محاولات الوصول إلى الجذور

محاولات الوصول إلى الجذور2019-12-08T12:47:21+00:00

محاولات الوصول الى الجذور ‍‍!

الأخبار 12/1/1990 

فى الستينيات، فى فترة المد القومى الكبير والدعوة الى إعادة اكتشاف الذات بالاتكاء على التراث العربى و الاسلامى وبالتحديد فى عام 1963 قام المعمارى الدكتور عبد الباقى محمد ابراهيم بأولى تجاربه فى محاولات الوصول الى الجذور فى فن العمارة العربى الاسلامى. 
فى البداية لم يجد من يتحمس كثيرا لدعوته – فلم تكن المدن العربية قد وصلت الى ما هى عليه من القبح الان – فقام بشراء قطعة أرض فى “مدينة نصر” وأقام عليها منزلا له على الطراز الاسلامى وبنفس مواد البناء العادية وبتكاليف بسيطة أيضا، ومن يومها لا يزال د. عبد الباقى مخلصا لدعوته، فأشرف على تنفيذ العديد من المشروعات المعمارية بمصر والدول العربية. كما أن له مؤلفاته النظرية فى هذا المجال، وقد كرمته منظمة المدن والعواصم العربية فى العام الماضى بمنحه جائزة المهندس المعمارى العربى. التقيت بالدكتور عبد الباقى فكان هذا الحوار : 
فى البداية قلنا: تتعدد الأصوات المطالبة بإحياء التراث الاسلامى فى البناء كجزء من الدعوة لاحياء التراث بشكل عام، ولكن الكثير من الكتابات والقليل من البناءات التى تعتمد هذه الدعوة لا تفصح لنا عن مضمون واضح لتظل النتيجة مجموعة من النوايا الطيبة وقليلا من البنايات الجميلة المتنائرة وسط غابات العمارات فى المدن العربية … فما السبب؟ 
قال ستظل هذه الدعوة عاجزة وستظل آثارها محدودة مادمنا نخلط بين أحياء التراث كغاية وبين تأصيل القيم فى العمران المعاصر، وهذه القيم ليست جمالية فقط ولكنها قيم اجتماعية وفنية واقتصادية. 
باختصار: المطلوب ابراز الذاتية العربية فى العمران المعاصر وليس بعث القديم بحذافيره – فقط – المطلوب بعث قيم الحضارة الاسلامية فى العمارة المعاصرة. 
قلنا: وماذا تعنى بإعادة قيم الحضارة الاسلامية؟ 
قال: بمعنى اللجوء الى تعاليم الاسلام فى القرآن الكريم والسنة المطهرة، ليس هناك نصوص تحدد الملامح المعمارية الاسلامية ولكن هناك نصوص واضحة تحدد بناء الانسان المسلم، فـى “الوسطية ” كقيمة فى ديننا تجعلنا “نتوسط” فى المأكل، نتوسط فى الانفاق، وهذه “الوسطية” يجب أن تنعكس أيضا على العمارة … لا اسراف ولا تبذير ولا زخرفات مبهرة – كما يظن البعض – ولا تقصير فى الجانب الجمالى بانتاج أشكال تخلو من اللمسة الجمالية. 
أيضا يقول الاسلام: بأن الناس سواسية كأسنان المشط، هذه المساواة الاجتماعية لابد أن تظهر فى النمط المعمارى الخارجى. أما فى داخل كل بيت، فهناك الذاتية الفردية يستطيع كل فرد أن ينفق على بيته بقدر ما اوتى من نعمة.

المضمون : وليس الشكل 
ويقول د. عبد الباقى: بقدر انعكاس القيم الاسلامية على العمارة بقدر ماتكون اسلامية، ولهذا فنحن نختلف مع علماء الآثار الذين يقيمونها من الناحية الشكلية فقط وليس من الناحية العقائدية، فنحن نرى مثلا أن زيادة الزخرفة فى المسجد عن الحد المقبول تفقده مضمونه كمكان للعبادة.

الطربوش : و العمارة 
 برأيك لماذا تخلى الناس عن العمارة العربية الاسلامية، ولماذا تحولت المدن العربية الى غابات من الأسمنت القبيح … هل هى زيادة تكلفة هذا الطراز؟ 
زيادة التكلفة مقولة غير صحيحة، فقد بدأت تجربتى مع المعمار الاسلامى بمنزلى الذى أقمته فى مدينة نصر عام 1963 حيث استخدمت نفس الخامات المستخدمة فى العمارة المجاورة ونفس العمال وبنفس التكلفة أو أقل. 
ولم أنقل نقلا مباشرا من العمارة القديمة وانما أخذت المبادىء والأساسيات ” بمعنى اذا كان هو يقوم باظهار مادته الأساسية وهى الحجر فقد أظهرت أنا الطوب”. 
الفراغ الداخلى يشابه الفراغ الداخلى فى المساكن القديمة … الاحساس بالخصوصية فى المسكن وأستيعابه للضيوف دون اقلاق أهل البيت. 
فالتكلفة اذن ليست سبب تخلينا عن العمارة الاسلامية ولكننا تخلينا عنها عندما تخلينا عن هويتنا الثقافية عموما، ليس فى العمارة فقط، نحن خلعنا الجلبات وارتدينا البدلة، الأتراك جعلونا نرتدى الطربوش، والفرنسيون جعلونا نرتدى البدل، والانجليز البسونا رابطة العنق، هذه الغزوات الثقافية غيرت كل شىء.

أين المحتسب ؟ 
لا اعتقد أن المشكلة تكمن فقط فى نقل الطراز الأوروبى ولكن هناك أيضا مبانى “اللاطراز” التى لا تتبع أيا من الطرز المعمارية بحيث أصبحت المدن العربية ” كوكتيل ” منفردا من البنايات الغربية. 
كيف نحد من هذه الظاهرة؟ 
لأن “ادارة المدينة” التى تخطط للتوسع العمرانى وتراقبه – غائبه ستظل هذه الظاهرة … زمان كان “المحتسب” يراقب عمل المخالفات بالشارع بما فيه من حياة وعمران، ولكن الآن لا يوجد هذا المحتسب ولا حل الا بزيادة قبضة الادارة على كل شىء … الأسعار، النظافة والتخطيط … الخ. 
كما لابد من صحوة ثقافية ودعوة قومية لتأصيل قيمنا الحضارية وتحقيق احترامنا لأنفسنا واحترام العالم لنا.

زيادة الطوابق : زيادة للجرائم 
أحيانا تبدو العمارات الشاهقة فى مدن وعواصم عربية لا تعانى كثافة سكانية شيئا مضحكا وخاصة عندما تستعرضها كاميرات التليفزيون كدليل على نهضة الدولة؟ 
هذا من حملة ما ورثناه من الحضارة الغربية، هم لديهم مبرراتهم فى التوسع الرأسى بسبب ارفتاع ثمن الأرض فى الاحياء التجارية، وحتى هذا النمط أثبت فشله وقد أثبتت دراسة اجتماعية فى انجلترا أن الجرائم تزداد بين سكان العمارات التى يزيد ارتفاعها على خمسة أو ستة أدوار، ونحن ليس لدينا – فى الغالب – ما يبرر البناء المرتفع. 
كما أن الاسلام يحضنا على الانتشار فى الأرض وتعميرها، ولو إنتشرنا افقيا لكان أفضل من حيث الصحة الاجتماعية والنفسية ولقلت التكلفة، لأن البناء لأدوار محدودة يقلل تكلفة الأساسات. ولكن للأسف لا يزال العدد الكبير من خبراء تخطيط المدن عندنا يعملون فى اطار الفكر الغربى.

عالمية القيم و محلية التفاصيل 
قلت : هل يمكن لنظرية معمارية حديثة أن تنظم العواصم والمدن العربية والاسلامية؟ 
*قال: ممكن من خلال الاهتمام بالقيم الاسلامية والتراث وتوصيلها الى صغار المعماريين والدارسين، عندما أعطية النظرية والواقع الذى أنشأه الرواد، ومع ملاحظة الخصوصية المحلية لكل مدينة حسب بيئتها، ففى السعودية مثلا نجد جدة حيث الرطوبة التى تتطلب نوعا خاصا من المشربيات، بينما الرياض مدينة صحراوية وجافة تتطلب الأنغلاق للداخل والشبابيك على الداخل فى الأفنية وليس على الخارج، القاهرة مختلفة، دمشق مختلفة، اذن هناك عمومية وعالمية القيم ومحلية التفاصيل.

word
pdf