مصور القرية المصرية …. بين الإصلاح والتغيير

مصور القرية المصرية …. بين الإصلاح والتغيير2019-12-11T15:19:11+00:00

السيد محرر صفحة الرأي بجريدة الأهرام الغراء
بمناسبة انعقاد المؤتمر الثامن للمهندسين العرب في الشهر القادم بالقاهرة لبحث موضوعات تخطيط القرى والمدن العربية. وبمناسبة قيام وزارة الإسكان والمرافق بوضع الخطوط الأولى لمشروعات تخطيط القرى في مصر. وبمناسبة قيام وزارة البحث العلمي بمباشرة الأبحاث الخاصة بتخطيط وبناء القرى. فأرجو أن أبعث إلى سيادتكم بهذا المقال الذي يعالج أوجه النظر المختلفة في هذا المجال حتى يتضح أمام الرأي العام مختلف المشاكل التي تواجه هذا البناء الكبير.
وتفضلوا بقبول فائق الاحترام ,,,

القاهرة 24/3/1963

 دكتور عبد الباقي إبراهيم
مدرس التخطيط بجامعة عين شمس
ومقرر لجنة أبحاث تخطيط القرى
بالمجلس الأعلى للعلوم

مصور القرية المصرية …. بين الإصلاح والتغيير

في الوقت الذي تتحدد فيه معالم الطريق أمام مختلف التخطيطات الاقتصادية أو التعليمية أو الصحية في الدولة موضحة بذلك معالم المجتمع الاشتراكي الذي بدأت تتبلور مقوماته في مختلف القطاعات. نرى انه لم يتحدد بعد وبصورة واضحة مصير القرية المصرية التي تضم بين جنباتها الغالبية العظمى من السكان ممن لم يأخذوا نصيبهم اللائق من الحياة بعد أن بقيت القرية المصرية على مر السنين كتلة متماسكة من التربة التي بنيت عليها.

وإذا كان الوقت قد حان لأن ترى القرية المصرية ضوء الحياة وإذا كان لنا أن نقطع المسافة الطويلة فيما بين المعمل الذري وبيت الفلاح في أقرب وقت ممكن فلا أقل من أن تجند الدولة كافة قطاعاتها وأجهزتها استعدادا لمعركة بناء الريف بعد معركة البناء والتنمية. وإذا كان لنا أن نوضح هنا الأوجه المختلفة لبناء الريف فلن تتضح أمامنا صورة الطريق الصحيح إلى هذا البناء إلا إذا شاركنا في وضع هذا المخطط الكبير ملايين الكادحين على الأرض الخضراء.

وتختلف عملية بناء الريف عن غيرها من عمليات البناء الكبرى في المجالات الصناعية أو الإنتاجية. فللعامل الإنساني هنا دورا كبيرا يؤديه إلى جانب العامل الاقتصادي والطبيعي في هذا البناء . وهكذا يتضح ضخامة العمل وتعقده. وإذا كان دور التخطيط القومي في هذا المجال يعالج العوامل الاقتصادية والاجتماعية على المستوى العام للدولة. فإن التخطيط الإقليمي هو السبيل لمعالجة هذه العوامل على المستوى المحلي للإقليم وبعد ذلك ينقلها إلى مجال التخطيط الطبيعي حيث يبدأ دور تخطيط القرى لوضع الأسس العملية للبناء الجديد. ولما كان لخطوات التخطيط في سبيل التنمية من أن تسبق خطوات التخطيط لتوفير الخدمات فإننا ننتظر أن يزيد نصيب بناء الريف من 85 مليون جنيها في ميزانية الخطة الخمسية 1965 – 1970 كمرحلة تمهيديه إلى ما يقرب من 350 مليون جنيه في الخطة الخمسية التالية – تزداد بعد ذلك – عندما يحين الوقت للعمل الثوري في بناء الريف على مراحل خمس خلال خمسة وعشرون عاما وذلك بعد أن تكون الدولة قد وضعت كافة الترتيبات لمقابلة هذا العمل الضخم بتوفير الخبرات العلمية والفنية ووضع المخططات المختلفة لقطاعات هذا العمل الكبير.

وينقسم العمل في بناء الريف إلى اتجاهين رئيسيين : يهدف أولهما إلى إصلاح البيئة الريفية بينما يهدف الاتجاه الثاني إلى إعادة تخطيط القرى على أسس جديدة.

وإصلاح البيئة في تخطيط القرية لا يعتمد أساسا على اقتصاديات القرية أو تكوينها الاجتماعي بل يقتصر على معالجة المشاكل المحلية في الكيان الطبيعي للقرية كما في اتساع الشوارع أو استعدالها أو مدها إلى قلب القرية لتلتحم مع ما يقابلها من طرق في سبيل تخلخل شبكة الطرق الداخلية للقرية لتكون أساسا لتوجيه عمليات البناء المستقبلة. أو في مد السكان بالمعونات الفنية في تصحيحات المساكن أو المباني الريفية الأخرى. وإصلاح البيئة الريفية ينصب كذلك على معالجة المظاهر المميزة للقرية كحل المشاكل الأساسية في تخزين الحطب الجاثم على سطح القرية وذلك إما باستعمال المكابس أو بيعها للمخازن التعاونية التي قد تتوالى استعمالها بدورها في المخابز التعاونية بالقرية. وهنا قد يظهر العامل الإنساني في التقاليد المتبعة والتي يمكن مقابلتها حينئذ بتزويد الفلاح ولو بكمية أكبر من الخبز الذي ربما ينتج عن كمية الحبوب التي يقدمها إلى هذه المخابز … وهكذا الحال بالنسبة لمعالجة غير ذلك من مشكلات.

وإصلاح البيئة من ناحية أخرى يتعرض إلى معالجة المظاهر الصحية في القرية … في نظافة طرقها وردم مستنقعاتها أو في البحث عن الوسائل الصحية للتخلص من فضلات الإنسان أو الحيوان. أو في معالجة وضع حظائر الحيوانات في المنزل الريفي أو في استعمال الفرن وصلاحية المرحاض. أو في محاربة الذباب أو البعوض أو في نظافة المساكن من الداخل أو من الخارج. أو في معالجة تثبيت التربة في الشوارع والطرقات أو في مواد البناء. ومع كل ذلك فإن مواد البناء المستعملة حاليا في بناء القرى لن تساعد عملية إصلاح البيئة على الاستمرار طويلا. كما أن عملية إصلاح البيئة من جهة أخرى لن تؤثر كثيرا على الأوضاع الحالية للقرية أو تتأثر بالأوضاع الاقتصادية أو الاجتماعية بها. ومن هنا كان المنطق الثوري في التغيير لا في الإصلاح. الأمر الذي ينقل عملية بناء الريف إلى حيز آخر من التفكير في الهدف الثاني إلى إعادة تخطيط القرى على أسس جديدة.
وتختلف الاتجاهات مرة أخرى في طرق إعادة التخطيط بالنسبة للقرية المصرية سواء أكان ذلك على أساس منطقة الامتداد الجديدة التي تلتف حولها القرية في المستقبل. أو على أساس إعادة تخطيط القرية على موقعها الحالي. فالاتجاه الأول للتخطيط لا يلمس التكوين الطبيعي للقرية الحالية من قريب أو من بعيد إذ يعتبرها خلية فاسدة. وهو في نفس الوقت يستقطع مساحات كبيرة من الأرض الزراعية تقدر بحوالي 40 ألف فدانا من الأرض الخصبة وقد ثبت بالتجربة عدم فعالية هذا الاتجاه إذ ينفصل التخطيط الحديث فيه عن الكيان الاجتماعي للقرية الحالية.

أما الاتجاه الثاني فهو يرسم المخطط العام الذي يسير عليه تخطيط القرية في فترة معلومة من الزمن. وفي نفس الوقت يحدد المراحل التنفيذية لهذا المخطط سواء أكان ذلك عن طريق إزالة مناطق مختلفة من القرية لإعادة بنائها من جديد أو بإحاطتها بسياج من البناء الحديث تنتقل إلى أجزاء القرية بالتدريج. وإذا كان هذا الاتجاه يعتمد على التكوين الاجتماعي للقرية كأساس للتخطيط الطبيعي إلا أنه في نفس الوقت لا يلمس الكيان الذي بنيت عليه اقتصاديات القرية في مقدار ضغط السكان على الأرض المنزرعة، وموازنة كمية الأيدي العاملة بها بقيمة الإنتاج الذي يحفظ لها المستوى المقبول من المعيشة. وهكذا تتغير النظرة مرة أخرى إلى تخطيط القرية بحيث يبنى على أساس اقتصادي واضح.

لقد اتبعت الدولة في سياستها الزراعية مبدأ الدورات الزراعية وهي في سبيل تطبيق مبدأ تجميع الملكيات المتناثرة للقضاء على أضرار تفتت الملكيات من ثم زيادة الإنتاج الزراعي. وهي في نفس الوقت تفتح آفاقا جديدة للعمل أمام الأيدي العاملة الزائدة في الزراعة في مناطق الاستصلاح الجديدة في الواديين القديم والجديد. وهكذا أصبحت القرية المصرية بعد ذلك وحدة اقتصادية متكاملة. وعلى ضوء هذه السياسة الاقتصادية للريف تتضح أمامنا خطة العمل الصحيحة في سبيل إعادة تخطيط القرى إذ يتبين لنا أثر الكيان الاقتصادي الجديد للقرية على تكوينها الاجتماعي في القطاعات المختلفة للعمل الزراعي، ومن ثم يتحدد الحد الأدنى لمستلزمات المعيشة لهذه القطاعات والتي بدورها سوف ترسم لنا أحجام الوحدات السكنية اللازمة لكل منها. وعلى هذا الأساس تبنى سياسة الإسكان الجديدة في الريف.

وعند هذا الحد قد يأخذ التخطيط الإقليمي للريف اتجاهين متضادين أولهما في خلخلة التجمعات السكنية الكبيرة وبناء أخرى صغيرة بحيث تتسع كل من هذه التجمعات السكنية في الوسط بالنسبة للأرض الزراعية التي تخدمها تبعا للنظام الزراعي المعمول به سواء أكان تعاونيا حيث يساهم فيه أصحاب الملكيات الصغيرة. أو كان يعتمد على الملكيات الكبيرة التي يعمل بها العمال الزراعيون أو على الملكيات الخاصة التي تتوفر لها الكفاية الإنتاجية. وهنا تظهر وجوه أخرى من المقارنة بين تجميع الخدمات بالنسبة للتجمعات السكنية الصغيرة وبين طول المرحلة إلى العمل أو بين علاقة الفلاح بأرضه من جهة وبمراكز تجمع الخدمات من جهة أخرى الأمر الذي يعالجه الاتجاه الثاني في محاولة تجميع التجمعات السكنية الصغيرة في تجمعات سكنية كبيرة حيث يمكن أن تتركز بها الخدمات المختلفة مما ينتج عنه نوع من المدن القروية الكبيرة التي قد تستوعب كل منها حوالي 15 ألف نسمة. وتتعرض تبعاً لذلك العزب أو القرى الصغيرة والتي يساعد الاتجاه الأول في التخطيط على خلقها.
وفى كلا الحالتين أو غيرهما لا تزال مشكلة الإسكان في الريف يتناوبها التفاضل بالنسبة للاستمرار في استعمال الطين في بناء المسكن الريفي كما تدخل من قبل في بناء التكوين البيولوجي لجسم الفلاح ورسم البيئة التقليدية للقرية المصرية. أو في استعمال مادة جديدة للبناء لتكون حدا فاصلا بين عاملين مختلفين في حياة القرية المصرية. والإمكانيات المحلية في التصنيع أو التوزيع هي وحدها التي تحدد مدى استعمال هذه المادة الجديدة سواء أكانت من الطوب الأحمر أو الوحدات سابقة التجهيز أو غيرها. ذلك بالإضافة إلى عناصر الإنشاء المختلفة من أبواب ونوافذ وغيرها من التجهيزات المعمارية التي تتطلب من الآن أبحاثا نوعية تحدد مدى إمكانية استعمالها.ومع كل ما سبق فلن تقوم لهذه الاتجاهات أو لغيرها في بناء القرى قائمة إلا إذا صادفت وعيا صادقا وإدراكا كاملا من أصحاب الحق الأول في هذا البناء الكبير من الفلاحين. وليس فقط حتى يساهموا في بناء قراهم بأي شكل من الأشكال حسبما تتمخض عنه الأبحاث المختلفة. ولكن حتى تتبلور لديهم طرق المعيشة التي تساعد على المحافظة على هذا البناء الجديد. وكذلك إنماء المسؤولية إزاء الملكية العامة شأنهم في ذلك شأن سكان المناطق السكنية الجديدة في المدن. ومن هنا يبدأ دور أجهزة التوعية والإعلام في مختلف المجالات بمعاونة التنظيمات المختلفة للاتحاد الاشتراكي حتى يمكن لنا أن نبدأ في تأهيل السكان الجدد وتهيئتهم للبناء الجديد. وصدق قوله تعالى ” إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم “.

word
pdf