مستقبل القاهرة وبيع المدن الجديدة

مستقبل القاهرة وبيع المدن الجديدة2019-11-25T14:45:20+00:00

مستقبل القاهرة وبيع المدن الجديدة

   دكتور عبد الباقي إبراهيم

       كبير خبراء الأمم المتحدة في التنمية العمرانية

الاخبار 2000

 

هل كان من المصادفة أن ينشر الدكتور ميلاد حنا مقاله الشامل الجامع الذي يدعو فيه الأحزاب السياسية لتدارس مستقبل القاهرة ومقال الأستاذ محمود المراغي الذي يراجع فيه قرار الحكومة لبيع المدن الجديدة للشركات الخاصة، لقد جاء المقال الأول متفائلاً بأن هناك فرصة ملائمة لفتح الحوار حول مشاكل القاهرة ومستقبلها في الأشهر القليلة المقبلة بعد أن زادت الضغوط الناجمة عنها والتي قد تؤدي إلى توقف الحياة فيها كلية … فهذه ليست الدعوة الأولى لإنقاذ القاهرة. فقد بدأ الإنذار مبكراً في بداية الستينات. وقدمت الاستراتيجيات التخطيطية التي يمكن أن تنقذ القاهرة كما تنقذ غيرها من مدن المحافظات الزراعية التي تعاني نفس الأمراض البيئية والاجتماعية والاقتصادية وذلك بالدعوة إلى الاستيطان خارج الوادي الضيق في إطار الأسلوب العلمي والإداري الذي يزيد من عوامل الجذب في المستوطنات الجديدة  بكل أحجامها المتدرجة كما يزيد من عوامل الطرد من المستوطنات المزدحمة القائمة وعلى رأسها القاهرة المحروسة. هذا في الوقت الذي كانت فيه المدن الجديدة في العالم المتقدم تخطو خطواتها الأولى. ولكن يظهر أن متخذ القرار في مثل هذه الأمور لا يركن إلى رأي الخبراء الذين يرون الأمور في أبعادها القريبة والمتوسطة والبعيدة معاً. بل يرى أن الأولوية الأولى هي في مواجهة المشاكل العاجلة والمتصلة مباشرة بالمتطلبات الآنية للمواطن فيرى أن حل مشاكل القاهرة هو في الإقلال من الضغط السكاني عليها بإنشاء مراكز خدمية في الأقاليم مثل الجامعات الإقليمية وغيرها من المشروعات المركزية مع أن هذا الاتجاه قد زاد من مشاكل الأقاليم ولم يحل مشاكل القاهرة التي تنمو وكادت أن تتفجر بسبب ما تقيمه الدولة فيها من مباني مركزية سواء أكانت إدارية أو تعليمية أو صحية أو ترفيهية أو رياضية أو تجارية تزيد من عوامل الجذب إلى العاصمة. فالدولة عندما تحاول أن تحل مشكلة من مشاكل المرور في القاهرة تدعو إلى إقامة مزيد من الجسور فوق الأرض ومزيد من مواقف السيارات تحت الأرض تعلوها مراكز تجارية لتدر ربحاً لمن يستثمرها. فلا تلبث أن تمتلئ هذه المواقف بسيارات رواد المراكز التجارية، إضافة إلى المواقف المتولدة عن الزيادة المضطردة في أعداد السيارات التي لا تجد لها مكاناً على سطح الأرض. والدولة وهي تحاول أن تواجه الزيادة المضطردة في أعداد الطلبة  المقبولين في الجامعات تقيم لهم المباني التعليمية في كل ركن فضاء أو حديقة صغيرة حتى أصبحت جامعة مثل جامعة القاهرة منطقة متزاحمة ومكدسة بالمباني التي أفقدتها صورتها الجامعية ومثلها مثل غيرها من الجامعات إذ أن كل  مسؤول يسعى لحل المشاكل التي تواجهه دون النظر إلى الأهداف القومية التي تحقق استراتيجية الدولة للاستيطان خارج الوادي. كما يسعى كل مسؤول أن تكون إنجازاته على الأرض هي الأقرب إلى نظر القيادة السياسية وعلى الجانب الآخر يسعى المحافظون كما تسعى المجالس المحلية ونواب الشعب إلى جذب أكبر قدر من المشروعات إلى داخل حدودهم الإدارية متعللة بالحاجة العاجلة للجماهير إلى الخدمات العامة فتزداد بذلك عوامل الجذب إلى مدن وقرى المحافظات الزراعية وبالتالي تتزايد الكثافات السكانية فيها كما تمتد رقعتها العمرانية لتأكل الأخضر واليابس وتحرم المجتمع من إنتاجها. وهكذا تستمر عجلة التزايد السكاني والعمراني في الوادي الضيق الذي ينتظر أن يتلاشى اللون الأخضر فيه بحلول عام 2035 إذا لم تحدث معجزة ويتم الدعوة إلى عقد مؤتمر قومي لوضع استراتيجيات وآليات الإصلاح العمراني  حتى لا تضيع آثار الإصلاح الاقتصادي لقد طرحت هذه المشاكل على بساط البحث مرات ومرات على مدى الثلاثين عاماً السابقة دون التوصل إلى حل جذري لمشاكل المدن المصرية وعلى رأسها القاهرة. في عام 1972 كانت هناك دعوة لإنهاء نظام الإدارة المحلية الحالي واستبدال المحافظات الكثيرة بعدد قليل من الأقاليم التخطيطية الإدارية التي تحقق قدراً أكبر من اللامركزية بأجهزتها الوزارية المحلية التي تتولى تخطيط وتنفيذ مشروعات التنمية المحلية وتترك الأجهزة الوزارية المركزية تتفرغ لوضع استراتيجيات وأهداف التنمية القومية في أبعادها الاقتصادية والاجتماعية والمكانية وتوفر الآليات والقدرات التي تضمن تحقيق هذه الأهداف. فلا تقوم الوزارة المركزية بحل مشكلة تقاطع مروري أو تطوير منطقة عشوائية أو مد خط مترو أو وضع التخطيط التفصيلي لمناطق عمرانية  أو تحدد نظم البناء المناسب لها ومتابعة  تنفيذها أو وضع مشروع محلي للصرف الصحي أو إقامة مشروع لطريق محلي أو لجسر علوي ،من هذا المدخل يمكن أن تتغير النظم الإدارية المحلية كما تتطور النظم الضرائبية والحوافز المالية وتتطور أساليب التنمية العمرانية المستدامة كما تتحدث عنها حالياً المؤتمرات الدولية التي تناقش مستقبل العمران في العالم في القرن الواحد والعشرين.

وإذا كانت الدولة متمثلة في الحكومة المركزية تسعى إلى الإقلال من الأعباء التنفيذية عن كاهلها عن طريق نظام الخصخصة الذي انتشر في العقد الأخير في إطار النظام الرأسمالي العالمي بعد أن سادت سياسات التأميم في إطار النظام الاشتراكي من قبل. فإن هذا التحول من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين ربما سوف يتسبب في ترنح المجتمع. وإذا كانت الدولة تسعى إلى بيع المدن الجديدة واعتبارها وحدات اقتصادية فهي بذلك تهدم مبدأ أساسياً وهو أن إقامة المستوطنات الجديدة بأحجامها المختلفة خارج الوادي الضيق هو هدف قومي لجذب السكان من داخل الوادي إلى خارجه وأن الإنفاق في بناء هذه المستوطنات هو للإقلال من الإنفاق على حل المشاكل الصحية والبيئية والمرورية والإسكانية الناتجة من التكدس الرهيب على مدن وقرى الوادي الضيق وعلى رأسها القاهرة المحروسة وكذلك الإقلال من إهدار الموارد الطبيعية والبشرية في الوادي الضيق.

وإذا كانت المدن الجديدة التي أقيمت لم تحقق الأهداف التخطيطية التي وضعت لها فذلك راجع إلى عدم توفر الآليات والقدرات التي تحقق الاستراتيجية القومية للاستيطان خارج الوادي بزيادة عوامل الجذب في المدن الجديدة والإقلال منها في المدن القديمة كما أن ذلك راجع أيضاً إلى ضعف إدارة التنمية العمرانية لهذه المدن الجديدة. فالتنمية العمرانية ليست محدودة برسم الطرق وتحديد استعمالات الأراضي وإصدار تراخيص البناء ولكنها عملية مستمرة تتكامل فيها جوانب التنمية الاقتصادية بجوانب التنمية الاجتماعية والتنمية الثقافية والتنمية البيئية. واسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون. فلا يوصف أحد الخبراء الدوليين عندما يبدي رأياً يتعارض مع أحد حديثي المسؤولية الوزارية وعلى صفحات الجرائد يوصف بأنه مغالط ومتجني ومفتري وحاقد ومثير للبلبلة والشكوك– حيث تصور المسؤول أنه بتوليه المنصب الجديد أصبح أخبرً من الخبراء وأعلم من العلماء والأحرص من غيره على مصالح الوطن … وهكذا تزداد عوامل طرد الخبراء المحليين الذين يهجرون الوطن إلى حيث ما تزداد عوامل الجذب خارجه لتتلقفهم دول العالم الثالث والتي أصبحت أكثر تقدماً وتفوقاً. إن الأمر لا يحتاج فقط إلى إعادة صياغة النظام الإداري للتنمية القومية اقتصادياً واجتماعياً وعمرانياً حتى يمكن مواجهة مشاكل العمران في مصر في القرن الواحد والعشرين ولكنه يحتاج أولاً إلى ترسيخ القيم الأخلاقية في الممارسات والمعاملات.

 

word
pdf