لماذا فشلنا في تخطيط المدن ؟

لماذا فشلنا في تخطيط المدن ؟2019-12-04T13:49:12+00:00

لماذا فشلنا في تخطيط المدن ؟ !
د. عبد الباقي إبراهيم

أستاذ التخطيط العمراني بهندسة عين شمس

لماذا فشلنا في تخطيط المدن المصرية ؟ 

الأهرام الاقتصادي 12/8/1991 

العاصمة … القاهرة التي كانت جميلة أصبحت مثلا لانعدام التخطيط … حتى الأحياء الجديدة أصابتها اللعنة فغابت عنها النظرة المستقبلية … حتى المدن الجديدة … ينتظرها نفس المصير لنفس السبب – إن المخططين لم يضعوا المستقبل في حسابهم … 

تخطيط المدن في العالم كله علم له قوانينه وقواعده، وله علماؤه، وعندنا هو كالأيتام في مأدبة اللئام … ضائع، ويستطيع أي شخص حاصل على بكالوريوس هندسة أن يخطط مدينة أو يصدر حكما على تخطيط مدينة … المسألة
“سبهللة ” … وفي زحام المشاكل القاتلة قد تبدو هذه المشكلة غير ملحة، والحقيقة أنها بالغة الأهمية … لان اهتمامنا بها يعكس معنى هاما جدا هو: هل نهتم بالمستقبل أم لا؟ وهل تهمنا أحوال مصر بعد خمسين سنة مثلا أو أكثر أو أقل … أم أن هذا شيء لا يشغلنا الآن ونتركه للظروف وما تحمله لنا الأيام في عالم الغيب ؟ 
أنقذوا المجتمعات العمرانية الجديدة ؟ 

الأستاذ الدكتور عبد الباقي إبراهيم أستاذ وخبير تخطيط المدن الذي استعانت به الأمم المتحدة للمشاركة في تخطيط بعض مدن السعودية فهو لا يريد حسابا عن الماضي ولكنه يريد ضمانات للمستقبل … ولذلك يحذر من أن تصل المجتمعات العمرانية إلى حالة الفوضى التي أصابت سائر المدن … إنه يتحدث عن شيء لم يسمع عنه أحد من العاملين في التنفيذ … شيء اسمه  “الإستراتيجية  العمرانية للدولة ” … شيء يعرفه المنفذون في العالم … أما عندنا فإن ” هندسة المعلمين ” و”علم الهندسة بالبركة ” لا يعترف بشيء اسمه ” إستراتيجية” إلا للاستهلاك في الخطب فقط … !
تجيء دعوة الرئيس محمد حسنى مبارك لعقد اجتماع موسع لهيئة المجتمعات العمرانية الجديدة في وقت مناسب لهذه المرحلة التي تمر بها تجربة التنمية العمرانية في مصر إذ تجيء هذه الدعوة بعد أكثر من عشر سنوات من بداية التجربة التي حان الوقت لمراجعتها وتقويمها في ضوء النتائج العملية التي وصلت إليها مقارنة بين ما حققته هذه التجربة وما كان مخططا لها … بهدف ربط النظرية بالواقع … ولا شك أن الدولة قد بذلت جهودا كبيرة في سبيل تحقيق الأهداف القومية للتنمية العمرانية ظهرت في بناء العديد من المصانع في المجتمعات العمرانية الجديدة بمعدلات تفوق ما كان مخططا لها في الدراسات التخطيطية كما ظهرت في بناء المرافق والخدمات العامة ومشروعات الإسكان وإن كانت بمعدلات تقل كثيرا عما كان مخططا لها، الأمر الذي أثر على التوازن التخطيطي للمجتمعات الجديدة الذي اتجه إلى توفير الإسكان أكثر منه إلى تحقيق الاستيطان وجذب الفائض السكاني بأنشطتهم من المناطق المزدحمة في القاهرة والمدن الكبيرة والصغيرة على حد سواء، وأخيرا بدأت تجربة أخرى من تجارب التنمية العمرانية ظهرت في التخطيط لبناء عشرة مجتمعات جديدة حول القاهرة ليس بهدف توفير الإسكان ولكن بهدف تخفيف الضغط السكاني على القاهرة والذي بلغ في بعض أجزائها حدا كبيرا من التزاحم الذي هو من أهم مسببات المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والأمنية والصحية. ويعنى ذلك أن تنمية التجمعات العشرة لا بد وأن تواكبها تنمية عمرانية للمناطق المزدحمة بالقاهرة بحيث تدير الأولى أجهزة للاستقبال وتدير الثانية أجهزة للإرسال تعمل معا وتتناغم إداريا وتنظيميا وبحيث تعتمد تنمية التجمعات العشر على المشاركة الشعبية أكثر منها على موارد الدولة. وإلا فقدت هذه التجمعات مقوماتها وأهدافها التنموية وحملت الدولة ما لا تطيق أو تتحمل. 

إن دراسة الأوضاع الداخلية أوالتنفيذية للمجتمعات العمرانية الجديدة لا يمكن فصلها عن الإستراتيجية القومية للتنمية العمرانية التي تعالج مشاكل المجتمعات الجديدة والمجتمعات القديمة معا إذ لا يمكن الفصل بينهما في خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية للدولة وهو ما سمي مجازا بالبعد المكاني للخطط الخمسية. وإذا كانت الخطط الخمسية هي في أساسها خططا استثمارية.  فإن الجانب المكاني أو العمراني فيها لم يجد له المكان المناسب خاصة في دولة يقطن 96% من سكانها 4% من أرضها.  وإذا كانت الدعوة أساسا إلى اجتماع موسع لهيئة المجتمعات العمرانية الجديدة يتم فيه تقويم واقع هذه المجتمعات ومراحلها ومستقبلها حتى يمكن إيجاد الأسلوب الأمثل للاستثمارات فيها طبقا للأولويات التي تنبثق عن هذا الاجتماع. فإن هناك العديد من التساؤلات التي تفرض نفسها في هذا المجال بدءا من مفهوم التخطيط والتنمية ومسئولية الأجهزة التخطيطية إلى مفهوم التنفيذ والبناء ومسئولية الأجهزة التنفيذية. سواء كان ذلك على المستوى القومي والمستوى المحلى حتى لا تتعارض المصالح والاختصاصات بين الأجهزة وتتوه بين أجهزة التعمير والسياحة والصناعة والزراعة والأمثلة على ذلك قائمة وواضحة في تنمية سواحل البحر الأحمر والساحل الشمالي والمدن السياحية. وهنا يظهر التساؤل مثلا عن مسئولية توفير عناصر الجذب في المناطق الجديدة. هل هي من اختصاص التخطيط أو من اختصاص التعمير؟ وما هو الحد الفاصل أساسا بين التخطيط والتعمير وكلاهما عمل متكامل لا يمكن تجزئته؟ … فالدعوة إلى تكامل خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية والعمرانية دعوة قديمة سعى إليها العديد من دول العالم بهدف إحكام كفاءة الأداء في تنظيم وإدارة العملية التخطيطية أكثر منها في وضع الخطط نفسها وهذا ما تحتاجه الدول النامية في المقام الأول حتى لا تستمر الدعوة إلى ضرورة غزو الصحراء والخروج من الوادي الضيق في إطار النداءات والشعارات دون مضمون عملي وتنظيمي يحول الأهداف إلى خطط والخطط إلى مخططات والمخططات إلى مشروعات والمشروعات إلى برامج تنفيذية والبرامج التنفيذية إلى أدوات الانجاز وذلك في حدود الموارد والإمكانيات المادية والبشرية المتاحة من الداخل أو الخارج وهى إمكانيات كثيرة ومتوافرة لو أمكن استثمارها وتنظيمها وادارتها. 

هنا تظهر تساؤلات أخرى في هذا المجال … كيف يمكن استثمار الطاقات المادية والبشرية التي أقامت هذا الحجم الضخم من التجمعات السكنية العشوائية وتنظيمها وتوجيهها إلى حيث ما يجب أن تكون في إطار الإستراتيجية العمرانية.. كيف يمكن أن تستقطب المواطن ليستوطن المجتمعات الجديدة يعيش فيها يسكن ويعمل معا وهو لا يدفع إلا بضع جنيهات قليلة جدا في إيجار مسكنه الحالي الذي لا يستطيع أن يتركه إلى سكن آخر أكثر تكلفة … كيف يمكن أن ننقل الفلاح إلى قرية جديدة وهو يتمتع في قريته القديمة بمياه الشرب والكهرباء بأسعار ميسرة ويستطيع أن يوجه مدخراته بسهولة إلى بناء سكن خاص وسكن يؤجره على الأرض الزراعية حتى في وجود القوانين التي تحد من ذلك وهى قوانين غير واقعية التطبيق فالأرض الزراعية الحالية تتناقص باستمرار يوما بعد يوم بالرغم من كل المحددات والقوانين واللوائح … كيف يمكن أن ننقل العامل وورشته إلى مكان آخر وهو يتمتع في مكانه الحالي بمميزات استثمارية كثيرة فهو يستطيع أن يجدد ترخيص ورشته دون معاناة بل ويجد مورد الكهرباء والمياه بنفس الأسعار التي يجدها في المجتمعات الجديدة. وفوق ذلك فهو يستطيع أن يمتد بنشاطه على الرصيف بل وفي بحر الشارع دون حرج أو تدخل من أحد … كيف يمكن أن نستقطب المواطن العادي إلى استيطان المجتمعات الجديدة وهو يتمتع بسكن رخيص جدا ويدفع في تكلفة الخدمات ما يدفعه في المجتمع الجديد بل ويجد فرصا أوفر للعمل في المشروعات الجديدة التي تنشأ في المدن القديمة وليس في الصناعات الخفيفة بل في الأنشطة التجارية والخدمية التي لا تجد معوقا أمام قيامها في المدن المزدحمة. 
كيف تنتقل الأنشطة المالية والتجارية إلى التجمعات الجديدة وهى تتمتع بالخدمات المتوافرة في المدينة القديمة حيث يقطن معظم العاملين فيها … وهناك الشوارع التي تستوعب سياراتهم ليلا ونهارا دون معاناة مالية لاستعمال مرفق عام مثل الشارع وهناك مترو الأنفاق الذي ينقلهم من مكان إلى آخر دون معاناة كبيرة وهناك المرافق العامة وخدمات الاتصالات المتوافرة التي يستعملونها دون معاناة قد يجدونها في التجمعات الجديدة… وهكذا فان ما يتوافر في المجتمعات العمرانية الجديدة من حوافز وتسهيلات ومزايا لا تتعادل مع ما يتوافر في المجتمعات القديمة المزدحمة بالسكان. فالازدحام بالرغم من الأمراض الاجتماعية التي تترتب عنه فهو في حد ذاته عامل جذب استثماري خاصة بالنسبة للأنشطة الهامشية. 

ومن ناحية أخرى كيف يمكن أن تتحقق الإستراتيجية العمرانية للدولة في ضوء قانون الإسكان الحالي أو الجديد وهو لا يفرق بين الإسكان في المدن المزدحمة والإسكان في المجتمعات الجديدة … وكيف يمكن أن يستمر الدعم لسكان المدن القديمة بنفس حجم الدعم لسكان المدن الجديدة – وهكذا ترتفع مشاكل المجتمعات العمرانية الجديدة إلى المستوى القومي ولا تنحصر في نطاقها المحلى أو التنفيذي وهنا يبرز التساؤل الآخر عن مفهوم المجتمعات العمرانية الجديدة … هل هي المجتمعات التي يصدر بها قرار لإخضاعها لإشراف الهيئة العامة للمجتمعات العمرانية الجديدة بوزارة التعمير أو هي مناطق التنمية العمرانية الجديدة التي تمتد على المناطق الصحراوية سواء تمثلت في صورة مشروعات استثمارية أو امتدادات سكنية للمدن المتاخمة للصحراء. وهنا يظهر تساؤل آخر وهو هل تعتبر القرى السياحية التي تملكها الجمعيات التعاونية أو المؤسسات العامة مناطق عمرانية جديدة تخضع لنفس مفهوم المجتمعات الجديدة تتمتع بنفس المزايا التي تتمتع بها سواء في سعر الأرض أو تكاليف البناء أو توفير المرافق والخدمات العامة وهى في حقيقتها مناطق إسكان سياحي أو ترويحي أكثر منها قرى سياحية بمفهومها الاستثماري أو الاقتصادى. فقد أصبحت هذه القرى السياحية الخاصة بمثابة ثلاجات تتجمد فيها مدخرات المواطنين دون عائد يذكر يضاف إلى الاقتصاد القومى. بل أصبحت سلعة استهلاكية لن تلبث أن تتلف بمرور الزمن وقلة الصيانة بالإضافة إلى انخفاض مدد استثمارها المرتبطة بالعطلات الصيفية ودون أن يكون لها ظهير إنتاجي يساعد على استيطان بعض أجزائها واستغلال بعض مرافقها … إن اقتصاديات مثل هذه المشروعات لا يقاس بالعائد الفوري من إنشائها ولكن يقاس بالعائد الاستيطاني الذي تحققه في إطار أهداف الإستراتيجية القومية للتنمية العمرانية التي هي جزء من الإستراتيجية القومية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية.  إن دراسة الجدوى للمشروعات الاستثمارية لا تبنى على أساس ما تحققه من عائد بقدر ما تحققه من أهداف للإستراتيجية العمرانية التي تهدف إلى التخفيف عن الوادي الضيق من الضغط السكاني الرهيب. إنه من الخطأ أن نتبع النظريات المستوردة في التنمية العمرانية بل لا بد من البحث عن النظرية المحلية التي تلاءم الواقع المحلى اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وحضاريا. فالقاهرة ليست مثل لندن أو باريس كما يتصور البعض. ومصر التي يقطن 96% من سكانها على 4% من مساحتها ليست كانجلترا أو فرنسا. حيث ينتشر سكانها بطريقة متوازنة على معظم أراضيها. 

وبعد كل ذلك فهناك تساؤل آخر عن البعد السياسي الذي يؤثر على كل من المجتمعات القديمة كما يؤثر على المجتمعات الجديدة ويكمن هذا البعد في تأثير توجيهات المجالس التشريعية أوالمحلية التي تسعى دائما إلى إرضاء المواطن بالبحث عن حل مشاكله الآتية دون تقدير مماثل لحل المشاكل البعيدة المدى فعندما أصدر المجلس المحلى في محافظة مثل الشرقية قرارا بإنشاء جامعة إقليمية في مدينة الزقازيق تمشيا مع سياسة تخفيف الضغط عن القاهرة (مصر) اعترض أحد المخططين على المكان واقترح في حينه توجيه المشروع إلى صحراء بلبيس نظرا لما سوف تتطلبه الجامعة الجديدة من خدمات إسكانية وتجارية وخدمية لا يمكن أن تتحملها الأرض الزراعية ومع ذلك رفض المسئولون هذا الاقتراح خضوعا للقرار السياسي الذي اتخذه المجلس المحلى … فكيف كان الحال بعد ذلك: فالمدينة تتسع اتساعا رهيبا تبتلع في امتدادها الأرض الخضراء من حولها.  وكلما ازداد المعدل السكاني زاد معدل الامتداد على مصدر الرزق الوحيد في الزراعة بالرغم من وجود قانون التخطيط العمراني الذي بدأ العمل به في عام 1982م  ومر على تطبيقه- أو بمعنى آخر عدم تطبيقه- أكثر من سبع سنوات وهو قانون يحتاج هو الآخر إلى التقويم من واقع التجربة التطبيقية لبنوده ولائحته وأجهزته التنفيذية.

word
pdf