ليس بالقوانين وحدها تمنع الحرائق

ليس بالقوانين وحدها تمنع الحرائق2019-12-04T08:19:15+00:00

ليس بالقوانين وحدها تمنع الحرائق

 

الدكتور عبد الباقى إبراهيم

 

الأهرام الإقتصادى 14/10/1991 – العدد 1187

 
أجهزة الدولة لا تفيق وتعود إلى رشدها إلا بعد أن تحل كارثة أو تقع مأساة ثم تقم من مرقدها تدعو إلى ضرورة العمل على مواجهة ما يمكن أن يقع مستقبلاً وتجتمع اللجان على أعلى المستويات وتعطى مهلة محددة لدراسة الموضوعات التى أمامها وتخرج بتوصيات ومشروعات القوانين المناسبة للعرض على المجالس التشريعية لإقرارها فى أقرب جلساتها وفى هذا الزحام من الإنفعالات تضيع كثير من الحقائق وتخرج التوصيات لإتخاذ الاجراءات السريعة المناسبة لمواجهة هذه الكوارث وما تلبث أن تهدأ النفوس وتسترخى الأعصاب وتتوقف الاهتمامات لتنتقل إلى مجال آخر وأهم يراه البعض فى مشاكل الكرة فى الداخل والخارج أو فى معضلة الأغنية الشبابية أو فى أزمة الفيلم. أما ما يبنى وينشأ على هذه الأرض من مبان سكنية أو إدارية أو تجارية أو فندقية فهى أمور لا تلقى عليها الأضواء ولا تلقى الاهتمام الجماهيرى إلا عندما تصيبها كارثة السقوط أو الحريق وترجع الاهتمامات مرة أخرى وكأن الدرس لا يستوعب إلا إذا تكررت الكارثة عشرات المرات حتى تصبح ظاهرة ..

والمشكلة هنا ليست فى القوانين ـ وما أكثرها ـ ولكن فى تطبيق هذه القوانين. المشكلة هنا فى الفروق الحضارية بين التقدم والتخلف. جذورها فى ممارسة المهنة. تعليما وتطبيقا فى الكليات والمعاهد ثم فى المنظمات المهنية التى ترعى الممارسة. فلم يعد للعمل الفنى أوالهندسى قيمة علمية فى نظر الدولة ولكنه أصبح تبعاً للقانون 9 لعام 1983 م فى مستوى تجارة المواشى والدواجن وتوريد أدوات النظافة حتى إن بعض الجهات الرسمية تدعو المكاتب الاستشارية لتوريد الرسومات والقطاعات والمواصفات على نفس الاستمارة الخاصة بتوفير اللحم أوالخضار فالدولة ساعدت من جهة على الهبوط بالمهنة حتى فقدت أصولها الفنية والعلمية والهندسية ومن جهة أخرى تراجعت المعاهد العلمية والمنظمات المهنية عن اللحاق بالتقدم العلمى أو المهنى .. حتى أصبح بعض أساتذة الهندسة يقدمون أعمالهم بأبخس الأسعار وأقل الرسومات والمواصفات فما بال مهندسى التنظيم الذين يمنحون التراخيص بالأسلوب الرخيص ؟ 

المشكلة من جذورها هى فى التعامل مع تكنولوجيا العصر دون الإستعداد لمواجهتها بالعلم والممارسة لقد دخلت فى صناعة البناء والتشييد مواد مستحدثة دخلتها الألياف الصناعية واتصلت بها التجهيزات الإلكترونية والمكونات البلاستيكية بمواصفاتها الفنية وأسس تصميمها وتركيبها وصيانتها وذلك دون الإلمام بها علمياً وتطبيقياً، وتركت الأمور للإجتهاد والمحاولات سواء فى التصميم أو التركيب أو الصيانة فلم يعد المهندس ملماً بأصول المهنة كما لم يعد العامل فى مستوى المسئولية .

هذه هى المشكلة ولذلك تلجأ الهيئات الأجنبية التى تبنى فى مصر إلى الإستعانة بالخبرات والعمالة الأجنبية ويقف المهندس المحلى عند الأعمال الصغيرة ويبقى العامل المحلى للحمل والمناولة وها هى جحافلهم تبحث عن فرص العمل فى الدول المجاورة دون رعاية أو عناية، فهم أميون لا يعرفون الكتابة أوالقراءة والمهندسون لا يجيدون قراءة أوكتابة اللغة الأجنبية التى تشرح تكنولوجيا البناء الحديث من مواصفات وتجهيزات .
هذه هى ضريبة الدول النامية التى تستورد تكنولوجيا البناء وتتحرج أن تبنى بتكنولوجيا البناء المتوافقة التى تتوافق مع إمكانياتها العلمية والمالية وبيئتها الطبيعية والحضارية .. فلا هى قادرة على اللحاق بالدول المتقدمة ولا هى قادرة على بناء نفسها بنفسها  .. وسوف تزداد الفجوة الحضارية بين التقدم والتخلف مع كل إنجاز جديد وابتكار حديث، لقد استوردنا نظام الأبراج وتمسكنا به ـ ومازلناـ بالرغم من تعارضه مع كل القيم الإجتماعية والإقتصادية، الأمر الذى تنبه إليه الغرب فأقلعوا عنه ونحن لا ندرى وها نحن نتقبل بكل انبهار مشروع مكتبة الاسكندرية المدفون تحت الأرض بالرغم من كل المشاكل التى لا تستطيع دولة نامية أن تتحملها بإمكانياتها المحدودة. فالقيم الإسلامية فى العمارة تهدف إلى البناء بقدر الحاجة وبقدر الإمكانية فنحن نريد أن ندرك تطورات تكنولوجيا الغرب ونحن فى مواقعنا لا نتحرك معها بنفس السرعة ولا نتعامل معها بنفس الأسلوب تعليمياً أو تطبيقاً ..
هذه هى جذور محنتنا الإقتصادية طموحاتنا أكبر من قدراتنا وتطلعاتنا أبعد من مدى أنظارنا فنحن لا نرى إلا اليوم، أما الغد وبعد الغد فليس فى منطقتنا خلافاً  لأمر الإسلام اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً، ولا بمنطق ” احينى اليوم وأمتنى غداً “. 

إذا كان لا بد أن نرتبط بحركة الكون فى التقدم والإرتقاء فلابد أن ترتبط حركتنا بإعداد عدتنا لنكون قادرين على مواكبة حركة الكون . فمجال التعليم المعمارى والهندسى يحتاج إلى هزة شديدة وصحوة قوية حتى نرى فيها موقفنا من العالم أو فى مجال ممارسة المهنة وتنظيمها فلا بد أن تواكب مثيلاتها فى الدول المتقدمة وهى تهتم بتدريب المعمارى والمهندس قبل تخرجه وبعد تخرجه حتى يصبح قادرا على إدراك أهمية العمل الهندسى بكل جزئياته وتخصصاته وهى تدركه بعد ذلك بالكتب ودلائل الأعمال وتمده بكل حديث فى صناعة التشييد وتكنولوجيا البناء وأسس التصميم ونظم التنفيذ وإدارة الأعمال فالبناء صناعة لا بد لها من رقابة كأى صناعة أخرى .
إن المشكلة ليست فى سن القوانين ولكن فى الإرتقاء بالأداء فى التصميم والتنفيذ والصيانة. هذه هى مهمة الجامعات كما هى مهمة المنظمات العلمية والمهنية. مع إدراك الدولة لأهمية العمل الهندسى ولا تضعه فى مستوى توريد المواشى. وعلى الجانب الآخر لا بد من تطهير المهنة من الدخلاء والأدعياء مهما كانت مواقعهم .

هذه دعوة إلى تنظيم العمل الإستشارى من ناحية وتنظيم أعمال المقاولات من ناحية أخرى فهما مهنتان متلازمتان إذا كنا نسعى إلى منع الحرائق فى المبانى وفى الإقتصاد الداخلى والخارجى . وإذا كنا نسعى إلى تصدير الخبرة العالية والعمالة المدربة حتى نكون قادرين على المنافسة فى أسواق العمل الهندسى تصميماً أوتنفيذاً فإذا كنا نسعى إلى المنافسة فى تصدير الإنتاج الصناعى أوالزراعى بمواصفات خاصة فلا أقل من أن نسعى إلى المنافسة فى تصدير الأعمال الإستشارية والقدرات التنفيذية حتى نخرج من دائرة تصدير الأنفار الذين قلت قيمتهم فى سوق العمالة أمام عمالة الشرق الأقصى من ناحية وعمالة الغرب من ناحية أخرى .
هذا أحد أبعاد التـــحرر الاقتصادي الذي تسعى إليه الدولة على مدى ألف يوم .. فلنبدأ من اليوم .

word
pdf