مستقبل القاهرة وجماعات الضغط

مستقبل القاهرة وجماعات الضغط2019-11-20T13:04:47+00:00

مستقبل القاهرة وجماعات الضغط

الدكتور/ عبد الباقي إبراهيم

رئيس مركز الدراسات التخطيطية والمعمارية

 

 

فى ساحة أحد ميادين كامبريدج بانجلترا وقف النائب المحترم على منصة مرتفعة يخطب فى جموع من المواطنين فى دائرته. وعلى واجهة مبنى البلدية المطل على الساحة وضعت أعداد من اللوحات المعمارية والمخططات العمرانية للمدينة.. وانتشرت أعداد من شابات وشباب المدينة يوزعون منشورات على المارة.. وكانت المناسبة أن جامعة كامبريدج قررت إنشاء قسم للكيمياء فى أحد أركان الحدائق التى تملأ المدينة.. واعترض النائب المحترم وأثار الموضوع على الرأى العام بهذه الصورة الحضارية للعلاقة بين النائب ومواطنيه.. وهكذا يتم اتخاذ القرار من خلال رغبات المجتمع, فقد اعترض على بناء قسم الكيمياء فى جزء من الحدائق الشاسعة.. واختير له موقع آخر.. وتتكرر مثل هذه الصورة الحضارية فى كل مدن العالم المتحضر عند معالجة الأمور العمرانية حيث يشعر المواطن الواعى بالأهمية المستقبلية للمشروعات. وهنا يصبح الوعى التخطيطى عاملا أساسيا فى صحة اتخاذ القرار سواء كان صادرا من الجهاز التنفيذى أو من أفراد المجتمع أو من ممثليهم. والوعى عامل يشارك فيه المواطن كما يشارك فيه من ينوب عنه فى المجالس التشريعية المركزية أو المحلية.

وإنماء الوعى التخطيطى أو المستقبلى يتم من خلال العملية التثقيفية والإعلامية والتعليمية التى يشارك فى استقبالها كل من المواطن ونائبه المحترم. وإذا كانت الدول المتقدمه تتحلى بهذا الوعى من خلال الممارسة الديمقراطية الصحيحة إلا أن الدول النامية لا تزال تعانى من تخلف الوعى التخطيطى أو المستقبلى لدى كل من المواطن ونائبه المحترم على حد سواء, فكثيرا ما تصدر القرارات لمواجهة الأمور العاجلة دون إدراك بالنتائج المستقبلية, الأمر الذى لابد من معالجته حتى تستقيم السياسات التخطيطية والعمرانية وبالأخص فى الحالة المصرية التى يتكاثف فيها المواطنون على رقعة صغيرة من الأرض ولا يقبلون التزحزح عنها دون إدراك بالأبعاد المستقبلية للمشكلة. هنا يكمن الخطر فى دولة لا ترى من مستقبلها إلا القريب العاجل ولا تستطيع إبصار مستقبلها البعيد الآجل, والمسئولية هنا تقع على كل أفراد المجتمع الأقلية المثقفة منهم التى لا تعنى بالغالبية ممن يجهلون.. والأقلية المتعلمة منهم التى لا تعنى بالغالبية من الأميين, كما أنها مسئولية العاملين فى الأجهزة التنفيذية والموجهين للأجهزة الإعلامية للتبصير بالمستقبليات. ومسئولية النواب المحترمين فى المجالس التشريعية من الذين يحاولون إرضاء ناخبيهم بتوفير الخدمات لهم حيثما يكونون وليس حيثما يجب أن يكونوا.. أو من الذين يسايرون جماعات الضغط من أصحاب المصالح، والأمثلة واضحة فى كل مكان.. فى روض الفرج والمدبح.. فى المناطق العشوائية على الأرض الزراعية والصحراوية.. فى القرية والمدينة.. فالمصالح مشتركة والعلاقات متشابكة، فكل يسعى لحاله وحال البلد تسير من سيئ إلى أسوأ.. وتتفاقم المشاكل حتى أصبح مستقبل القاهرة هو الشغل الشاغل.

ولننظر إلى رأى نواب الشعب المحترمين فى قانون العلاقة بين المالك والمستأجر فى المبانى السكنية لنرى كيف يحاول البعض تخفيض نسب الزيادات المتوقعة فى القيم الإيجارية إلى أدنى حد ممكن إرضاء للكادحين من أبناء الشعب المطحونين الذين يدفعون قروشا معدودة فى الإيجارات بينما دخولهم تتنوع ماظهر منها ومابطن, فللصوت الانتخابى هنا ثمنه وللعمل الجماهيرى عائدة ومردوده.. وهنا تظهر جماعات الضغط متمثلة فى أصحاب المصالح الخاصة الذين يسعون للحصول على كل ماتصل إليه أيديهم بالتبرير أو بالتحوير . وهنا تتصارع القوى. وفى النهاية تكون الغلبة للأقوى فى توجيه التنمية العمرانية القصيرة الأجل وتنهار أمام كل ذلك مستقبليات التنمية العمرانية البعيدة المدى للمدن والقرى المصرية التى تكتظ بالسكان ولا يدرك أبعادها المستقبلية إلا القلة القليلة من الخبراء والمتخصصين ولا يعلم مصيرها إلا الله.

وعادة ما يقف الفكر التخطيطى ويتجمد عندما يصطدم بحقيقة الواقع الذى يحدده متخذ القرار من منظوره السياسى, الأمر الذى لا يمكن تحريكه أو مقاومته إلا بجماعات الضغط التى يمثلها نواب الشعب، فمهما أفتى المخططون أو الخبراء والمتخصصون ومهما كتب الكتاب أو المفكرون أو المثقفون, فإن الأمر فى النهاية يقع فى أيدى نواب الشعب سواء بالموافقة أو بالمقاومة. ففى مجلس الشعب تظهر الأهداف السياسية التى تطغى فيها المصالح المحلية وتتغلب فيها الرغبات العاجلة, فالبعد الزمنى القريب هو الذى يلقى التأييد أما المستقبل البعيد فلا يلقى التأكيد. وتبقى الدراسات والبحوث بعد كل ذلك حبرا على ورق لا ترى النور, وتفسد وتفقد فعاليتها فلا تتجدد ولا تتبدل إلى أن يحين وقت آخر لإجراء دراسات أخرى ربما لنفس الغرض. وتسير الأمور على نفس المنوال تعرضت فيها مصر إلى العديد من الدراسات العمرانية التى تضخمت بها مخازن الدولة ولا تجد لها قارئا أو باحثا.. وهكذا أهدرت نسبة كبيرة من الاستثمارات المحلية التى أنفقت على إعداد هذه الدراسات فى الوقت الذى تعود فيه النسبة الأكبر إلى دول المعونات الفنية.. ويقف المخططون والخبراء المتخصصون بعد ذلك فى حالة من انعدام الوزن لا يستطيعون حراكا فقد توقفت طموحاتهم وتلاشت آمالهم فى تحقيق نتائج دراساتهم وبحوثهم.. والمتتبع لما ينشر على صفحات الجرائد من مقالات وكلمات على مدى الثلاثين سنة السابقة ليعجب من تكرار الأفكار والأقوال فى تناول المشاكل التى تعانى منها المدن المصرية وخاصة مدينة القاهرة.. وكأنها اسطوانة مشروخة تعيد نغماتها لتصيب المستمع لها بالانهيار العصبى. ويبقى إنقاذ المدن المصرية بعاصمتها القاهرة رهن بالقدرة على اتخاذ القرار أو بالتوجيه لمناقشة الموضوعات أو بتشكيل لجنة قومية لوضع مرئياتها بهذا الشأن وعرضها عند اللزوم, أو أن تقوم اللجان المختصة فى المجالس القومية المتخصصة بإعداد تقاريرها التى ترفع للجهات المسئولة للعلم واتخاذ اللازم. ويقف المخططون والخبراء يتأملون.. ويتألمون .

لقد شهد موضوع إنقاذ القاهرة اهتماما من القيادة السياسية فى الأشهر الأخيرة, وإن كان تقرير اللجنة القومية التى أوكل إليها تقديم اقتراحاتها بهذا الشأن لم يظهر بعد إلى النور, الأمر الذى يزيد من كثافة الغموض حول هذا الموضوع وكأنه سر من الأسرار التى لا يصح الإفصاح عنها.. فى حين أن مثله فى الدول الديمقراطية يناقش تحت جميع الأضواء الكاشفة ليلا وفى ضوء الشمس نهارا. أما هنا فى مصر فلابد من الحوار حول مبدأ عرض مشروعات التنمية العمرانية على المواطنين بكل مستوياتهم المتفاوتة ثقافيا واقتصاديا واجتماعيا خاصة وأن هذه المشروعات تناقش المستقبليات البعيدة المدى أكثر منها المستقبليات القصيرة المدى التى تعنى المواطنين وجماعات الضغط وهى الأكثر تأثيرا والأهم تقديرا عند متخذ القرار, كما أن المستقبليات البعيدة بالنسبة للمدن المصرية ومنها القاهرة, تتعرض بطبيعتها إلى حركة تفريغ السكان من المناطق المزدحمة إلى المناطق العمرانية الجديدة وهى بالتالى تهز الكيانات الاجتماعية والعمرانية القائمة الأمر الذى لا يستهوى أصحاب المصالح الخاصة من المواطنين وبالتالى لا تستهوى نواب الشعب. وهنا تبدأ العقبات فى تنفيذ سياسات التنمية العمرانية. لذلك فإن عوامل الطرد من داخل المدن المزدحمة ومنها القاهرة إلى خارجها لدعم عوامل الجذب فى المناطق العمرانية الجديدة تواجه بالمعارضة خاصة من هؤلاء الذين يقيمون فى المناطق المزدحمة والمكدسة بالمساكن العشوائية والأنشطة الهامشية والذين يمثلون لب المشكلة, كما يمثلون الكم الأكبر من الأصوات المؤثرة فى الانتخابات والأكثر تجاوبا مع نواب الشعب الذين يخدمون مصالحهم العامة ويؤيدون مطامعهم الخاصة بإعتبار أنهم يمثلون الغالبية المطحونة من الشعب الكادح.. وهنا يبقى إنقاذ المدن المزدحمة ومنها القاهرة رهنا للرؤيا السياسية لنواب الشعب الذين يسعون لإرضاء ناخبهم ويخشون غضبهم ومعهم كل أسلحة المنطق حتى ولو كان ذلك على حساب الصالح العام فى المستقبل البعيد, فهذا المنطق تعالج التوجهات التخطيطية للمدن المصرية وبهذا المفهوم تنفذ سياسات التنمية العمرانية. فقد سبق وأن أقرت المجالس المحلية للمحافظات الكبرى فى الستينات القرارات السياسية بإنشاء الجامعات الإقليمية فى عواصمها لخدمة أبناءها بغض النظر عن المشاكل الجانبية التى قد تسببها هذه الجامعات. ورفض المجلس المحلى للشرقية مثلا اقتراحا بقيام جامعتها على الأرض الصحراوية شرق مدينة بلبيس. كما رفض المجلس المحلى للمنوفية بقيام جامعتها على الأرض الصحراوية شرق مدينة بلبيس. كما رفض المجلس المحلى للمنوفية قيام جامعتها على مشارق الأرض الصحراوية غرب فرع رشيد. وهكذا وبعد ثلاثين عاما بدأت عواصم المحافظات تئن من الأحمال الثقيلة التى تحملها كما تفاقمت مشاكل الإسكان والخدمات فيها. وضاعت معها الأراضى الزراعية المنتجة لغذاء الشعب.. فقد تم كل ذلك ارضاءا للمواطنين المتزاحمين على الأرض الزراعية وتأييدا لأصحاب المصالح الخاصة من إنشاء مثل هذه المشروعات.. كان سلاحهم هو ذلك المنطق الذى يدعو إلى رعاية مصالح الغالبية المطحونة من الشعب الكادح.. وبنفس المنطق امتدت مشروعات الطرق فى المحافظات الزراعية لتجذب إليها مزيدا من التعمير الذى يأكل الأرض الزراعية أكلا.. ثم تأتى مشروعات البنية الأساسية من كهرباء لتشغيل الثلاجات والفيديوهات والغسالات فى القرى المصرية وليس السواقى والآلات كما قيل من قبل. وشبكات مياه الشرب التى تصل إلى كل البيوت والعمارات دون شبكات للصرف الصحى التى بدأت تشق طريقها فى كل المدن والقرى لخدمة السكان حتى لا يهاجروا إلى مدينة القاهرة التى تئن بحملها السكانى أو إلى مناطق التعمير الجديدة حيث الخدمات الأقل وتكاليف المعيشة الأعلى.

وهكذا يبقى مستقبل المدن المزدحمة ومنها القاهرة معلقا بتأثير جماعات الضغط من ناحية وجماعات بالبعد السياسى المؤثر على اتخاذ القرار من ناحية أخرى. كما يبقى مستقبل المدن المزدحمة معلقا بقرار نواب الشعب بالنسبة لقانون العلاقة بين المالك والمستأجر فى المبانى السكنية. وهكذا ترتبط التنمية العمرانية فى مصر بالواقع السياسى والاجتماعى الذى يواجه المشاكل فى بعدها العاجل أكثر منه بالفكر التخطيطى والتنموى الذى يواجه المشاكل فى بعدها الطويل المدى.

word
pdf