محاولة للكشف عن الفلسفة التى تختفى وراء عمارتنا الحديثة

محاولة للكشف عن الفلسفة التى تختفى وراء عمارتنا الحديثة2019-12-12T08:25:34+00:00

محاولة للكشف عن الفلسفة التى تختفى وراء عمارتنا الحديثة

الأهرام 1/8/1963

بقلم الدكتور عبد الباقى إبراهيم

فى هذا المقال يرتاد الدكتور عبد الباقى إبراهيم مدرس التخطيط بكلية الهندسة بجامعة عين شمس مجالاً جديداً لربط الفلسفة الإشتراكية بفن العمارة فى مدننا وقرانا وذلك من خلال التطورات السريعة التى تحدث لمجتمعنا.

 فى الوقت الذى تعمل فيه الدولة جاهدة على إحياء تراثنا الحضارى حتى تتبلور الشخصية القومية للشعب ، تخطو الجهات المعنية فى هذا السبيل خطوات واسعة موفقة فى مجالات الفنون المختلفة ، ولم يتخلف عن هذا الركب سوى العمارة المصرية الحديثة لا كعلم فقط ولكن كفن تنعكس عليه صورة المجتمع الإشتراكى الذى تحددت مقوماته وتبلورت معالمه ، وفى الوقت الذى تسير فيه حركة التعمير والبناء فى الدولة بسرعة فائقة لترسم ملامح الصورة الطبيعية للدولة فى مدنها وقراها نجد هذه الملامح وقد فقدت قدرتها فى أن تعبر عن مجتمعنا الجديد أو أن تنبع من تراثنا الحضارى العميق ، وهكذا تكاد تفقد العمارة المصرية الحديثة شخصيتها وسط هذا الخضم من الفلسفات المعمارية المعاصرة ، الأمر الذى لا تستطيع معه أن تعبر عن الذوق المعمارى العام للمجتمع المتجه نحو الإشتراكية .

 لقد دأبت العمارة المصرية الحديثة على أن تحصل على مقوماتها من العمارة الأجنبية وتستمد أصولها مما تجود عليها به المؤلفات الغربية دون ماتعمق أو تبصر بما قد يجود به تراثنا القومى من ذخيرة فنية وافرة ، ذلك فى الوقت الذى تركنا فيه رواد العمارة المعاصرة ينهلون من حضارتنا وفلسفاتنا وتراثنا القومى ويقدمون لنا أروع الأمثلة لإمكانياتنا المعمارية التى تستمد جذورها من تراثنا العربى ومن ملامح مجتمعنا الجديد بالإضافة إلى المؤثرات المناخية المحلية فتخرج عمارة كعمارة المدينة الجامعية ببغداد والتى خططها جروبيوس وصممها مع مجموعة من معاونيه وعمارة كعمارة مبنى السفارة الأمريكية فى بغداد للمهندس جوزيه سيرت ، ولا عجب بعد ذلك فى أن نجد كبار المعماريين الذين زاروا القاهرة وعلى رأسهم المهندس الراحل فرانك لويد رايت وقد أبدوا أسفهم العميق لإهمالنا لتراثنا المعمارى القديم .

العمارة المعاصرة
وطالما تردد المفهوم السطحى لإستنباط الملامح المعمارية المستمدة من التراث الحضارى على أنه طراز قومى له صفاته وقواعده ولكن العمارة المعاصرة لم تعد تعتمد على قواعد تحدد كيانها أو تقيد حريتها فهى وإن إستمدت ملامحها من التراث القومى لا تفقد حريتها وتجاوبها مع أحدث الطرق الإنشائية ومع آخر ما يتوصل إليه العلم من المواد الحديثة للبناء .

  والدولة وهى تسيطر على عملية البناء فى البلاد ، تستطيع بأجهزتها الفنية أن توجه العمارة المصرية الحديثة فى الطريق الذى تستند فيه على تراثنا الفنى فى روحه وفلسفته وليس فى الشكليات السطحية ، والمجال يتسع لهذا السبيل فى المشروعات المعمارية المتكاملة سواء أكان ذلك فى مناطق الإسكان كما هو بالنسبة لمثل مدينة الفاطمين المزمع بناؤها والتى بنيت عمارتها على أساس التبسيط السطحى للطرز العربية ، أو فى المبانى العامة التى تقوم بها الدولة كما هو الحال بالنسبة لمشروع مثل مدينة الأزهر الجامعية أو غيرها من المشروعات التى يخشى من أن تجمع أطرافها من تصميمات معمارية متباينة أو ألا يخضع تخطيطها أو تصميمها إلى مجموعات متضافرة من المصممين ، ومسئولية الجامعات هنا لا تقل عن دور الأجهزة الفنية فى الدولة فى هذا المجال ، فالتعليم المعمارى لا يزال متخلفاً عن غيره من الفنون ، كما انه يعتمد إلى حد كبير على ماتقدمه المراجع الأجنبية دون إعتبار للظروف المحلية ، ذلك فى الوقت الذى يعانى فيه الإنتاج الفنى نقصاً كبيراً فى مجال التأليف أو الأبحاث المعمارية التى تستمد أصولها من التراث القومى .

  إن العمارة المصرية الحديثة لا تزال تعتمد إلى حد كبير على الإنفعالات الشخصية والأساسات الفردية ، الأمر الذى لا تستطيع معه أن تلحق بالركب الإشتراكى فى الدولة أو أن ترسم البيئة الطبيعية التى ينمو فيها المجتمع الإشتراكى ، وإذا كانت ملامح الإشتراكية فى العمارة قد ظهرت فى كثير من المناطق الجديدة للإسكان الإقتصادى أو المتوسط إلا أنها قد إختفت من مناطق الإسكان الخاص ، وإن كانت الملامح المعمارية فى كلتا الحالتين لا تزال بعيدة عن أعماق تراثنا الفنى شأنها فى ذلك شأن المبانى العامة التى تنمو فى مدننا وقرانا وتكاد تفقدها طابعها التخطيطى .

الملكية الفردية والعمارة
والطابع التخطيطى للمدينة المصرية مثله مثل الطابع المعمارى للعمارة المصرية المعاصرة تتبلور شخصية الشعب فى ثقافته وفنه وفى طريقة حياته فى المجتمع الإشتراكى الذى تندمج فيه قطاعات الشعب المختلفة ، وإذا ماتفاعلت هذه العوامل مع العوامل الطبيعية والمناخية ، أصبح للمدينة طابعها التخطيطى المميز ، ولما كان التقدم العلمى يجر خلفه تغييراً فى الحياة الإجتماعية التى تنعكس على التخطيط الطبيعى للمدينة فإن إستقرار الطابع يعتمد على الآثار التى تمليها الظروف الطبيعية والمناخية أو المقومات التى تستمد من التراث القومى ، فالطابع التخطيطى للمدينة المصرية فى تاريخها المعاصر قد تأثر بالعوامل الاقتصادية فى صور الملكية الخاصة وفى نظام تقسيم الاراضى للبناء كما تأثر بالشخصية المعمارية الفردية ، وبالإمكانيات المادية لعمليات البناء الفردى  الأمر الذى خلق هذه الصورة المشوهة للمدينة المصرية لا سيما فى مناطق الإمتداد الحديثة التى إختفت منها الأسس السليمة للتخطيط أو الإسكان ، أصبحت الأرض الزراعية التى كانت مصدراً هاماً من مصادر غذاء المدن مسرحاً للإرتجال فى التخطيط .

الكرنفـال
أما الأحياء القديمة فقد إرتفعت فيها المبانى الحديثة ضاربة عرض الحائط جميع القيم الإنسانية لتراثنا القومى  فأختفت البواكى المظلة للمشاه والفاصلة بينهم وبين حركة المرور السريع وخرجت الأبراج والشرفات مكونة نماذج مختلفة من التشكيلات والألوان والإنفعالات المتابينة ، وفى وسط هذا الكرنفال تلاشت أهمية المسجد كمركز للنشاط الثقافى والإجتماعى فى المدينة المصرية وإقتصر على إعتباره مكاناً للعبادة فقط ، بعد أن حجبه عن الأنظار كثير من المبانى التى آن لها أن تزال لتسترد المساجد مكانتها ولتكون مع الأسواق المجاورة حول الساحات الكبيرة مراكز إدارية وثقافية وإجتماعية تخدم الأحياء المختلفة من المدينة . وإذا كانت البلاد قد تعرضت على مر السنين لكثير من الفتوحات والحضارات بسبب موقعها بين القارات الثلاث ، وإذا كانت شخصية الشعب العربى فى مصر قد تأثرت كثيراً بهذه الفتوحات وهذه الحضارات التى تركت آثاراً عميقة فى المجتمع المصرى وخلقت هذا التباين الظاهر بين طبقاته المختلفة ، إلا أن الأمة وقد رسمت لنفسها طريق المستقبل وأخذت فى بناء شخصيتها الإشتراكية فى المجالات الإقتصادية والثقافية والإجتماعية ، فلا شك فى أن ذلك سوف ينعكس على الكيان الإجتماعى للمدينة ومن ثم على كيانها الطبيعى وطابعها التخطيطى ، والطابع فى مفهومه هنا ليس فى تقليد الماضى أو نقلاً صريحاً لعمارته وتخطيطه أو تبسيطاً لعناصره، ولكنه إحياء لوحيه وفلسفته إما عن طريق الإختزال الفنى لخصائصه المعمارية أو عن طريق تطبيق مبادئه العامة فى التصميم والتخطيط بما يتناسب مع الحاضر والمستقبل .

وإذا كان التعليم المعمارى فى مصر لا يزال متخلفاً عن غيره من الفنون لحداثة عهدنا به فإن تخطيط المدن كعلم لا يزال يمثل إحدى المواد الثانوية فى التعليم المعمارى بالرغم من مرحلة التطور السريع التى تمر بها البلاد وتنمو فيها عشرات المدن وآلاف القرى التى تحتاج إلى جيش كبير من المخططين ليعاونوها على تحديد مستقبلها على هدى السياسة العامة للدولة .

word
pdf