المسئولون عن قطاعات التعمير والإسكان هوايتهم الخاصة كما أصبح سلعة رائجة في سوق الاستشارات الفنية .. أقبلت عليها الشركات من كل أنحاء العالم تعرض كل منها خبراتها الدولية والعالمية في مجلدات فاخرة ومخططات مبهرة تأخذ بألباب غير المتخصصين وتستهوى سماسرة الأعمال الاستشارية من أصحاب النفوذ والسلطان القديم وفي النهاية تصبح الصورة كالآتي:

مجموعات من الشركات الاستشارية الإنجليزية والأمريكية والأوروبية في تكتلات مع شركاء محليون من أهل الثقة لتخطيط مدن القنال بمفاهيم علمية عتيقة لاترتبط أوتتناسب مع الواقع المحلي في مصر أوفي غيرها من الدول النامية هذا في الوقت الذي يقيم فيه الخبراء المصريون مفاهيم معاصرة تطبق في دول عربية مرت بنفس التجربة بعد التعامل مع الشركات الأجنبية. وبعد أن انتهت مخططات مدن القنال بدأ– بعكس الحال- التخطيط الإقليمي لإقليم القناة تولته شركات إنجليزية من قبل الأمم المتحدة .. بهدف تحديد اتجاهات التنمية العمرانية في المنطقة ومن ثم تحديد مستقبل مدنها التي سبق أن وضعت مخططاتها. هذا في الوقت الذي يقوم فيه الخبراء المصريون بتوجيه العمليات التخطيطية بالأسلوب المتكامل في دول عربية مجاورة .. سبقتنا كثيرا جدا في هذا المجال .. وتصرف الأموال وتقدم الدراسات وينتهي المهرجان.
وعلى الجانب الآخر تقوم الشركات الهولندية بوضع التخطيط الإقليمي للساحل الشمالي مع شركاء محليون من أهل الثقة وذلك لتوجيه التنمية العمرانية في هذا الجزء المترامي الأطراف من الإسكندرية حتى السلوم.. وتصرف الأموال وتقدم الدراسات وينتهي المهرجان وبعد فترة تقوم الشركات الألمانية بوضع تخطيط عمراني لمنطقة من الساحل مع شركاء مصريون .. ثم لا تلبث أن تنتهي .. لتبدأ دراسات تفصيلية أخرى يشارك فيها الجميع وذلك في الوقت الذي تقوم فيه جهات أخرى بأعمال تنمية أخرى في نفس المكان .. دون استئذان .. وكل في وادي يمرحون وتظهر المشاكل التنفيذية في تنمية الساحل الشمالي وتبدأ العمليات التخطيطية مرة أخرى من جديد.

وفي جنوب الوادي تقوم شركة أمريكية ومعها شركة لبنانية وتحت رعاية الأمم المتحدة بإجراء دراسات لتخطيط الإقليم الجنوبي من الوادي .. وللشركة اللبنانية قصة أخرى فهي تعمل أيضا في عديد من المشروعات في مصر.. مستخدمة الخبرات المصرية في ديارهم دون وكيل أو كفيل .. والعمل في إقليم جنوب مصر يتم مع وزارة التخطيط في الوقت الذي تعمل الشركات السابقة مع وزارة التعمير..
وفي ساحل البحر الأحمر قامت الشركات الفرنسية أيضا بدورها .. لوضع دراسات للتنمية الإقليمية انتهت فيها إلى أن مقومات التنمية في هذا الجزء من مصر لا يتطلب كل هذه الأهمية .. فمواردها محدودة وتنميتها محدودة ولا يوجد فيها إلا مناطق محدودة للتنمية السياحية.. وانتهى مهرجان البحر الأحمر وقدمت الدراسات وصرفت المعونات.

وإلى الجنوب قليلا في أسوان بدأت شركة أمريكية بدراسات لتنمية وادي كركر عسى أن تجد فيه خيرا لتمتد إليه يد التنمية والتعمير ولازالت الدراسات جارية .. إلى أن تنتهي إلى كتيبات رشيقة وخرائط جميلة.
وفي قلب العاصمة تقوم شركة فرنسية بمراجعة للتخطيط العام للقاهرة .. وعلى الجانب الآخر من القاهرة تقوم شركة دنماركية بتخطيط الجيزة .. بعيدا عن القاهرة .. فلكل مخططها الخاص وكأنهما لا يمثلان كيانا واحدا .. وهناك شركات أمريكية تقوم بدراسة خدمات الأحياء السكنية في المدن الكبرى. وأخرى تقوم بدراسة تخطيط عواصم المحافظات وغيرهما تعمل في التنمية الريفية.

ومع كل هذا التشتت في الدراسات والتباين في الاتجاهات يفطن المسئولون إلي أنه لابد من وضع دراسة قومية لتعمير مصر بمدنها وأقاليمها شمالا وجنوبا وشرقا وغربا .. وكلفت شركة أمريكية لوضع هذه الدراسة الموسعة لتحديد خريطة مصر المستقبل … وقدمت الدراسات ووضعت البدائل والتصورات لتنمية سيناء والوادي الجديد وساحل البحر الأبيض وساحل البحر الأحمر ومدن مصر.. خاصة القاهرة والإسكندرية .. وانتهت الدراسة إلى نتيجة واحدة .. وهي ليس في الامكان أحسن مما كان .. ولا داعي للتوسع العمراني ففي الوادي ومدنه متسع لأربعين مليون آخرين ومست هذه النتيجة بذلك المدن الجديدة التي بدأت تظهر قبل هذه الدراسات. واكتشفت الحقيقة واتهمت الشركات الأجنبية بعدم الصلاحية والبعد عن الواقعية .. بعد ثلاث سنوات من دراسات متواصلة..

هذا في الوقت الذي تقوم فيه شركة أمريكية أخرى .. بإنهاء دراساتها للتنمية الإقليمية لشبه جزيرة سيناء- والتي تقول فيها أن سيناء لا يجب أن تستوعب أكثر من ثلاثمائة ألف نسمة أي ثلث عدد سكان مصر الجديدة .. لأن الموارد غير متاحة والمؤشرات الاقتصادية كلها تؤيد هذا .. ويلتقي هذا الاتجاه بالدراسات الشاملة لتعمير مصر. هكذا دون اعتبار لضرورة تكثيف التنمية العمرانية الدفاعية في سيناء وذلك بجانب أهداف التنمية الاقتصادية والاجتماعية فيها.

ومن الغريب أن الشركة الأمريكية التي تقوم بإتمام دراسة تنمية سيناء .. تقوم بالتوازي بوضع سياسة لتعمير أراضي القاهرة .. كل ذلك تحت سمع وبصر المستشارين المحليين الذين لا يزالون يكتشفون أبعاد التخطيط العمراني وهم بالتخصص لا علاقة لهم بكل هذه المشروعات .. فمنهم من كان قائما على قطاع النقل ومنهم من كان قائما على قطاع المقاولات ومنهم ما كان قائما على قطاع الري .. وهكذا.
وبعد كل هذه التجارب وهذه المفارقات تتعاقد وزارة التعمير على دراسة التخطيط الإقليمي للوادي الجديد بعد أن أشارت الشركات الاستشارية الأجنبية أنه لا فائدة من تنميته فكمية المياه الجوفية فيه غير محددة المعالم واقتصاديات التنمية فيه أكبر من طاقة الاقتصاد المصري عام 2000.. ولكنها المكاتب الاستشارية ذات النفوذ والسلطان القديم.. عندها المبررات لكل شئ .. والشركات الهولندية حاضرة دائما وجاهزة للقيام بالعمل…

ومع ذلك فكل هذه الدراسات لا تزال مخزونة لا يمسها إلا المقربون .. بعيدة عن الرأي العام الفني أو التخطيطي.. وقد حان الوقت لنشرها على العلماء والجامعات والطلبة والطالبات ليروا ماذا يدور في بلدهم من دراسات ومنجزات.. لقد حان الوقت لعرضها على المجالس المتخصصة لتقول رأيها فيها .. في الوقت الذي استغرقته .. في المال الذي أنفق عليها .. في النتائج التي توصلت إليها .. ربما تحل المشاكل الاقتصادية أو تخفف من مشاكل التعمير والإسكان..

ويبدأ التخطيط .. والعمراني منه.. مرحلة جديدة بتجارب جديدة.. وذلك بعد صدور قانون التخطيط العمراني ملزما المحافظات بضرورة وضع مخططات المدن فيها ويبقى التساؤل عن تعريف المدن دون إجابة هل هي عواصم المحافظات أوعواصم المراكز أوالمدن الريفية .. أوكلها مجتمعة بما فيها القاهرة والإسكندرية …

والعجيب في هذا القانون أنه يؤكد عدم اعتماد أي تخطيط تفصيلي لأي منطقة في مدينة ما إلا بعد اعتماد تخطيطها العام الذي يحدد مستقبلها لمدة عشرين عاما مثلا .. كما يؤكد عدم اعتماد التخطيط العام لأي مدينة إلا بعد اعتماد التخطيط الإقليمي الذي تقع فيه المدينة … والأقاليم التخطيطية حتى اليوم لم تستقر حدودها .. ولكل شيخ مجتهد طريقته .. ويعني ذلك أن تخطيط منطقة ميدان محطة طنطا لن يعتمد إلا إذا اعتمد تخطيط طنطا وتخطيط طنطا لا يعتمد إلا بعد اعتماد تخطيط الإقليم الذي تقع فيه مدينة طنطا .. وهل هو محافظة الغربية أو وسط الدلتا أو الدلتا.. وهذا علمه عند المجتهدين .. وتبقى منطقة ميدان محطة طنطا .. تنتظر هذه السلسلة من التخطيطات .هذا هو قانون التخطيط العمراني الذي صدر أخيرا وتم مناقشته على كل المستويات ويظهر تساؤل آخر عن كيفية وضع كل هذه المخططات هل هي الأجهزة المحلية التي لم تتهيأ لهذا العمل بعد .. أوهي المكاتب الاستشارية المحلية أوالأجنبية التي تؤدي خدماتها بنفس النمط التقليدي للمخططات العامة .. ثم متى يمكن تغطية هذه الأعداد الكبيرة من المدن التي يبلغ عددها حسب تقدير المجتهدين 150 مدينة يبدأ في ثلاثين منها .. كيف؟ هنا يظهر سؤال آخر.. هل هناك استراتيجية عمرانية عامة لتوجيه هذه المخططات؟ هل هي الاستراتيجية المرفوضة التي وضعتها الشركات الأمريكية .. أو أن هناك استراتيجية جديدة .. ثم من يقوم بالتخطيط الإقليمي للمناطق الأهلة بالسكان .. هل هو الجهاز المركزي للتخطيط العمراني .. ثم أين دور وزارة التخطيط ولها في كل محافظة شبه جهاز للتخطيط الإقليمي .. ثم هل يتم التخطيط المحلي للمحافظات كل في نطاق حدودها.. أوهناك علاقات تخطيطية مع مناطق التعمير المتاخمة للأرض الآهلة بالسكان .. وهنا تساؤل آخر عن تبعية المدن الجديدة .. هل لمجلس الوزراء أو وزراء التعمير.. أو أجهزة التخطيط الإقليمي  المحلي .. أوالمحافظات القائمة ..

وتستمر التساؤلات وتستمر التجارب .. والمشاكل تتفاقم .. ويهرب أهل الخبرة يعمرون في الدول العربية التي سبقتنا في هذا المجال .. ويبقى أهل الثقة يتعلمون من التجارب.
هذا جانب من جوانب الصورة .. أما بقية الجوانب فلها من يكشفها…

word
pdf