ماذا بعد الأحداث الأخيرة

ماذا بعد الأحداث الأخيرة2019-12-10T12:31:58+00:00

ماذا بعد الأحداث الأخيرة

“عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم”

 

 

لا يجب أن تمر أحداث الشغب التي جرت أيام 25 ,26 فبراير 1986 كحادث عابر في تاريخ مصر ينتهي بانتهاء التحقيق فيه ومعالجة أسبابه ولكن لا بد من الاستفادة من دروسه واستثمار نتائجه بعيدا عن مظاهر الاستنكار ونداءات التأييد والتغني بأمجاد مصر والتباكي على ما أصاب الأم الحنون من غدر وعقوق.. بل يجب إعادة ترتيب الأوراق لمواجهة تحديات المستقبل بموضوعية وعمق بعيدا عن أي مزايدات أو شعارات سياسية خالية من المضمون. فقد بدأت رياح التغيير تهب على العديد من أكبر دول العالم شرقا وغربا لمواجهة متطلبات المستقبل.. ويجدر بنا في هذا المقال أن نشير إلى عدد من الإجراءات الواجب اتخاذها للحفاظ على أمن وأمان مصر كركيزة أساسية من ركائز التنمية القومية الاقتصادية والاجتماعية والعمرانية.

أولا: لابد من أن تتضمن الخطة الخمسية الثانية برنامجا لإعادة بناء قوات الأمن الداخلي على أسس حديثة ومفاهيم جديدة بحيث توفر رجل الشرطة الخفيف الحركة القوي العلم والخلق والبنية الذي يستطيع أن يفرض احترامه واحترام القانون على الشارع المصري ويتعامل مع متطلباته الأمنية والمرورية والسياحية والتموينية والعمرانية كزميله في كل بلاد العالم. ورجل واحد بهذه الكفاءة خير من عشرات من الواقفين في ملابسهم الثقيلة لا يدرون أين هم واقفون يتعرضون لإهانة سائقي الأتوبيس الأرعن وبذائة الشاب الذي أهداه والده سيارة في عيد ميلاده الخامس عشر ويرمي لهم سائقوا البيجو برايز على الأرض ليلتقطوها كصورة من صور الإذلال.. أو يقفون على أبواب الفنادق وعند مخارج المطار ينتظرون حسنة من سائح أو مواطن عائد.. هؤلاء مكانهم مزرعة ومسكن في مستوطنات سيناء أو ورشة ومنزل في مناطق التنمية الجديدة.. لا بد وأن يفهم أن الاستثمار في بناء قوات الأمن الحديثة هو استثمار إنتاجي أكثر منه استثمار خدمي.. فلا أقل من أن تبدأ الدولة مع بداية الخطة الخمسية الثانية بافتتاح ثلاث كليات جديدة للشرطة على المشارف الصحراوية لمدن الإسكندرية والإسماعيلية وأسيوط بدلا من التوسع في الكليات النظرية في الجامعات الإقليمية.

ثانيا: لابد من أن تبدأ الخطة الخمسية الثانية بتوطين الفائض من سكان المدن الكبيرة الذين يملاءون الشوارع والطرقات ويعيشون عالة على المجتمع بلا عمل مستقر.. يتجمعون بسرعة حول أي حادث وينساقون بقوة خلف أي مظاهرة بلا هدف إلا إثارة الشغب ثم السلب والنهب.. وهم أخطر فئات المجتمع على أمن المجتمع فهم منتشرون في كل مكان لا يجمعهم أي تنظيم ولا يضمهم أي تشكيل.. يظهرون فجأة ويختفون بسرعة في دروب الأحياء القديمة والحديثة على حد سواء ومكان هؤلاء هو معسكرات العمل في سيناء أو في مزارع الوادي الجديد أو في ورش ومصانع المجتمعات الجديدة أو في مرافقها وخدماتها العامة. وهكذا فإن توجيه الاستثمارات لإنشاء المستوطنات الجديدة في مناطق التنمية الجديدة لتحقيق الاستراتيجية القومية يأتي في الأولوية المطلقة عن أي إنشاءات جديدة في المدن الكبرى. فلنكتفي بما هو قائم ولا نضيف على المدن الكبرى أي أعباء استثمارية تساعد على زيادة تضخمها واستقرار الاستيطان فيها. وهذه فرصة أخيرة لإعادة ترتيب الأوراق ومراجعة مشروعات التنمية العمرانية والإسكان الجديدة التي ستقام في المدن الكبرى حتى لا تقضى عليها أمنيا واجتماعيا واقتصاديا.

ثالثا:  لابد من تعريف جديد للبنية الأساسية في التنمية السياحية فهي ليست إنشاء الطرق وبناء الفنادق والقرى السياحية والمطاعم بقدر ما هي في التوعية السياحية الاجتماعية في تنظيم الشارع المصري في نظافة محلاته العامة.. في حسن معاملة الضيف, في عدم التجمهر حول السائحين في احترام القانون في إظهار المباني العامة والخاصة بالمظهر الحضاري.. في إزالة الشوائب التي تعوق المجال البصري للمباني الأثرية.. في الارتقاء بالبيئة.. في التشجير.. في فصل ممرات المشاة من مسارات السيارات.. في تقديم الخدمات العامة بكفاءة وابتسامة.. ثم هي أولا وأخيرا في أمن وأمان الشارع المصري الذي يوفره نوعية واعية من رجال الشرطة تقوم برعاية الشارع المصري أمنيا وسياحيا وعمرانيا وسلوكيا.. فالاستثمار في هذه الجوانب هو استثمار إنتاجي أكثر منه استثمار خدمي.. فلنأخذ الدرس من تونس وأسبانيا واليونان من حولنا.

رابعا: إن توفير الأمن والأمان يتطلب إلتحام أكثر بين الشعب بأفراده ومنظماته مع نوابه في المجالس الشعبية المختلفة.. فكم منا يعرف نائب المنطقة أوالقسم المقيم فيه.. من منا يعرف اسمه وعنوانه أو حتى الطريق إليه.. بصفته الموصل الشرعي إلى القنوات الشرعية التي نسمع عنها.. فمهما اختلفت المذاهب السياسية في تنظيم الانتخابات فلا يهم المواطن إلا أن يعرف نائبه في المجلس المحلي أو في مجلس الشعب.. بل وينتظر أن يقوم نائبه بالاتصال به ويطمئن على أحواله المعيشية.. يطمئن على سلامة الشارع الذي تقيم فيه.. يطمئن على توفير احتياجاته المعيشية.. ويتعرف على مشاكل المواطنين من خلال لقاءات شهرية أو موسمية.. فالمواطن ينتظر أن يتفرغ النائب له ولا يقوم بعمل آخر يشغله عن أداء واجبه إزاء مواطنيه.. والمواطن يريد أن يلتقي به النائب المنتخب ولكنه أيضا يريد أن يلتقي به النائب المعارض فقد يكون أكثر اهتماما وأسرع في الاستجابة لرغبات المواطنين في دائرته… فالمواطن يريد أن يعرف نائبه كما يريد أن يعرف حدود دائرته حتى يشعر بالانتماء للمكان الذي يعيش فيه كأساس لانتمائه لوطنه.. هذا هو صمام الأمن والأمان خاصة للجماهير التي لا تستطيع أن تعبر عن طلباتها بالكتابة للمسئولين.. إن إرساء قواعد الديمقراطية هي في الواقع إرساء للأمن والأمان.

خامسا: إن التعامل مع التجمعات الشبابية التي تقف على مشارف المستقبل لابد وأن يتم بحساسية كبيرة وعناية فائقة بعيدا عن أي مذاهب فكرية أو اتجاهات سياسية.. فإن صغائر الأمور قد تتراكم في نفسية الشباب حتى تستكمل شحنها إلى درجة يخشى عليها من الانفجار.. فالشباب الذي يكد ويعرق ويعيش على الكفاف في الجامعة متطلعا إلى مستقبل أفضل كيف تكون حالته النفسية وهو يشاهد يوميا زملائه القادمين بسياراتهم الخاصة والمنعمين بخيرات أهليهم أو اللابسين لآخر صيحات الموضة شبابا أو شابات ويتمتعون بمجانية التعليم مثل هؤلاء الذين يعيشون على الكفاف.. إن التكافل الاجتماعي هنا هو أساس الأمن والأمان لمثل هذه التجمعات الشبابية، فلا بد من إعادة ترتيب الأوراق لإعادة التوازن الإجتماعي حتى لا نفاجأ بأحداث مؤسفة أخرى.

لقد أراد الله بمصر خيرا وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم. فلنتعامل مع الدروس المستفادة من الأحداث الأخيرة بهذا المنهج الإلهى وبهذه النظرة المستقبلية .لقد أظهر الشعب المصري تماسكه كما أثبت انتمائه للوطن خلال هذه المحنة الطارئة فلنأخذ من هذه الظاهرة منطلقا لنثبت هذا التماسك وإثراء هذا الإنتماء.. ولنترك أثار الأحداث الأخيرة للقضاء يصدر فيها حكمه.. ولننظر إلى المستقبل بمنظار جديد.

word
pdf