مستقبل القاهرة بين عوامل الجذب والطرد

مستقبل القاهرة بين عوامل الجذب والطرد2019-12-02T13:58:10+00:00

مستقبل القاهرة بين عوامل الجذب والطرد

د/ عبد الباقي إبراهيم

كبير خبراء الأمم المتحدة للتخطيط العمراني سابقا

                                           

الاهرام الاقتصادى

24 /2/1992

 

القاهرة فى عيون المصريين هى مصر فهى معروفه للمواطن العادى باسم مصر فهى بالنسبة لهم ” أم ” الدنيا والدنيا لديهم هى بقية أنحاء مصر وليس العالم الخارجى الذى لم يكن معروفا لدى الغالبية العظمى منهم ، فمصر هى مقر الحكم 000

وهى السلطة والسلطان 000 وهى القرار والاعلام 000 وهى مجمع الأنشطة وفرص العمل 000 هى المركز الثقافى والسياحى 000 وهى ملتقى كل الطرق 000 هى البحر العميق الذى يبتلع النسبة الكبرى من الاستثمارات وهى مجمع المؤتمرات 000 هى مصدر الأرزاق للعمالة الهامشية 000 هى مرتع الاسكان العشوائى الذى يمتد على الأرض والذى يغطى العمارات 000 هى أعلى الكثافات السكانية وأرخص الايجارات السكنية 000 هى النوادى والفنادق والملاهى والمستشفيات 000 هى التى تمتلك كل عوامل الجذب السكانى تسكنها دولة قوامها عشرة ملايين نسمة وتستقبل كل نهار مليونى نسمة توفر لهم الدولة مقومات الحياة من الخدمات والمواصلات 0 تقيم لهم الجسور وتبنى لهم الأنفاق ، مشاكلها تتفاقم كل يوم لا ينفع معها التخطيط ولا تقوى عليها الادارة تلين أمامها كل إرادة وتعجز عنها كل قيادة أعدت لها كما هائلا من الدراسات وتصدرت لها العديد من التوصيات والقرارات 000 وهى صامدة تفتح كل أبوابها للباحثين عن العمل والاقامة000 وهى لا تشبع وان أصابتها التخمة امتدت أفقيا على الأراضى الصحراوية والزراعية وان عجزت امتدت رأسيا فى الأبراج السكنية يسكنها ربع سكان الدولة وتستهلك ما يقرب من نصف استثماراتها يحاسب فيها الفرد كما يحاسب فى أى مكان أخر فى الدولة ، فهو يدفع نفس قيمة الماء والكهرباء ونفس الضرائب والجزاءات فى الوقت الذى تتضاعف فيها أكثر من غيرها المرتبات والبدلات 0 تدير أمورها الأجهزة المحلية وتنافسها فيها الأجهزة المركزية فهى تقف حائرة بين المركزية والمحلية وهى لا تدرى اذا كانت مدينة أو إقليما ولكنها تقر وتعترف أنها مصر أم الدنيا 0

والقاهرة تتمتع من ناحية أخرى بأكبر نسبة من التزاحم والزحام كما انها تتميز بأكبر نسبة من التلوث البيئى والبصرى تزيد فيها نسبة الحوادث والانحرافات وتتوه فيها الحقوق والواجبات ويغيب عن الدولة تحصيل كم من الضرائب المختفية فى الأدغال ، هى كالبحر يأكل فيها الكبير الصغير وتختفى فيها جريمته وسط الزحام تستهلك أكبر قدر من الأحبار والأوراق ويصدر عنها أكبر قدر من البيانات والقرارات وتملأ الدنيا بالكلمات والصرخات 000 ولكنها فى موقعها قابعة تتعقد فيها المشاكل وتتشابك ويزيد عجز الانسان عن حلها حتى أصبحت حاملة لكل الأمراض المزمنة لم يصلح معها أى علاج أو مسكنات ولم يبق أمام أطبائها الا الجراحات والجراحة عند السياسيين تقلق الراحة حتى أصبح تحريك الأسواق والسلخانات يتعادل مع تحريك الأهرامات 0 وتهجير العاملين فى الأجهزة التنفيذية الى المدن الجديدة أصبح فى حكم المستحيل فالكل مقيد بالأرض بقيد من حديد هو قيد الاسكان الرخيص الذى يصل فى متوسطه الى حوالى ثلاثة دولارات فى الشهر بالمقياس العالمى والمياه بلا حدود يستهلك نصفها ويضيع النصف الأخر فى الهباء مع ان مشكلة العالم اليوم هى نقطة الماء 0 والتسيب ليس فقط فى الماء والكهرباء ولكنه فى كل المرافق والخدمات التى يملؤها النوم والخمول والبركة فى برامج التليفزيون فلقد ضاعت الاهتمامات بالمشاكل الحيوية وتركزت على الكرة والأغنية0

والقاهرة بكل ما فيها من عوامل طرد لا تقوى على ما فيها من عوامل جذب والطرف الأخر هنا ليس الريف أو الحضر ولكنه مناطق التعمير الجديدة فى المدن والقرى البعيدة ، حيث تقل فيها عوامل الجذب ولا تلقى أى دعم آخر من قوى الطرد من المناطق المزدحمة0 هذه هى المشكلة فمن أراد الحل فليبدأ من أول هذا الخيط دون تردد أو خوف مع مقاومة الاسترخاء الذى أصاب المجتمع الذى جنح الى الراحة على مدى أربعين سنة كانت فيها الدولة توفر له احتياجاته وفى الوقت نفسه تخشى احتجاجاته حتى تعود المجتمع على خرق اللوائح والقوانين كنوع من التحدى للسلطات وتعبير عن اثبات الذات فاتجه الشباب الى الملذات وراجت معه سوق المخدرات0

فى القاهرة 000 السيارة هى سيدة الموقف وهى المحرك لمعظم المشروعات هى صاحبة الكبارى العلوية والأنفاق السفلية وهى صاحبة شق الشوارع والطرق وتخطيط الميادين 000 هى التى اقتحمت شارع الأزهر وهزت المناطق الأثرية 000 هى التى قطعت أوصال حديقة الأزبكية وجذبت التجار بكل البضائع دون اذن أو تصريح 000 هى التى دعت الى بناء الجراجات التى استقطعت مواقعها من الحدائق والميادين 000 هى التى جذبت المحلات التجارية على محاور الحركة الرئيسية وقلبت الموازين التخطيطية هى الراسمة للطريق الدائرى الذى يربط القاهرة الحالية بالضواحى الجديدة حولها ، هى التى جعلت من ميدان التحرير حقل تجارب للتطوير وهى التى قضت على سلطان رمسيس فى ميدانه  حتى كاد يترك مكانه ويمد يده طلبا العلاج من التلوث الناتج من عوادم السيارات التى صبغت مبانى القاهرة بالهباب حتى أصابتها بالاكتئاب لقد امتلأت الشوارع بالسيارات باعداد لم يعد ينفع معها مواقف أو جراجات  لقد أصبح الشارع هو الجراج وهو ورشة الاصلاح ولم يعد ينفع معه أى اصلاح ومع السيارات ترتفع العمارات وتقام البنوك والادارات فى قلب العاصمة الذى أصيب بالتجلط ولم يعد يصلح معه تغيير فى الصمامات فاذا وقف المرور فى مصر الجديدة بسبب التشريفة تأثر به المرور عند الأهرامات فالقاهرة كالجسم الواحد اذا تداعى العضو تأثرت به جميع الأعضاء0

واذا كانت السيارة هى سيدة الموقف فمهندس التنظيم هو السيد هو المانح لتصاريح البناء هو المخطط وهو المصمم هو المراقب لأعمال البناء وهو الغافل عنها عند الضرورة وللضرورة أحكام ، وهو المتحكم فى لوائح التنظيم يفسرها  كيفما يشاء فاذا شاء منح واذا شاء منع ولكل شىء حساب  هو الوحيد المختص وغير المتخصص معا0 هو الراسم  لشكل المدينة والذى يضفى عليها طابعه الخاص ، هو الفاتح للورش والمحلات وهو القادر على غلقها اذا شاء تتوه فى أدراجه الملفات عند الملمات ويجدها عند الحاجة أو طلب زيادة فى عدد الأدوار0 عيناه واسعتان وجيوبه أوسع  لا تؤثر فيه سلطة أو سلطان هو المتحكم فى البناء والعمران0 والذى يتعامل مع القطط السمان0

وضع للقاهرة تخطيطا بل تخطيطات ولكن ضغط السكان كان أقوى 0 والقرار السياسى يحركه ضغط السكان ومشكلة سوق روض الفرج لا تزال فى الأذهان ، وقد تتفجر مشكلة نقل المدبح ثم نقل الأنشطة التى تضر بالآثار0 كما تتفجر المشاكل الصحية والأمنية فى كل الأحياء الشعبية0 تشب الحرائق وتنهار العمارات ولا تقوى السلطات المحلية على مواجهة كل هذه الأزمات 0 وتظهر الاقتراحات بين الحين والحين تسعى الى الحل ولكن الى حين ، فمرة تدعو الى اقامة عاصمة جديدة وتقدم بشأنها المستندات ومرة تدعو الى تنظيم الهجرة اليها من الريف 0 والمتتبع للعديد من الكلمات والمقالات على صفحات الصحف والمجلات على مدى ربع القرن يرى الاعادة فى الكلام وكأنها اسطوانة مشروخة والقاهرة تئن وقد أصابتها الشيخوخة 0 الحلول التقليدية لم تنفع فى انقاذها فكلما قام مشروع تبتلعه الزيادة السكانية حتى ان بعضهم أشار الى ترك الأمور على ما هى عليه حتى تصاب المدينة بالجلطة الدموية وعندها يهجرها أصحابها مرغمين الى المناطق الجديدة التى تكون قد استعدت لذلك0 والبعض الآخر يشير الى الحد من الحركة على الشرايين الرئيسية خاصة فى قلب المدينة حتى تضطر المتاجر والمكاتب والبنوك الى البحث عن بديل آخر فى الأطراف التى تكون مستعدة لذلك 0 وهم هنا يطبقون مبدأ اذا أردت حل مشكلة فاخلق لها مشكلة 0 لقد وضعت العديد من الاقتراحات واللوائح والتشريعات وغيرها من الدراسات التى لم تتعد مرحلة التوصيات لتنتقل الى مرحلة السياسات ثم البرامج ثم التطبيق0 ويظهر أن معظم هذه الاقتراحات كانت أبعد عن امكانية التطبيق 000 والتطبيق هنا ليس من اختصاص محافظ المدينة بقدر ما هو من اختصاص الدولة  كمشكلة  قومية وان كانت تمس ربع سكان الدولة0 وهى لا تقل أهمية عن غرق باخرة أو انهيار عمارة أو الخروج من دورة الكرة الأفريقية فى السنغال0 ان القاهرة مشكلة قومية ولا يكفى أن تقام فيها شبكة حديثة للصرف الصحى أو تشق فيها شبكة انفاق أو غيرها من المشروعات التى تحاول مواجهة مشاكل المستقبل القريب وان كانت هى فى حد ذاتها تمثل اضافات جديدة لعوامل الجذب الى المدينة الكبيرة 0 فهى وان كانت فى مراحلها الأولى تساهم فى دفع معدلات التنمية القومية الا أنها فى المستقبل البعيد سوف تحمل المدينة الكبيرة أعباء اضافية 0 واذا كانت القاهرة تمثل مشكلة قومية عجزت عن حلها الأجهزة والدراسات فأين هى فى جدول أعمال المجالس التشريعية ؟ أين هى فى جدول أعمال مجلس الشعب والشورى ؟ وأين هى من جدول أعمال المجلس المحلى للمدينة الكبيرة الذى غرق فى التفاصيل تحت ضغط الجماهير ؟ وأين هى من أبحاث المجالس القومية المتخصصة ؟ ثم أين هى من معاهد البحوث والدراسات ؟ وأخيرا أين هى من جدول أعمال مجلس الوزراء0

 

word
pdf