مدينة التراث والمستقبل الثقافي

مدينة التراث والمستقبل الثقافي2019-11-20T13:31:38+00:00

مدينة التراث والمستقبل الثقافي

الدكتور/ عبد الباقي إبراهيم

رئيس مركز الدراسات التخطيطية والمعمارية

 

طالعتنا الصفحة الأخيرة لأهرام الجمعة 20 يناير1989 بنبأ الاتفاق بين وزير الثقافة الفنان فاروق حسنى ووزير التعمير والإسكان المهندس حسب الله الكفراوي على إنشاء مدينة يطلق عليها اسم مدينة التراث وذلك في منطقة مناسبة من الحزام السكني الجديد الذي يقام حول القاهرة ويضم عشرة تجمعات سكنية جديدة.. ويقول الخبر بأن المدينة الجديدة ليست مدينة سكنية ولكنها سوف تكون مدينة ثقافية فنية سياحية تضم متاحف نوعية للآثار الفرعونية والقبطية والاسلامية بالاضافة إلى متحف لفنون الخزف والسجاد والحرف البيئية القديمة, كما تضم متحفا للمجوهرات المرتبطة بالتراث وآخر للوثائق القومية وبالاضافة إلى ذلك ستقام في المدينة الجديدة دار للسينما وأخرى للمسرح بالاضافة إلى الملاهي والمطاعم والخدمات الترفيهية. ويصف الخبر الملامح المعمارية للمدينة الجديدة بأنها سوف تحمل طابعا خاصا فيقام فيها عدد من التماثيل الأثرية الكبيرة والتماثيل الفنية المعاصرة ليكتمل أول قرار ثقافي سياحي فني في العاصمة. هكذا وبهذا الخيال الواسع تنشأ مدينة التراث خارج القاهرة كما نشأت مدينة العلوم والفنون خارج باريس. وهكذا يستمر المد الحضاري من فرنسا ليضع الملامح التخطيطية لقاهرة المستقبل كما يضع الملامح المعمارية لمدينة التراث.. هذا في الوقت الذي اتخذت فيه منظمة اليونسكو قرارا باعتبار القاهرة القديمة تراثا عالميا كمتحف مفتوح يضم المساجد والمنازل والكنائس كما قام فيه البنك الدولي بإجراء دراسات مستفيضة عن إمكانية تحويل القاهرة القديمة التي تتدهور آثارها من الزمن إلى مدينة للتراث.. ليس فقط بما فيها من معالم تاريخية ومقومات سياحية ولكن بما فيها من تراث إنساني يتمثل في المجتمع المصري الذي يقيم فيها. ومع ذلك واجهت الدولة الكثير من التحديات الادارية والفنية لتحقيق هذه الغاية الحضارية فلجأت إلى خارج المدينة القديمة التي تنعي من بناها لتقترح إقامة مدينة جديدة للتراث بعيدا عن التراث نفسه. وقد سبق أن بدأت الخطوات التنفيذية في بناء متحف الحضارة بجوار دار الأوبرا بالجزيرة وقدمت التصميمات المعمارية منذ أكثر من ثلاث سنوات.. ولم يبدأ العمل في هذا المشروع التراثي الكبير.. وسبق أن وضع المهندس حسن فتحي منذ سنوات طويلة تصميماته لمتحف الفنون الشعبية في أرض مدينة الفنون بالهرم.. ولم يبدأ العمل فيه.. كما أعلنت وزارة التعمير عن مسابقة لإنشاء حدائق متحفية في المدن الجديدة الأولى للتراث الفرعوني. والأخرى للتراث القبطي والإسلامي, وانتهى الموضوع بتوزيع الجوائز على الفائزين وإذا كان الموضوع هو موضوع أفكار فما أكثرها وإذا كان لكل وزير رؤيا خاصة فما أخصبها.. ولكن أن تتحمل أجهزة الدولة هذا الكم من المشروعات وهذا العدد من الدراسات والاقتراحات فهذا مالا تقدر عليه الدولة ماليا أو تنظيميا.

إن بناء مدينة التراث كمنطقة للأنشطة الثقافية والسياحية بعيدا عن غيرها من الأنشطة السكانية مثل الصناعات الحرفية أو المعاهد الفنية أو المعارض التجارية أو المنشآت الفندقية مع ربطها بالمناطق السكنية يحول مدينة التراث إلى مدينة للأشباح تفقد حياتها ليلا, وما فائدة التكامل في التنمية العمرانية إن لم يتم بين مختلف الأنشطة الثقافية والترفيهية والتعليمية والصحية والأمنية والادارية والتجارية مع الاسكان في إطار واحد. لقد طلبت إحدى الجامعات مساحات لامتداداتها حول التجمع السكني رقم (1) وكذلك طلب أحد النوادي الرياضية مساحات لأنشطته حول نفس التجمع, كما طلبت غيرها من الجهات مساحات أخرى ثقافية وترفيهية وصناعية وسياحية وجميعها لابد وأن يخضع إلى المقاييس والمعايير والأسس التخطيطية. إن المدينة المصرية لا تعاني من قصور في التخطيط العمراني ولكنها تعاني من سوء إدارة وتنظيم عملية التنمية العمرانية والتي تتم تبعا للأهواء والاجتهادات والتصورات الخاصة أو للخيال الخصب وإذا كان وزير الثقافة حريص على إنشاء مدينة للتراث بالرغم مما يترتب على ذلك من أعباء مالية قد تجرنا إلى الاستعانة باليونسكو حتى نزيد من ديون مصر.. فما باله لا يطلب من وزير التعمير أن تبنى التجمعات الجديدة حول القاهرة بالطابع المعماري الذي يعكس التراث الثقافي لمصر.. وتصبح الدعوة أوفق إذا دعى إلى بناء مدن تلتزم بالقيم التراثية في حدود اقتصاديات البناء المتاحة وهي أهم من الدعوة إلى بناء مدينة للتراث نفسه وهو موجود حاليا في أماكن متعددة تحتاج إلى رعاية وعناية.. وما فائدة الحفاظ على التراث إذن إذا لم نشاهده ينعكس على ما نقيم من منشآت ونبني من إسكان.

وإذا كنا نتطلع إلى المد الحضاري الذي يردنا مع الاستشاريين المقيمين في لندن أو باريس فالأجدر بنا أن نتطلع إلى المد الحضاري النابع من تراب مصر. وبدلا من بناء للتراث نبني مدينة من التراب حتى نثبت للعالم أننا بحق امتداد لحضارة عمقها التاريخي آلاف السنين.

word
pdf