ماذا بعد كوبري أكتوبر…بل ماذا عن مستقبل العمران في مصر

ماذا بعد كوبري أكتوبر…بل ماذا عن مستقبل العمران في مصر2019-11-25T15:03:38+00:00

ماذا بعد كوبري أكتوبر…بل ماذا عن مستقبل العمران في مصر

 

 دكتور عبد الباقي ابراهيم

 كبير خبراء الأمم المتحدة في التخطيط العمراني سابقاً

 

تساءل الأستاذ جلال دويدار في مقاله في جريدة الأخبار يوم 11/8/1999 عن ماذا بعد كوبري أكتوبر وقد أشار إلى أن الامتداد الجديد في الكوبري سوف يخفف من وطأة التكدس المروري في القاهرة والجيزة كما أشاد بهذا الإنجاز العظيم الذي يجيىء في إطار العمل على حل مشاكل المرور في العاصمة .. وهو نفس الانطباع الذي كان لدى العامة عند بدء إنشاء كوبري أكتوبر نفسه وأنه سوف يحل مشاكل المرور في حينه . وتوالى إنشاء الكباري العلوية في أنحاء المدينة .. وتوالت الإشادة بالإنجازات المتتالية كما توالت نفس التساؤلات .. وماذا بعد ؟  والموضوع يدخل في حلقة مفرغة لا تنتهي فالزيادة المستمرة في السكان تصحبها زيادة مستمرة في أعداد السيارات والزيادة المستمرة في الأنشطة التجارية والإدارية والخدمية تصحبها زيادة مستمرة في أعداد المركبات وبالتالي في وسائل النقل العام والخاص وتستمر حلقات التزايد دون توقف .. ويقدر المسئولون أن حجم القاهرة عام 2017 سوف يصل إلى ما يقرب من 17 مليون نسمة إذا لم تتحقق معجزة.

ولماذا التساؤل عن المشكلة في القاهرة فقط .. فالمدن الأخرى خاصة ما يقع منها في قلب المناطق الزراعية تعاني نفس المشكلة بل وأكثر بل تتصاعد ولا تتوقف مما يضطر الدولة إلى توسعة الطرق الزراعية على حساب الرقعة الزراعية وبالتالي تتزايد عوامل الجذب للأنشطة التجارية والإدارية والخدمية فتتزايد الرقعة العمرانية لتلتهم مزيداً من الأرض الزراعية وهكذا..

ويستمر التساؤل وماذا بعد عن مستقبل العمران في مصر .. وتأتي الإجابة في خريطة التنمية والتعمير التي أعدتها الدولة لمستقبل مصر العمراني لعام 2020 ويتكرر التساؤل ولماذا تحديد هذه المدة مع أن حركة التنمية والتعمير مستمرة  لا يمكن التحكم فيها على فترات محددة من الزمن .. إلا لتقدير الاستثمارات الخاصة بالخطط الخمسية لمتطلبات حسابية ، صحيح أن الدولة تسعى  إلى نشر العمران على 25% من أرض مصر خارج الوادي الذي يمثل 5% فقط من الأرض ، وصحيح أن هناك مشروعات قومية عملاقة يتم تنفيذها في توشكى وشرق العوينات وشمال خليج السويس وسيناء بهدف جذب السكان الى خارج الوادي وتوفير فرص العمل لشباب المستقبل وهي في نفس الوقت تبني مساكن للشباب ليستقر في مشارف المدن القديمة كما تتوسع في بناء الكليات والمعاهد وتحشرها في الجامعات القديمة التي تتضخم أعدادها حتى كادت تفقد مقوماتها الجامعية ، ولا داعي هنا لنذكر ما يخص مدينة مثل القاهرة من نسب كبيرة من الخدمات التعليمية والصحية والإدارية والترفيهية والإنتاجية عن غيرها من المدن.. وسوف يستمر هذا الجذب السكاني للقاهرة سواء بالاستقرار فيها أو بالنزوح إليها يومياً للعمل بجميع أنواعه الرسمية والهامشية . صحيح أنه قد وضع للقاهرة العديد من المخططات العمرانية ولا يزال يقول آخر مخطط لها أنه في عام 2020 سوف تكون مدينة العاشر من رمضان هى الضاحية الشمالية للمدينة العملاقة وتقول إحصائيات أخرى أن مدن الدلتا وهى تنمو وتبتلع القرى حولها سوف تستمر في حركتها العمرانية حتى تغطي كامل الأرض الزراعية عام 2035… إذن الموضوع أخطر من التساؤل عن ماذا بعد كوبري أكتوبر.. هذه الجزئيه المتناهية الصغر في المنظومة الكبيرة لعمران مصر .. وإذا كانت الدولة تقدر بأسلوبها الإحصائي أن الأربعة وأربعين مدينة جديدة المزمع إنشاؤها في المناطق الجديدة سوف تستوعب 20 مليون نسمة عام 2020 حيث سوف يبلغ سكان مصر في ذلك الوقت ما بين 90 و 100 مليون نسمة أي أنه سوف يبقى الوادي القديم 70  أو  80 مليون نسمة على أحسن تقدير ، ولكن إذا راجعنا معدل نمو المدن الجديدة على مدى العشرين سنه السابقة وأنها تقل كثيراً عما كان مخططاً لها فإن ما يتوقع أن يبقى في الوادي الضيق هو حوالي 80 إلى  90 مليون نسمة وهذه صورة شديدة الخطورة على مستقبل العمران في مصر . صحيح أن الدولة تعمل جاهدة وبكل الوسائل والطرق على تنمية الاقتصاد المصري وأن ما ينشر في الصحف عن ذلك يفوق كل ما ينشر على أي نشاط آخر باعتبار أن التنمية الاقتصادية والخروج بها من الوادي هي مفتاح المستقبل ولكن يخشى أن تستمر الحركة السكانية في مصر على حالها فيسافر البعض للعمل في المناطق الجديدة تاركين عائلاتهم في المدن القديمة حيث الإيجار المخفض للمساكن وتوفر جميع الخدمات فليس هناك ما يدعو إلى الهجرة والاستيطان خارج الوادي الضيق تماماً كما يسافر البعض للعمل في دول الخليج أو غيرها . وهكذا تستقر العائلات وتتكاثر في المدن القديمة كما يتزايد العمران في المدن على حساب العمران في الريف الذي تحولت معظم قراه إلى مدن تحتاج إلى نصيبها من المرافق والخدمات العامة فتتفاقم بالتالي المشاكل العمرانية ، ويتحدثون عن البعد المكاني للخطط الخمسية وتوزع الاستثمارات فيها على سكان الأقاليم حيث يقيمون ويتكاثرون .. فالمشكلة برمتها تكمن في البحث عن تغلب عوامل الجذب والاستقرار في المناطق الجديدة عن ما في المناطق القديمة هذه هي الإستراتيجية القومية للاستيطان البشري خارج الوادي ويبقى أن تقاس أهمية المشروعات على قدر ما تحققه من أهداف هذه الإستراتيجية لقيام مصنع إلكترونيات في مدينة بنها مثلاً وإن كان يحقق أقصى عائد منه فإنه في نفس الوقت لا يحقق أهداف الإستراتيجية القومية للاستيطان خارج الوادي وإن لم يحقق نفس العائد الذي يحققه في بنها ولكنه على المستوى القومي سوف يكلف كثيراً من الإنفاق الناتج عن التزاحم السكاني والمتمثل في الإنفاق على الصحة والأمن والمرافق والخدمات العامة ، وبناء جامعة في مدينة الزقازيق مثلاً وإن كانت سوف تقدم خدماتها مباشرة للسكان حولها إلا أنها تستقطع أرضاً زراعية في امتداداتها وتستقطب في نفس الوقت العديد من الأنشطة التي تحمل مزيداً من السكان ليقيموا ويعملوا في نفس المدينة وبالتالي تتفاقم المشاكل العمرانية عما اذا كان اختيار موقع الجامعة على صحراء بلبيس حيث تستطيع أن تمتد وتجتذب اليها ما تجذبه من أنشطة تساعد على جذب السكان بعيداً عن الأرض الزراعية وفي هذه الأمثلة ما يقام من مختلف المشروعات في الوادي  الضيق ففي إطار الإستراتيجية القومية للإستيطان البشري خارج الوادي الضيق تتحدد سياسات الإستيطان التي تجمع سياسات مواقع العمل والإسكان في منظومة متكاملة تمتد على الأراضي الصحراوية بعيداً عن الوادي الضيق الأمر الذي يتطلب إعادة النظر في أسلوب التنمية العمرانية للمدن القديمة بحيث تصبح في الإستراتيجية القومية للإستيطان البشري خارج الوادي مناطق طرد أكثر منها مناطق جذب وهذا يستدعي الترابط العضوي والإجتماعي بين سكان المناطق القديمة والرواد من السكان في المناطق الجديدة كما يستدعي توفير وسائل النقل والإتصال التي تحقق هذه الغاية بالإضافة ما يستجد من تطوير لقانون التخطيط العمراني وتنظيم المباني وغيرها من اللوائح والقوانين التي تتعامل مع حركة التعمير والعمل والإستيطان . وهنا تقاس الجدوى الإقتصادية للمشروعات بقدر ما تحققه من معدلات للإستيطان على المدى الطويل خارج الوادي وليس بقدر ما تحققه من عوائد مالية على المدى القصير داخل الوادي . وهنا تفتح مجالات عده في توجيه أسلوب التنمية الإقتصادية الإجتماعية الذي يحقق استراتيجية الإنتشار خارج الوادي .

ويعتبر نظام الإدارة المحلية الذي يطبق في التقسيمات الإدارية الحالية من أكبر المعوقات أمام تحقيق أهداف الإستراتيجية القومية للإستيطان خارج الوادي حيث تعمل كل محافظة بنوابها على جذب أكثر الإستثمارات اللازمة لمشروعاتها الخدمية والإدارية والإنتاجية دون اعتبار للإستيطان خارج الوادي. محافظة المنوفية على سبيل المثال تستأثر بالمؤسسات الجامعية والتعليمية والصحية والإنتاجية والخدمية بينما مدينة السادات التي تقع في إطارها الإقليمي تعاني من نقص كبير في الإستيطان البشري أقل كثيراً مما كان مخططاً له الأمر الذي يستدعي إعادة النظر بجدية في تطوير نظام الإدارة المحلية ليس من ناحية العلاقات بين المجالس المحلية والمجالس التنفيذية وليس من ناحية العلاقات الإستثمارية واتخاذ القرار على المستوى المحلي أو المركزي وغير ذلك من المسائل ولكن بهدف تحقيق الإستراتيجية القومية للإستيطان خارج الوادي حيث يتطلب الأمر ممارسة الإدارة المحلية أو الحكم المحلي في إطار الأقاليم التخطيطية الإدارية حتى لا يبقى النظام الحالي عائقاً مانعاً لتحقيق أهداف الإستيطان خارج الوادي وبالتالي يعاد النظر في النظام الداخلي للإدارة في هذه الأقاليم  التخطيطية الإدارية وإلا استمر التكدس السكاني في الوادي الضيق وتتفاقم بالتالي المشاكل العمرانية في المدن القديمة مرورياً وإسكانياً وصحياً وأمنياً وخدمياً …

وبالتالي يستمر التساؤل .. ماذا بعد كوبري  أكتوبر.. ماذا بعده وقد شوهت الكباري العلوية الوجه العمراني للمدينة العريقة كما شوهتها في عواصم أخرى وكأن السيارة هي سيدة الموقف وكل المواقف التخطيطية. وقد أصبحت القاهرة لا تتحمل مزيداً من التشويه بما يقام فيها من عمائر متنافرة الألوان والأشكال قضت بالتالي على القيم الفنية والمقاييس الإنسانية وقد فشلت كل محاولات إعادة التوازن المعماري للمدينة المصرية التي أصيب عمرانها بمرض الجدري الذي شوه وجهها الحضاري بنتوءات تكييف الهواء المعلقة والتي كادت أن تقضي على كل ما هو جميل مضيفة بذلك قبحاً على القبح الذي نشرته اللافتات والإعلانات التي ضاعت في ثناياها القيم  الحضارية كما ضاعت عليها اللغة العربية التي استبدلت بأسماء أجنبية موضعها المعلومة المزعومة التي كادت تقضي على الشخصية الحضارية للمدينة المصرية .. ويستمر التساؤل ماذا بعد ذلك والى أي مجهول نحن متجهون …

فالموضوع ليس في التساؤل عن ما بعد كوبري 6 أكتوبر ولكن الموضوع هو في التساؤل عن مستقبل العمران المصري بكل أبعاده الاقتصادية والاجتماعية والثقافية .. ويستمر التساؤل سنه بعد أخرى بلا إجابة أو استجابة عندما تقدم أهل الثقة عن أهل الخبرة .

word
pdf