ماذا بعد حسن فتحى ..؟دعوة لتخليد ذكراه

ماذا بعد حسن فتحى ..؟دعوة لتخليد ذكراه2019-12-08T13:08:44+00:00

ماذا بعد حسن فتحى .. ؟  دعوة لتخليد ذكراه

د.عبد الباقى إبراهيم

أستاذ بهندسة عين شمس 

جريدة الأخبار

رحل حسن فتحى ولكن لم ترحل مبادئه وفلسفته لقد كان المعمارى المصرى الكبير نموذجا للمثابرة والإصرار والإيمان بمبدأ اقتنع به واقنع به قليلاً من الناس وهو إستنباط نماذج تصميمية من تراثنا الحضارى يتوافق مع البيئة ويناسب الخصائص الإقتصادية والإجتماعية للمجتمع وقد عزز حسن فتحى هذا الفكر بأسلوب شيق فى العرض المسموع أوالمكتوب وساعده على ذلك تمكنه من اللغتين الإنجليزية والفرنسية الأمر الذي أوصل رسالته إلى أفاق واسعة على المستوى العالمى ونشرت له المطابع الأمريكية كتاب عمارة الفقراء …. كما نشرت له المجلات الأوروبية والأمريكية أعماله المحدودة بقرية القرنة فى جنوب الصعيد وقرية باريس فى الواحات وبعض المساكن الخاصة حول القاهرة وعلى الساحل الشمالى، ثم أخيراً المركز الإسلامي فى نيوميكسيكو بأمريكا …. وكان لإنتشار الفكر المعمارى لحسن فتحى خارج مصر أثره فى بعض المدارس المعمارية الأجنبية فوفدت إليه جماعات من الطلبة والأساتذة من الشرق والغرب يستمتعون بحديثه الشيق وفكره الحاضر …. ويتعايشون في بيئته السكنية التى ترجع إلى العصر العثماني فى منزل على لبيب بالعنوان المعروف بأربعة درب اللبانة والذي كان يطل منه حسن فتحى على مجموعة جميلة من المآذن والقباب فى منطقة قلعة صلاح الدين.

ومع الانتشار الواسع للفكر المعمارى لحسن فتحى خارج وطنه فإن القلة القليلة من المعماريين العرب الذين لا يعلمون الشىء الكثير عن أعماله وربما يرجع ذلك إلى قلة ما نشر عنه باللغة العربية بالنسبة لما نشر له بالانجليزية أوالفرنسية … ومع وجود فكر حسن فتحى فى قليل من مدارس العمارة الأجنبية إلا أن هذا الفكر لا وجود له فى المناهج المعمارية العربية … وإن كان أحد المعماريين الجزائريين المرتبطين فكريا بالثـقافة الفرنسية قد وضع رسالة علمية عن عمارة حسن فتحى … نال بها احدى الدرجات العلمية العليا … فقد كان بعض طلبة العمارة فى العالم يفدون إلى مصر … لتجديد معرفتهم بحسن فتحى الذى قرأوا له وقرأوا عنه فى مدارسهم. وإذا كان حسن فتحى قد بنى للفقراء بأسلوبه الخاص الذي يعتمد على ضرورة تدريب أفراد المجتمع للمشاركة فى عمليات البناء فهو أيضاً قد بنى للأغنياء بنفس الفكر ولكن بمنهج مختلف يعتمد فيه على تدريب العمال خصيصاً لهذا النوع من البناء… وهكذا انحصر الفكر المعمارى لحسن فتحى فى هذا النمط من البناء السكنى المنفرد… ولم يمتد إلى البناء السكنى المركب الذي يتناسب مع الكثافات السكانية العالية فقد كان يؤمن بأن فى الصحراء مجالا لا حدود له للتعمير بهذ الأسلوب وبكاثافات سكنية منخفضة. 

وكان حسن فتحى يدرك أنه لامناص للمجتمعات النامية أوالفقيرة من استعمال التكنولوجيا المتوافقة فى البناء … هذه التكنولوجيا التى تعتمد على المادة المحلية للبناء كما تعتمد على انماء المهارات المحلية للتشييد وتواجه فى نفس الوقت كل المتطلبات المعيشية للانسان وظيفيا ومناخيا بالوسائل الذاتية دون الاعتماد على التكنولوجيا الغربية. وكان لحسن فتحى فى ذلك نظرته المستقبلية البعيدة التى لا يدركها إلا القلة القليلة التى ترى مستقبل العالم فى ضوء توقع النقص الشديد من مصادر الطاقة التقليدية الأمر الذى أدى إلى اعتماد الأموال الطائلة للبحث عن بدائل لهذه الطاقة من الطاقة الشمسية أو من التوافق البيئى لخصائص الموقع ومواد البناء المحلية … وهذا ما كان يراه حسن فتحي فى ضرورة الاعتماد على التكنولوجيا المتوافقة فى البناء . ووضع لذلك منهجا علميا فى اطار مركز متخصص لهذا الاتجاه … وإن كان قد توقف العمل فيه نظرا لعدم اقبال المؤسسات الرسمية على تدعيم أو اسناد مشروعات تدريبية أو واقعية إليه. واذا أمعنا النظر بعمق فى عمارتنا العربية المعاصرة نجد أنها تساير التكنولوجيا الغربية بحجة أنها تكنولوجيا العصر. وكان حسن فتحى يرى فى هذا الاتجاه خطورة كبيرة إذ أن ذلك يرتبط دائما بالاعتماد على الغرب اقتصاديا وثـقافيا، الأمر الذى يفقد المجتمع العربى هويته كما يفقد العمارة العربية هويتها بالتبعية .. وهنا كان حسن فتحى يعتقد أن الصناعات الغربية التى تغزو العالم وتصدر له مواد البناء وطرق الانشاء بجانب التجهيزات الفنية والمعمارية لها ما يساندها من الفكر الاجتماعى المحلى الذى يسعى إلى الربح السريع من خلال استيراد هذه الصناعات … وفى هذا يظهر البعد السياسى للفكر المعمارى لحسن فتحى … وهو الفكر الذى يؤيده مريدوه من الغرب أكثر مما يؤيده مريدوه من العرب. بعد أن دخل الإقتصاد السياسي العربي الحلبة الدولية التي للغرب فيها الغلبة واليد العليا. 

وإذا أمعنا النظر مرة أخرى فى عمارتنا العربية المعاصرة لوجدنا كماً كبيراً من الفاقد الاقتصادى وكماً كبيراً من الفاقد الفنى والمعمارى. والفاقد الإقتصادى هنا يتمثل فى المساحات غير المستغلة وظيفيا أونفسيا وفى الاضافات والتشكيلات التى لا ترتبط بأصل المبنى وفى الطاقة التى تفقد بوسائل التهوية أوالتبريد والتسخين أوفى المواد والتجهيزات المستوردة التى يصعب صيانتها، وهنا يدرك المعماري العربي دوره في الاقتصاد القومي أوحتى في الاقتصاد الفردى … فالعمارة الجميلة هى العمارة التى تؤدى إلى موازنة رغبات الفرد والمجتمع وظيفيا واقتصاديا دون إسراف أوتقتير وتواجه متطلبات اليوم كما تواجه متطلبات المستقبل. 
ويظهر من كل ذلك التساؤل عن : ماذا بعد حسن فتحى الذى فتح لنا هذا الفكر الانسانى على مصراعيه بغض النظر عن اختلافنا حول أعماله المعمارية … مع ذلك ماذا فعلنا بعد عام 1987 العام الذى خصصته الأمم المتحدة ليكون العام الدولى لايواء من لا مأوى لهم … وفيه تجديد لفكر حسن فتحى فالموضوع لم يعد قاصراً على فكر شخصى ولكنه أصبح له أصداؤه الدولية فقد اتخذت الأمم المتحدة قرارها ذلك عام 1982م … عندما ظهر لها أن حوالى ربع سكان العالم سوف لا يجدون لهم مأوى عام 2000 ومعظمهم فى الدول المتخلفة والفقيرة  … وبدأت تعد لذلك البرامج العلمية والمشروعات العملية التى تسعى فيها إلى توفير المأوى لكل من لا مأوى له … والمأوى هنا ليس كمكان للايواء فقط ولكنه مكان للايواء كمرحلة من مراحل التنمية الإقتصادية والإجتماعية… هنا يدخل البعد السياسي فى المشكلة لينظم علاقة الإقتصاد المحلى بالإقتصاد العالمي فى هذا المجال.

ومرة أخرى تظهر الخلفية الفكرية لحسن فتحى فى هذا الشأن…. لقد سبق وأن بادرت حوالى 300 من المنظمات غير الحكومية فى المساهمة فى نشاط العام الدولى لإيواء من لا مأوى لهم… وطبعت الملصقات وقدمت وزارة البيئة فى فنلندا بالتعاون مع مركز الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية منشوراً يدعو إلي مساعدة الهيئات المختلفة فى وضع وتنفيذ برامجها الاسكانية خاصة تلك الموجهة إلى قطاع ذوى الدخل المنخفض من السكان، وفيه تسلسل عملى يساعد على وضع البرامج والسياسات لتوفير المسكن بالأسعار المتاحة. كما قامت وزارة الإسكان فى هولندا بوضع برنامج للوصل والتنسيق بين المنظمات غير الحكومية العاملة فى هذا المجال … وهكذا يتحرك العالم من حولنا لحل مشكلة هى من أهم مشاكلنا ونحن ساكنون لا نتحرك… والغريب أن الصورة التى كانت تتصدر الإعلانات عن السنة العالمية لإيواء من لا مأوى لهم مأخوذة من مصر ومن قلب القاهرة كأوضح مثل لهذه المشكلة، والمعماريون العرب فى غفلة من الزمن.. هذا فى الوقت  الذي كان لابد فيه أن يتحرك الفكر المعمارى العربي بنفس القوة وبنفس الإصرار ونفس النظرة المستقبلية التى بدأها حسن فتحي بعد أن أخذت أبعادها الدولية من قبل العام الدولى لإيواء من لا مأوى لهم .. هذا ما ينتظر من المعماريين العرب… بعد حسن فتحى.

لقد كثر الجدل عن أعمال المعمارى المصري حسن فتحى فلسفته وتجاربه بين مؤيدين ومعارضين..  ووصل الحوار إلى صفحات المجلات.. واعترض بعض كبار المعماريين المصريين على فكرة عمارة الفقراء التى كان يسعي إليها حسن فتحي ووصفها بأنها عمارة للأغنياء أكثر منها للفقراء . وثار عدد كبير من المؤيدين لفكر حسن فتحى سواء من الصحفيين أو المعماريين وتكرر الحوار واحتدم… وكان لابد من إعادة تحديد المواقف حتى لا تختلط الأمور على المعمارى العربي، الذى قرأ عن حسن فتحى في معظم المجالات العالمية، وقرأ له عديداً من الكتب التى نشرت فى الخارج بلغات غير عربية …. وهكذا عرف المعماريون العرب حسن فتحى من خلال ما كتب عنه بالخارج، أكثر مما يعلمون عنه فى الداخل. وبالرغم من أنه أصبح علامة مميزة فى تاريخ  العمارة العربية المعاصرة، إلا أن اسمه من النادر أن يذكر فى المناهج المعمارية بالجامعات العربية… ومع ذلك اتخذ بعض المعماريين العرب اسم حسن فتحى كدعاية لهم ولأعمالهم، حينما يتفاخرون بأنهم تتلمذوا على يديه. وعلى الجانب الآخر اتخذ غيرهم أعمال حسن فتحى كمادة نقد وتجريح ليظهروا بها على الساحة المعمارية. فكل جانب يريد أن يظهر على حساب اسم حسن فتحى، اما بالتمسح به أوبنقده. وهذا سر من أسرار عظمة الرجل الذي جاوز عمره التاسعة والثمانين قبل رحيله عن هذه الدنيا. ويكفيه علواً أنه أصبح مادة للحوار المعماري بين مؤيد لفكره ومعارض له. هذه حقيقة لابد من أن يعترف بها المؤيد والمعارض لفكره. وقل أن يوجد من المؤيدين أو المعارضين من وصل إلى هذه المكانة الفكرية, لتكون أعماله مادة للحوار الفكري أو العلمي بين المعماريين العرب, أو على المستوى العالمي قبل حسن فتحي .. وهذه حقيقة يجب أن يعترف بها أيضا المؤيدون والمعارضون معا.

لقد عرف حسن فتحى أول ما عرف من مشروعه لبناء قرية القرنة بالأسلوب التقليدى المحلى بهدف إستثمار الطاقات المحلية من عمالة ومواد بناء، توفيراً للمال والإستيراد، وتأكيداً لإمكانية البناء بالجهود الذاتية والأسلوب التعاوني وهذه بلا شك قيم أساسية فى بناء المجتمعات المحلية بالدول الفقيرة، التى تسعى إلى بناء اقتصادها ذاتيا، دون أن ترتبط بعجلة الإقتصاد الدولى الذي تحركه الدول الصناعية أو المتقدمة وهذه قيم لا يختلف عليها المؤيدون أوالمعارضون لفكر حسن فتحى . وإذا كانت التجربة الأولي لحسن فتحى قد بدأت بعمارة الطين فى قرية القرنة فإن اسمه قد ارتبط بهذا النوع من العمارة فعرف بها، ولم يعرف بالقيم التى نادى بها لبناء المجتمعات المحلية… وإذا كانت التجربة الأولى لحسن فتحى قد ارتبطت بالتعامل المالى مع الأجهزة الحكومية، التى لا تتعامل إلا بالعطاءات  والمستخلصات ونظام المقاولات، وهو ما يتعارض مع الأسلوب التنفيذي لفكرة حسن فتحى فإن تجربته فى هذا المجال قد واجهت العديد من المشاكل والمآخذ. زد على ذلك تأثير مياه فيضان النيل على أساسات مبانى القرنة وتخاذل السكان مع الإدارة فى صد الأضرار المترتبة عنها مما تسبب فى بعض الإنهيارات بتجربته الأولى …
وهنا وجد معارضو فكر حسن فتحى مادة غزيرة للنقد، فلجأ بعضهم إلي أرقام الإدارة الحكومية، التى حاولت أن توقف التجربة بحجة الزيادة فى تكاليف البناء، وضرورة العودة إلى نظم المقاولات، وإذا كان لكل تجربة سلبياتها وإيجابيتها – وإلا لما أصبحت تجربة- فإن بعض سلبيات تجربة القرنة, وهي ناتجةعن الاجراءات الادارية والتنظيمية التي وضعتها الادارة الحكومية, إلا أن إيجابيتها قد تأكدت فى إنجاز البناء بالإسلوب التعاونى، والإعتماد على الأيدى العاملة المدربة من البيئة المحلية، مع إستعمال مواد البناء المتوفرة فى الموقع، وهى الطين فى هذه الحالة. فالتجربة الأولى هنا لا تقاس بمقياس المال أو الانفاق بقدر ما تقاس بتحقيق الهدف من البناء وبالأسلوب التعاونى والإعتماد على الذات فى بناء المجتمعات. ويمكن لهذه التجارب أن تتطور وتتحرك من بيئة إلى أخرى ومن مكان إلى آخر بحيث تقوم بكل تجربة لتكون أساساً للتجربة التالية … وهذا هو الأسلوب العلمي للتطور وإلا أصبحنا معلقين فى أذيال الغرب.. يفكر لنا ويخترع لنا ويكتب لنا ونحن من ورائه نلهث، فنبهر بالطائرة التى اخترعها أو الصاروخ الذي أطلقه، أو الإبتكارات التى أنجزها، أوالنظرية التى وضعها، ونلبس الأزياء التى صممها، ونختار الألوان التى يقترحها كل موسم ونقلده فى كل شئ تقليد القردة وننسي تراثنا وثقافتنا وفنوننا وبيئتنا وقيمنا الحضارية. بل ونفقد شخصيتنا كلية ونضيع بين الأمم. فليرجع هؤلاء المعارضون لفكر حسن فتحي إلى قادة الفكر في الغرب ليراجعوا مرة أخرى وليحفظوا الدرس عنهم، وليتعلموا منهم كيف ينادون بالأصالة والمعاصرة فى العمارة، وكيف يوازنون بين الماديات التى اكتسبوها والمعنويات التى فقدوها.
هذا هو حسن فتحي في الميزان. ليس المهم هنا أن نرى الكفة التى تغلب بين المؤيدين والمعارضين، ولكن المهم أن نرى المؤيدين وهم يساهمون بمزيد من الفكر ومزيد من التجارب كما نرى المعارضين وهم يساهمون بمزيد من الفكر وبديل من التجارب. ولا نقف عند حسن فتحى كظاهرة أورمز أوعلامة فى تاريخ العمارة العربية المعاصرة ولكن ننظر إليه كعلامة على طريق المستقبل المعمارى العربي … طريق يسير فيه كل من المؤيدين والمعارضين معاً. يحاولون فيه إثراء الحركة المعمارية العربية حتى تتردد أسماؤهم فى كل أنحاء العالم كما تردد اسم حسن فتحى سواء بالفكر المؤيد أوبالفكر المعارض. هذا هو التحدى الحقيقى أمام الفريقين. فليكفوا عن المجادلة وليقدموا لنا العطاء … بنفس قدر عطاء حسن فتحي أو يزيدون عليه إذا استطاعوا.

لقد عاش حسن فتحى وحيدا … ومات وحيدا …. لم يترك جاها ولا ولد ولكنه ترك تراثا فكريا زاخراً قامت مؤسسة الأغاخان بحفظه وتوثيقه حتى لا يطويه النسيان خاصة في مصر التي كادت تنسى اسم حسن فتحي الذي ملأ العالم شرقه وغربه … والتساؤل الآن نطرحه على هؤلاء الذين آمنوا بفكر حسن فتحي وأشادوا به فى المحافل المحلية والدولية ماذا هم فاعلون لتخليد ذكراه حتى تستمر فلسفته منهجا علميا للأجيال القادمة من المعماريين والمهندسين … هل بإنشاء جائزة تحمل اسمه وتمنح لأحسن الأعمال أو البحوث التى تنهج نهجه … هل بإنشاء معهد يحمل اسمه ويختص بالتكنولوجيا المتوافقة للبناء … أو هل بتكوين جماعة حسن فتحي المعمارية تقوم بجمع أعماله وتوثيقها ونشرها . 

هذه دعوة عاجلة لكل المثـقفين والموسرين العرب أن يبادروا بتخليد ذكرى حسن فتحي قبل أن يبادر غيرهم بذلك.

word
pdf