لمن تدق الأجراس . .؟

لمن تدق الأجراس . .؟2019-12-01T08:49:05+00:00

لمن تدق الأجراس . .؟

     للدكتور/ عبد الباقي إبراهيم

  رئيس مركز الدراسات التخطيطية والمعمارية

جريدة الأخبار 24/5/1994

 

المشاهد في السنوات الأخيرة فى تزايد مستمر في الندوات والمؤتمرات في كافة المهن والتخصصات لمناقشة مختلف القضايا والموضوعات.. وقد ينحصر بعضها في عرض بحوث محددة لتحقيق هدف محدد تسعى إليه جهة معينة وهنا تنتقل التوصيات والقرارات مباشرة من قاعات الندوة أو المؤتمر إلى جهة الإختصاص وصاحب القرار دون وسيط أو كفيل.. ولكن عندما تتشعب عناصر الموضوعات دون تحديد للهدف المعين الذي تسعى إليه الندوة أو المؤتمر لمعاونة جهة معينة  في معالجة مشكلة معينة فإن البحوث في هذه الحالة تتناثر وتتشعب ولا تجد من يجمعها ليستخلص المفيد منها وتوجيهه إلى جهة الإختصاص التي لا وجود لها في مثل هذه الندوات والمؤتمرات التي كثيرا ما تخرج عنها توصيات وقرارات لا تتعدى ما يجب وما ينبغي وما لابد وما لا يوصي به دون تحديد للأسلوب العملي أو الواقعي لتحقيق هذه التوصيات وهنا تتجه الأنظار إلى المؤسسات والمنظمات والهيئات ومدى قدرتها على إستعمال هذه التوصيات أو إستيعابها أو دراساتها أو تطبيقها أو الإفادة منها بأي وسيلة من الوسائل.. وتنتهي التوصيات إلى مثواها الأخير وتمر هذه الندوات وهذه المؤتمرات وكأنها مناسبات إجتماعية يلتقي فيها الأصحاب والخلان على مدى يوم أو يومان.. أما الهيئات المستفيدة من الموضوعات فهي عادة ما تكون في سبات عميق لا تدري عن الأمر شيئا وإن عرفت فلا تشارك وإن شاركت استمعت وإن استمعت أفاضت لتدعي أن عندها كل الخطوط والمعلومات وترى ألا ينازعها فيها أحد, وقد تخرج نفسها من كل الأمور بوصفها عبد المأمور.. وهنا تتكرر ظاهرة الإنفصال الشبكي من مراكز البحوث وبين جهات الإختصاص  والتنفيذ.

وهكذا تعقد المؤتمرات تلو الندوات والندوات تلو المؤتمرات وتصدر عنها التوصيات والقرارات وتنتهي الموالد والذكريات. وهكذا تدق الأجراس دون سميع أو مجيب اللهم إلا إذا إلتقطها بعض السيارة بمحض الصدفة.

أما على المدى اليومي أو الأسبوعي فيعجب الإنسان لما ينشر على الصفحات في الجرائد والمجلات من كلمات ومقالات منها ما يقدم الفكر بإحتراس ومنها ما يدق الأجراس.. دون سميع أو مجيب.. اللهم إلا إذا كان نقدا خفيفا أو ثقيلا. عندها تبادر أجهزة العلاقات العامة في الرد ولضحد النقد.. وكأنها حرب ضروس سوف تقطع فيها الرؤوس.. وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على ضعف النفوس وعدم القدرة على إستيعاب الدروس. فلمن إذن تدق الأجراس؟ هل هناك في الأجهزة المعنية من يقرأ البحوث ويستخلص منها المفيد ليعرضها على أصحاب الشأن والقرار؟.. وهل هناك في أروقة الدولة من يقرأ المقالات ليستشف منها ما يساعد على الارتقاء بالآداء .. وإذا كان لدى مصر هذا الكم الكبير من الخبراء والعلماء .. تجدهم يملأون المقاعد في المجالس القومية وإذا كان لدى مصر هذا الكم الكبير من الأساتذة والباحثين نجدهم يشاركون في الندوات والمؤتمرات.. فإذا كان لدى مصر هذه الثروة الكبيرة فلماذا لا نجد لها أثرا في الإرتقاء بمرافق الحياة؟.. فالتعليم الجامعي في حكم الجميع في الداخل والخارج وبكل صراحة ووضوح يهبط مستواه في دولة تريد أن تدخل القرن الواحد والعشرين بالفكر والبحث العلمي.. وإذا كان لدى مصر هذا الكم من الباحثين والعلماء فأين آثارهم في تنمية المجتمعات والصناعات ناهيك عن الزراعات فلديها أجهزتها البحثية المجاهدة.. وإذا كان لدى مصر هذا الكم من المهندسين والمعماريين فلماذا هذا التدني في العمارة والتعمير.. مع أنهم يستعملون نفس المواد كغيرهم من الدول التي تتقدم .. هل كل ذلك جاء نتيجة للنظام الشمولي الذي طوق العقول.. وكتم الأنفاس وأمات الإنتماء.. أم هو نتيجة للتحول من هذا النظام الشمولي إلى النظام الديمقراطي الذي لم يستكمل كل ملامحه بعد.. (وإذا كانت حرية الرأي قد إتسعت وتأكدت فلماذا لا تجد الكلمات طريقها إلى أصحاب الشأن والقرار الذين يتربعون على كراسي المسئولية سنوات وسنوات.. حتى أن كثيرا من المقالات التي صدرت في الستينيات لا تزال يعاد مضمونها في التسعينات.. فهل تحصنت الكراسي وتحوصلت بحيث لم يعد يهمها ما قيل وما يقال .. فحرية الكلمة مكفولة ولكل أن يكتب ما يشاء ويقول ما يشاء .. وصاحب الشأن والقرار يأخذ منها أو لا يأخذ كما يشاء فحرية الأذان في مالطة مكفولة للجميع وحرية السماع لما يصل منها مكفولة أيضا لصاحب الشأن والقرار. وهكذا تتساقط الأوراق ويتجمد الإحساس).. ويبقى السؤال لمن تدق الأجراس؟.. لقد تفاقمت العشوائيات وتداعت الزراعات أمام الزحف العمراني عليها من جميع الجهات لا يصدها قانون ولا توقفها قرارات .. وتراكمت العمارات التي تسكنها الأشباح.. في المدن الجديدة القريبة والبعيدة.. ومدت الطرق بالكيلومترات تشق الأراضي الزراعية وتجذب على جوانبها العمران الذي يمسح اللون الأخضر.. ويجري أصحاب المصالح لأصحاب الشأن والقرار لأخذ الموافقات على الإلتماسات والطلبات وكأنه لا توجد في الدولة إدارات إلا في قاعة مجلس الشعب .. وكل يخرج حاملا ما يمكن حمله وما خف وزنه وإذا لجأت إلى أصحاب الشأن والقرار تراهم بلا حل أو ربط والكل ينتظر التعليمات والتوجيهات .. وإذا كان الأمر كذلك فلماذا كل هذه الكلمات والمقالات ولماذا كل هذه الندوات والمؤتمرات .. فليس بعد كل ذلك إلا الإرتكان للراحة في وادي الراحة.. وإذا كان ذلك يمكن أن يرتضيه الرجال فلا يجب أن يقبله الشباب ولن يقبله وإذا كانت الظروف المحيطة به يلفها الضباب الذي ينتظر الرياح .. رياح الأمل في مستقبل أفضل..ولا يزال السؤال قائما.. دائما وهو الأساس..

لمن تدق الأجراس..؟

في هذا الخضم من المفارقات تختفي القدوة الحسنة من الساحة ويزداد الشباب إبتعادا عن مواجهة الواقع والحقيقة وإقتحام كل السبل للعمل والإنتاج والإعتماد على النفس في الأداء. فطالب الجامعة يعيش يشاهد حوله أساتذة لا يحرصون على أداء الواجب ويتناحرون ويتخاصمون وتصل سلوكياتهم إلى الأقسام والمحاكم.. والعامل في الإدارة أو الوزارة يرى كيف يقوم المدير أو الوزير الجديد ويبدأ عمله بتغيير مكتب سلفه ويعيد صياغته بأحدث التجهيزات والديكورات مع الموسيقى الخفيفة منفقا على ذلك الملايين والعاملين معه لا يستطيعون إستعمال دورات المياه التي يأنف منها الحيوان قبل الإنسان .. وهكذا يظهر التناقض الشديد بين بيئة الكبير وبيئة الصغير.. ويظهر التباين في معظم المؤسسات الرسمية والعامة. كما يظهر في شوارع الرؤساء والوزارات وشوارع العامة والفقراء.. وبالرغم من مقالات التحذير وما بها من محاذير.. من أحزمة الفقر التي تلتف بالمدن الكبرى.. وبالرغم من كثرة المقالات التي حذرت من الامتدادات العمرانية التي تلتهم الأراضي الزراعية وبالرغم من الدعوة إلى التكامل بين برامج التنمية الإقتصادية والتنمية الإجتماعية والتنمية العمرانية في الإستراتيجية القومية إلا أن كل ذلك لم يدخل بعد دائرة إهتمام أصحاب الشأن والقرار وتجمد الإحساس..

ويبقى السؤال لمن تدق الأجراس..؟

يرجع هذا التباعد بين معطيات البحث أو المقال أو الكلمة التي تلقى في الهواء والمتلقي من أصحاب الشأن ومتخذي القرار إلى غياب المشروع القومي الذي يلتفت حوله المجتمع بكل فئاته, يشارك فيه الطفل في المدرسة والطالب في الجامعة والعامل في المصنع والموظف في العمل والفلاح في الحقل.. موضوعات مطروحة على كل الفئات للمناقشة في الفصل والمصنع ومقر العمل وعلى الشاشة الصغيرة التي تعرض لكل الأفكار بما فيها من تناقضات وإختلافات.. وليس على غرار تمثيلية البرلمان الصغير.. يجتمع الجميع حول قضية واحدة .. قضية التنمية أو قضية التعليم أو قضية السياحة أو قضية الإدارة أو قضية الإنتاج أو قضية الأمن أو قضية الثقافة دون خوف أو حساسية خاصة من أصحاب الشأن ومتخذي القرار الذين يستمدون من مناصبهم العبقرية والذكاء الخارق الذي لم يصل إليه أحد من بعد أو من قبل وماإن يتركوا مكانهم حتى يجدوا أنفسهم عاجزين عن الحركة أو التصرف بعدما كانوا يعتمدون على التوجيهات والإشارات.. إن الإلتفاف حول المشروع القومي الواحد هو الأساس.. بعد أن عرف لمن تدق الأجراس..

word
pdf