مستقبل القاهرة بين علاقة المالك والمستأجر

مستقبل القاهرة بين علاقة المالك والمستأجر2019-12-03T14:53:01+00:00

مستقبل القاهرة بين علاقة المالك والمستأجر 

(الجدوى الاستيطانية)

 د / عبد الباقي إبراهيم

كبير خبراء الأمم المتحدة للتخطيط العمراني سابقا 

 

الأهرام الاقتصادى
 29/6/1992 

يعتبر قانون الاسكان الحالى خاصة فيما يرتبط بالعلاقة بين المالك والمستأجر هو العقبة الكبرى أمام مستقبل القاهرة بل ومستقبل كل المدن والقرى فى مصر … فالغالبية العظمى من سكان هذه المدن المكتظة يتمتعون بملكية الوحدات السكنية التى يقيمون فيها سواء كانوا مستأجرين هم فى حكم الملاك أو ملاكا حقيقيين فالملاك المستأجرون يدفعون ايجارا لوحداتهم السكنية قروشا معدودات لا تمثل عندهم عبئا من الاعباء… فكيف لهم أن يتركوا هذا الميراث الذى تـقننه القوانين الوضعية دون اعتبار لأى قيم شرعية أو إنسانية : هذا هو المصدر الرئيسى للتكدس السكانى حيث يؤجر المستأجرون غرفا مستقلة فى وحداتهم السكنية لعائلات أخرى. بل يستمر نمو الأسرة وتزداد أعداد أفرادها ، وهم لا يجدون أرخص من هذه الوحدات السكنية التى يحتلونها فتزداد بالتبعية معدلات التزاحم الى الدرجة التى تختل معها القيم الصحية والاجتماعية وتتولد عنها ظواهر العنف والجريمة بكل أنواعها … وتنحدر المستويات الثـقافية والتعليمية لافراد الأسر المتزاحمة فى الوحدات السكنية الرخيصة والتى لم تتغير قيمتها الايجارية على مدى ثلاثين عاما منذ صدور القوانين المحددة للايجارات … هذا فى الوقت الذى تضاعفت فيه وتتكاثر فيها حيث الخدمات والاستثمارات ورؤوس الأموال وقطاعات الأعمال التى تتمتع جميعها بالخدمات التى توفرها لهم الدولة فى صورة طرق ممهدة وكبارى علوية وخدمات تليفونية ومصادر كهربائية وأسواق تجارية ومواقف للسيارات متعددة الأدوار ومواقف للسيارات الخاصة تمثل نصف مساحة الشوارع المخصصة لوسائل النقل. هكذا دون مقابل فالشارع الذى تمتلكه الدولة يخصص نصفه لمبيت السيارات الخاصة موفرة بذلك قيمة الايجارات التى كانت تدفع فى الجراجات الخاصة ، فمالك العمارة يتمتع بتحويل الجراج الى متاجر أو مطاعم والمستأجر يتمتع بالشارع كمكان لسيارته والجميع فى غاية السعادة. والدولة لا تستطيع أن تحرك ساكنا … وتستمر الحالة وتتفاقم المشاكل وتختنق المدن بشوارعها ومساكنها -… والصحراء من حولنا لا تجد من يعمرها… 

فالمقولة بأن الدولة يجب أن تعد المناطق الجديدة للاسكان وتمدها بالمرافق مقولة مغلوطة ولا تستطيع الدولة أن تتحملها ولن تستطيع وهى تنفق الملايين فى مد شبكات المترو تحت الارض وغيرها من الخدمات زيادة فى عناصر الجذب السكانى للمدن القائمة. فالمجتمع قادر على أن يغنى بنفسه ويوفر مرافقه بنفسه وهذا هو الدليل فى المناطق العشوائية التى كادت تخنق المدن والقرى وتبتلع الأراضى الزراعية حولها ، ويشارك فى هذه المأساة العمرانية الخانقة المجتمع بأفراده ومسئوليه ونوابه ، والا لما ظهرت على وجه الأرض بهذه الصورة السرطانية على مدى ثلاثين عاما دون اهتمام أو اكتراث بل بالعكس دأبت الدولة على تقنين أوضاع الاسكان العشوائى سنة بعد أخرى حتى أصبح قاعدة عامة وظاهرة مقننة لا اعتراض عليها … حتى وصلت الحالة الى حافة الهاوية ، الأمر الذى دعى القيادة السياسية الى تدارك هذه الكارثة المحققة… 

فى اطار هذه الصورة القائمة كيف يمكن للدولة أن تنمى المدن الجديدة وتفريغ المناطق المزدحمة من هذا الكابوس الجاثم على أنفاسها … كيف يمكن للدولة أن تصل الى نتيجة لانقاذ القاهرة وغيرها من المدن فى ظل قانون الاسكان الحالى وفى ظل العلاقة الحالية بين المالك والمستأجر أو بمعنى آخر بين المالك والمالك. والدولة لا تستطيع أن تغمض عينها عن هذه الحقيقة مهما كانت مريرة ومهما كانت صعبة على متخذ القرار فهى تمس السواد الاعظم من الشعب الذى استحل هذه العلاقة التى تمتع بها لأكثر من ثلاثين عاما … حتى أصبح المساس بها من أصعب الأمور السياسية التى تمس الاستقرار الاجتماعي ومن ثم الاستقرار السياسى الذى أصبح عاملا هاما للاستثمار … وهكذا تقع الدولة فى مأزق شديد تحاول أن تخرج منه … ونواب الشعب من ناحية أخرى يجهلون أو يتجاهلون هذه المشكلة الأمر الذى يثير كثيرا من التساؤلات حول اهمالهم لها أو عدم اثارتها … وهى من أهم القضايا القومية التى تفوق كثيرا مشكلة قرية مرحبا أو كارثة سالم اكسبريس أو مصرف سيدى عبد القادر أو حادث العتبة الذى هو فى الواقع نتيجة حتمية للتكدس السكانى فى القاهرة كما فى غيرها من المدن المصرية،  واذا كان العالم كله يجتمع اليوم حول هدف واحد هو انقاذ الكرة الارضية من التلوث البيئى فلا أقل من اهتمام مجلس الشعب بانقاذ مصر من التلوث البيئى الناتج عن التكدس السكانى وما يرتبط به من التكدس الخدمى والانتاجى الذى يضغط على الوادى الضيق حيث يقيم ممثلو الشعب وهم لا يفكرون فى تركه أو حث مواطنيهم على تركه الى مناطق التعمير الجديدة. 

واذا كان العمل السياسى لا يهدف الى انقاد مصر من التكدس السكانى الذى يصيبها فكيف يكون اذن ؟ لقد بح صوت الخبراء والمختصين فى الانذار والتحذير من الاثار الوخيمة لهذا التكدس السكانى … فهو السبب فى ضياع ثروتنا الاثرية والحضارية من خلال المياه الجوفية الناتجة عن هذا التكدس ، وهو السبب فى التلوث البيئى وفى كل الأمراض الصحية والامنية وهو السبب فى الانفاق بلا حدود على بناء الكبارى العلوية والانفاق التحتية لحل مشاكل المرور التى هى نتيجة مباشرة لهذا التكدس فلا فائدة من الحلول المؤقتة التى ما تلبث أن تفقد الغرض منها مع زيادة معدلات التزايد السكانى على المكان ولا فائدة من محاربة العنف والتطرف فى الوقت الذى تتزايد فيه معدلات التزاحم والتكدس السكانى … لقد توقف الفكر العلمى والتخصصى وإبداء الرأى لمعالجة المشكلة ، والكرة الآن فى ملعب الفكر السياسى حيث القرار الصعب والمواجهة الجماهيرية هذا هو التحدى الحقيقى لانقاذ القاهرة وكل مدن مصر. 

واذا كانت الخطة الخمسية القادمة – كما شرحها رئيس الوزراء فى ندوة الحزب الوطنى فى مدينة نصر – تهدف الى تحول كامل الى الاقتصاد الحر وإعطاء الأولوية لقطاع الاعمال والتركيز على الانتاج السلعى واستكمال البنية الاساسية واعادة توزيع الدخل القومى لصالح محدودى الدخل وعلاج الهياكل التمويلية لشركات القطاع العام لزيادة الانتاج وتخصيص 15 مليار جنيه للتعليم والصحة والشباب والخدمات ، فأين هو البعد المكانى فى أهداف الخطة ؟ وهو الذى يمثل العنصر الرئيسى فى التنمية الاقتصادية والاجتماعية. ويظهر أن أقطاب الاقتصاد فى مصر يحسبون مواقفهم من منطلق الجدوى الاقتصادية للمشروعات والجدوى الاجتماعية للخدمات فى حين أن الاقتصاد القومى لابد وأن يرتكن فى المقام الأول على الجدوى الاستيطانية أساسا … وفى اطارها تحل جميع المشاكل … والجدوى الاستيطانية هى تعبير جديد يفرض نفسه على الحالة المصرية بصفة خاصة حيث يقيم 96% من السكان على 4% من مساحة الأرض فالجدوى الاستيطانية تهدف الى ايجاد التوازن الانتاجى والبيئى والاجتماعى معا فى كل الخطط القومية. وهى المحدد الرئيسى الذى تدور حوله توجهات المؤتمر الدولى لانقاذ الأرض … هى الموجه لكل المشروعات الاستثمارية والخدمية … هى المقياس لمدى تحقيق المشروعات لتنمية المناطق الجديدة.. هى العامل الاساسى للتوازن السكانى على الأرض المصرية … هى العلاج الحتمى للتكدس السكانى فى الوادى الضيق ومن ثم هى العلاج لكل مشاكل المجتمع ومنها مشاكل القاهرة وغيرها من المدن والقرى ان مشروعات كهربة الريف لم تحقق أهدافها فى ادارة السواقى ولكنها ساعدت على توفير الفيديو والثلاجة والغسالة ومن ثم التكدس السكانى والامتداد العمرانى على الأرض الزراعية. مشروعات مياه الشرب فى الريف قد وفرت الأسباب الصحية من ناحية وزادت الأمراض من ناحية أخرى فى غياب الصرف الصحى الذى انتقل الى المصارف وزاد من التلوث البيئى الذى كاد يقضى على الأرض كما أن بناء الجامعات الاقليمية لم يتسبب فقط فى خفض المستوى التعليمى ولكنه زاد من التكدس السكانى ومن ثم الامتداد العمرانى على الأراضى الزراعية وبالمثل كان اختيار مصانع الحديد والصلب والأسمنت فى حلوان وطره نقمة لا نعمة وهكذا يطغى البعد الاجتماعى على البعد السكانى كما يغلب القرار السياسى القرار التخطيطى … وهكذا تتفاقم المشاكل لقد برع أصحاب القرار فى كل هذه المشروعات فى تقديم الحجج والمبررات التى تجد اذانا صاغية لدى عامة الشعب من الذين لا يدركون الأبعاد الحقيقية لهذه المشروعات على المدى الطويل لقد استخدمت هذه المشروعات فى وقتها كشعارات سياسية وقومية أدت فى النهاية الى نكسة حضارية تتآكل معها آلاف الأفدنة الزراعية سنويا وتتفاقم معها المشاكل الاجتماعية والبيئية والقاهرة فى كل ذلك لاتزال تلقى كل العناية والرعاية عن غيرها من المدن وكأنها هى كل مصر وتظهر فى النهاية توصيات اللجنة القومية لبحث مشاكل القاهرة لتحد من التضخم السكانى للعاصمة وتحميها من الغزاة القادمين من مناطق طرد العمالة على حد تعبيرهم – وهى مناطق تعانى من المشاكل أضعاف ما تعانى منها القاهرة وهذه هى سمة المركزية فى الحكم والاعلام والمركزية فى الفكر والقرار… واذا كان الهدف من هذه التوصيات وغيرها من القرارات هو الحفاظ على الاستقرار الاجتماعى والأمنى تخوفا من هروب الاستثمار الأجنبى … فان هذا الاستثمار سوف يهرب لا محالة اذا ما زاد التكدس السكانى فى كل المدن والقرى وزادت معه المشاكل الاجتماعية والامنية … ان الحلول المؤقتة لم تفد ولن تفيد … ولابد من تحريك المجتمع وتوعيته من خلال كل وسائل الاعلام حتى يدرك المصير الرهيب الذى ينتظره اذا استمرت المسكنات وأغفلت المسببات وترهلت مع ذلك الادارات والتنظيمات. والقيادة السياسية التى قادت حرب العبور لقادرة أن تخطط لهذا العبور الجديد …

word
pdf