لماذا مدينة التراث ؟

لماذا مدينة التراث ؟2019-12-08T12:01:35+00:00

لماذا مدينة التراث ؟

 د. عبد الباقى إبراهيم

أستاذ التخطيط بجامعة عين شمس

ورئيس مركز الدراسات التخطيطية والمعمارية

الأهرام الاقتصادى 19/8/1991

كيف يمكن إقامة مدينة ثقافية فنية سياحية تضم المتاحف ودور السينما والمسارح والملاهى بينما اتخذت منظمة اليونسكو قرارا باعتبار القاهرة القديمة متحفا مفتوحا يضم تراثا له طبيعة مميزة … وإذا كان وزير الثقافة يريد إنشاء هذه المدينة بصرف النظر عن الأعباء المالية فلماذا لا يريد أن يتدخل لإقامة المجمعات السكنية الجديدة والمدن الجديدة وفقا لطابع معمارى مميز يعكس التراث الثقافى المصرى … لماذا هذه يطرحها الأستاذ الخبير المعمارى الدولى الدكتور عبد الباقى إبراهيم

طالعتنا الصفحة الأخيرة من الأهرام بنبأ الاتفاق بين وزير الثقافة ووزير التعمير والاسكان على إنشاء مدينة يطلق عليها اسم مدينة التراث وذلك فى منطقة مناسبة من الحزام السكنى الجديد الذى يقام حول القاهرة ويضم عشرة تجمعات سكنية جديدة … ويقول الخبر إن المدينة الجديدة ليست مدينة سكنية ولكنها سوف تكون مدينة ثقافية فنية سياحية تضم متاحف نوعية للآثار الفرعونية والقبطية والإسلامية بالإضافة إلى متحف لفنون الخزف والسجاد والحرف البيئية القديمة كما تضم متحفا للمجوهرات المرتبطة بالتراث وآخر للوثائق القومية وبالإضافة إلى ذلك ستقام فى المدينة الجديدة دار للسينما وأخرى للمسرح بالإضافة إلى الملاهى والمطاعم والخدمات الترفيهية. 
ويصف الخبر الملامح المعمارية للمدينة الجديدة بأنها سوف تحمل طابعا خاصا فيقام فيها عدد من التماثيل الأثرية الكبيرة والتماثيل الفنية المعاصرة ليكتمل أول قرار ثقافى سياحى فنى فى العاصمة. هكذا وبهذا الخيال الواسع تنشأ مدينة التراث خارج القاهرة كما نشأت مدينة العلوم والفنون خارج باريس. 

وهكذا يستمر المد الحضارى من فرنسا ليضع الملامح التخطيطية لقاهرة المستقبل كما يضع الملامح المعمارية لمدينة التراث … هذا فى الوقت الذى اتخذت فيه منظمة اليونسكو قرارا بإعتبار القاهرة القديمة تراثا عالميا كمتحف مفتوح يضم المساجد والمنازل والكنائس كما قام فيه البنك الدولى بإجراء دراسات مستفيضة عن إمكانية تحويل القاهرة القديمة التى تتدهور آثارها مع الزمن إلى مدينة للتراث … ليس فقط بما فيها من معالم تاريخية ومقومات سياحية ولكن بما فيها من تراث إنسانى يتمثل فى المجتمع المصرى الذى يقيم فيها. ومع ذلك واجهت الدولة الكثير من المتحديات الإدارية والفنية لتحقيق هذه الغاية الحضارية فلجأت إلى خارج المدينة القديمة التى تنعى من بناها لتقترح إقامة مدينة جديدة للتراث بعيدا عن التراث نفسه. وقد سبق أن بدأت الخطوات التنفيذية فى بناء متحف الحضارة بجوار دار الأوبرا بالجزيرة وقدمت التصميمات المعمارية منذ أكثر من ثلاث سنوات … ولم يبدأ العمل فى هذا المشروع التراثى الكبير… وسبق أن وضع المهندس حسن فتحى منذ سنوات طويلة تصميماته لمتحف الفنون الشعبية فى أرض مدينة الفنون بالهرم ولم يبدأ العمل فيه … كما أعلنت وزارة التعمير عن مسابقة لانشاء حدائق متحفية فى المدن الجديدة الأولى للتراث الفرعونى، والأخرى للتراث القبطى والإسلامى وانتهى الموضوع بتوزيع الجوائز على الفائزين وإذا كان الموضوع هو موضوع أفكار فما أكثرها وإذا كان لكل وزير رؤيا خاصة فما أخصبها … ولكن أن تتحمل أجهزة الدولة هذا الكم من المشروعات وهذا العدد من الدراسات والاقتراحات فهذا ما لا تقدر عليه الدولة ماليا أوتنظيميا. 

إن بناء مدينة التراث كمنطقة للأنشطة الثقافية والسياحية بعيدا عن غيرها من الأنشطة السكانية مثل الصناعات الحرفية أوالمعاهد الفنية أوالمعارض التجارية أوالمنشآت الفندقية مع ربطها بالمناطق السكنية يحول مدينة التراث إلى مدينة للأشباح تفقد حياتها ليلا، وما فائدة التكامل فى التنمية العمرانية إن لم يتم بين مختلف الأنشطة الثقافية والترفيهية والتعليمية والصحية والأمنية والإدارية والتجارية مع الإسكان فى إطار واحد. لقد طلبت إحدى الجامعات مساحات لامتداداتها حول التجمع السكنى رقم (1) وكذلك طلب أحد النوادى الرياضية مساحات لأنشطته حول نفس التجمع كما طلبت غيرها من الجهات مساحات أخرى ثقافية وترفيهية وصناعية  حول نفس التجمع. كماطلبت غيرها من الجهات مساحات أخرى ثقافية وترفيهية وصناعية و سياحية وجميعها لا بد وأن يخضع إلى المقاييس والمعايير والأسس التخطيطية. إن المدينة المصرية لا تعانى من قصور فى التخطيط العمرانى ولكنها تعانى من سوء إدارة وتنظيم عملية التنمية العمرانية والتى تتم تبعا للأهواء والإجتهادات والتصورات الخاصة … أو للخيال الخصب … وإذا كان وزير الثقافة حريص على إنشاء مدينة للتراث بالرغم مما يترتب على ذلك من أعباء مالية قد تجرنا إلى الإستعانة باليونسكو حتى نزيد من ديون مصر … فما باله لا يطلب من وزير التعمير أن تبنى التجمعات الجديدة حول القاهرة بالطابع المعمارى الذى يعكس التراث الثقافى لمصر … 
وتصبح الدعوة أوفق إذا دعى إلى بناء مدن تلتزم بالقيم التراثية فى حدود إقتصاديات البناء المتاحة وهى أهم من الدعوة إلى بناء مدينة للتراث نفسه وهو موجود حاليا فى أماكن متعددة تحتاج إلى رعاية وعناية … وما فائدة الحفاظ على التراث إذن إذا لم نشاهده ينعكس على ما نقيم من منشآت ونبنى من إسكان. 

وإذا كنا نتطلع إلى المد الحضارى الذى يردنا مع الإستشاريين المقيمين فى لندن أو باريس، فالأجدر بنا أن نتطلع إلى المد الحضارى النابع من تراب مصر. 
وبدلا من بناء مدينة للتراث نبنى مدينة من الثراب حتى نثبت للعالم أننا بحق إمتداد لحضارة عمرها التاريخى آلاف السنين.                                       

word
pdf