مشكلة الإسكان بين العدل والتكافل الاجتماعي

مشكلة الإسكان بين العدل والتكافل الاجتماعي2019-12-08T11:49:09+00:00

مشكلة الإسكان بين العدل والتكافل الاجتماعي

د / عبد الباقي إبراهيم

كبير خبراء الأمم المتحدة للتخطيط العمراني سابقا

الأهرام الأقتصادى

 16/9/1991

 عندما تشتد الأزمات والمشاكل يلجأ الانسان الى القيم الاسلامية ليجد فيها الأمل والهدى للخروج منها0 فالأزمات والمشاكل يضعها الانسان لنفسه عندما يخرج عن تعاليم الدين ويضع لنفسه اللوائح والقوانين التى هى فى ظاهرها خير وعدل وفى باطنها شر و ظلم 0 ومنها مشكلة الاسكان التى تعرضت الى العديد من الاجتهادات والاجراءات بحجة توفير العدل الاجتماعى والانحياز للغالبية من السكان الذين يؤجرون مساكنهم على حساب حقوق الأقلية التى تمتلك العقارات 0 فصدرت القوانين لخفض القيمة الايجارية للوحدة السكنية مرة ثم أخرى إمعانا للانحياز للغالبية من السكان وإدعاء بالديمقراطية وإن كانت فى أسلوب لا تتفق مع شرع الله فى احترام الملكية الخاصة مادام صاحبها يؤدى ما عليه من واجبات وماله من حقوق باعتبار أن كل شىء ملك الله والانسان خليفته فى الأرض بحكم تصرفات ولى الأمر أيضا بحكم الشرع وليس بالقوانين الوضعية التى يضعها لنفسه فى حدود ومنطق خاص فى موقف خاص0 وهكذا تفاقمت المشكلة وأخفق أصحاب العقارات فى صيانتها وتوقف أخرون عن الاستثمار فى هذا القطاع0 واستحلت الغالبية العظمى هذا الوضع حتى اقتنعت بأحقيتها فى التأجير الى الأبد و ورثت عقود الايجار 000 ويتعاقب على الوحدات السكنية أجيال وأجيال دون العناية بصيانة مرافقها الخاصة فى الداخل أو مرافقها المشتركة فى الخارج وهبط مستوى الاسكان الى أدناه وضاعت الثروات العقارية بتقادمها وتهالكها0 واستمر تدخل الدولة أو ولى الامر بهدف الخروج من هذه الأزمة بسن العديد من القوانين واللوائح دون الرجوع الى شرع الله فتفاقمت مشاكل الاسكان حتى أصبحت بعيدة الحل0

وفى خضم هذه المأساة الاقتصادية الاجتماعية إجتمعت اللجان لمحاولة الخروج من المحنة فلم تستطع واجتمع ممثلو الأحزاب فى اللجنة الاستشارية العليا للاسكان سعيا لإيجاد صيغة جديدة لحل المشكلة ترضى الأغلبية من المواطنين ولكن دون جدوى وانبرى واضعو سياسة الاسكان لإرضاء الغالبية العظمى من السكان المستأجرين دون النظر إلى رضاء الله وعملا بشريعته .من هنا كان لابد وأن ترتبط السياسة أولا بالمنهج الاسلامى الذى يقول لا ضرر ولا ضرار وأن يطبق هذا المنهج على كل من المالك والمستأجر وحتى لا تخضع سياسة الإسكان إلى الاجتهادات الشخصية أو الفردية أو حتى الى الاتجاهات الحزبية التى لم يقتنع بها المواطنون حتى الآن فضميرهم مرتبط بالشرع أكثر من إرتباطه بأى منطق آخر000 ففى هذا الاطار تضيع النزعة الشخصية والمصلحة الفردية وإن كانت قد ترسبت فى بعض الأذهان على مر السنين الطويلة التى طبقت فيها القوانين الوضعية للاسكان وهنا يمكن لفضيلة المفتى أن يدلى بدلوه فى هذه الأزمة أو هذه المحنة الاقتصادية الاجتماعية كما أفتى بشرعية استيلاء الدولة أو ولى الأمر على الأدوار المخالفة لقوانين البناء التى إرتضاها المجتمع وإن كانت هذه القوانين أيضا تحتاج الى دراسة فقهية أخرى 000 خاصة فيما يرتبط بتوفير الخصوصية وتطبيق مبدأ الوسطية أو العمل بمنهج لا ضرر ولا ضرار أو فيما يختص برأى الشرع فى تعمير الأراضى الموات وعدم التطاول فى البنيان أو حقوق الجوار وكل هذه مبادىء شرعية لا بد من وضعها فى الصيغة القانونية أو التشريعية فمن المستغرب أن تطبق بعض هذه المبادىء فى لوائح البناء فى دولة مثل اليابان حتى لا يستطيع صاحب العمارة أن يحصل على الصيغة النهائية لترخيص بنائه الا بعد موافقة المجاورين له0 إن الرجوع الى الحق فضيلة فلنرجع الى القيم الاسلامية التى يمكن أن تشكل الاسكان الجديد0

تواجه مشكلة الاسكان ظاهرتين أساسيتين الأولى فى الطاقة الإسكانية المعطلة والتى تقرب من مليونى وحدة سكنية بخلاف وحدات الاسكان السياحى والثانية فى تعقد العلاقة بين المالك والمستأجر0 أما الأولى فيمكن إطلاقها بتحريرها من القيود وترك التعاقدات لآليات السوق فإن طرح هذه الكمية الكبيرة من الوحدات السكنية فى السوق مرة واحدة سوف تؤثر بالقطع تأثيرا سريعا على سوق الاسكان خاصة فى النوعين المتوسط وفوق المتوسط الذى يتحمل التعامل بالايجارات الجديدة وذلك عندما يزداد العرض من هذين النوعين زيادة مفاجئة مع محدودية الطلب الى أن يتم التوازن بين العرض والطلب بعد فترة زمنية تصل الى حوالى ثلاث سنوات الأمر الذى يقرره خبراء الاقتصاد0 وفى هذه الحالة تكون مدة عقد الايجار سنوية يتجدد من تلقاء نفسه بموافقة المالك والمستأجر على أن يعطى كل منهما مهلة ستة أشهر لتحديد موقفه من هذا التعاقد 0 ويسرى هذا الأمر على كل ما يبنى من إسكان جديد دون تدخل الدولة مادام عقد الايجار يتم تسجيله فى الشهر العقارى ويحدد فيه قيمة الضريبة العقارية المناسبة للشرائح المختلفة للقيمة الايجارية حتى يشعر جميع مستويات الدخل المختلفة انهم يساهمون بشكل أو بآخر فى دفع حقوق الدولة عليهم حتى تستطيع أن تقدم الدعم الاسكانى لمن يستحقه وحتى يصبح هناك حافز جديد على العمل والانتاج لمواجهة الأعباء السكنية المتزايدة فى المستقبل بدلا من هذا التراخى الذى أصاب فئات كثيرة من المجتمع بسبب إعتمادها على الدولة فى تهيئة مسكنها ومأكلها  والوقوف معها فى كل قضايا الاسكان0

أما الظاهرة الثانية وهى تعقد العلاقة بين المالك والمستأجر فلا بد من إرجاع الأمور الى أصولها ذلك بان يكون العقد هو شريعة المتعاقدين وذلك باسلوب مرحلى حتى يرجع سوق الاسكان الى طبيعته المتوازنة بين العرض والطلب 0 فليس من العدل تحديد نسب معينة لزيادة القيمة الايجارية للاسكان القديم بشكل جزافى تبعا لرؤية صاحب التقدير انخفاضا وارتفاعا دون أى سند علمى أو حسابى 0 الأمر الذى يزيد الجدل والنقاش الذى لم ينته ولن ينتهى بل ربما يزيد من الخلاف وتزيد بذلك الصراعات الطبقية الأمر الذى لا تتحمله الدولة سياسيا وأمنيا 0 واذا اختلفت الأطراف يكون الرجوع الى الأصول الشرعية هو الطريق الذى لا يستطيع أن يختلف عليه أحد وهنا يأتى تدخل المفتى لمحاولة حل الاشتباك بين المالك والمستأجر0 واذا حاولنا ارجاع الأمور الى أصولها نرجع الى العقود الأصلية قبل التخفيضات التى طرأت عليها0 ثم نبدأ فى تصعيد القيمة الايجارية الأساسية بنسب تتوافق مع معدلات التضخم على مدى السنوات السابقة للعقد ويتم ذلك فى معادلة بسيطة يمكن برمجتها بالحاسب الألى حتى يمكن تحديد القيمة الايجارية بسرعة عند تجديد العقد وتحريره من القيود التى حدت من فعاليته وشرعيته0

وإذا افترضنا أن معدل التضخم السنوى هو 5% والقيمة الايجارية للوحدة السكنية قبل التخفيض عام 1960 كانت 10 جنيهات تصبح القيمة الايجارية عام 1991 أى بعد ثلاثين عاما حوالى 5ر42 جنيه وهى قيمة تمثل 25% من دخل شهرى قدره 170 جنيها كما تمثل 20% من دخل شهرى قدره 5ر212 جنيه وهو يمثل المستوى المنخفض أو الأقل من المتوسط 0 ويعنى ذلك أن الزيادة فى القيمة الايجارية تدخل فى إطار الامكانيات المادية للغالبية العظمى من المجتمع 0 واذا كان المستأجر سوف يتحمل هذه الزيادة فان المالك خسر فى المقابل حوالى 11500 جنيه على مدى واحد وثلاثين عاما وهى قيمة فروق الايجارات الشهرية الثابته بخلاف حوالى 4500 جنيه قيمة التخفيضات التى طرأت عليها أى بخسارة مجموعها حوالى 16000 جنيه0 من هذا المنطلق يستطيع الطرفان تقدير موقف كل منهما بعد عودة الأمور الى أصولها 0 باعتبار أن العقد شريعة المتعاقدين 0 وبعد ذلك يتم تجديد العقد وتسجيله على أن تحدد مدة الايجارات الجديدة بثلاث سنوات وهى الفترة التى قد يقدرها خبراء الاقتصاد لتوازن العرض والطلب ثم تصبح مدة العقد بعد ذلك عامين وبعد خمس سنوات تصبح مدة عقد الايجار سنة واحدة وتعود الأمور بعد ذلك الى طبيعتها 0 ويأخذ كل ذى حق حقه ويؤدى كل صاحب واجب واجبه المالك والمستأجر والدولة سواء فى الصيانة أو الاشراف . المالك يصون المرافق المشتركة والمستأجر المرافق الداخلية وذلك تبعا لما تقره المعاملات الشرعية بعيدا عن الاجتهادات الشخصية أو الأهداف الحزبية  أو السياسية 0 كدولة وسط يتحقق فيها العدل والتكافل الاجتماعى0 لا شرقية ولا غربية لا يسارية  ولا يمينية لا ضرر فيها ولاضرار 0 بعد أن ثبت صدق هذا المنهج الذى يحدد موقفنا من التحولات الاقتصادية والاجتماعية والثـقافية التى يشهدها العالم حاليا0

word
pdf