معالجة المناطق العشوائية

معالجة المناطق العشوائية2019-12-02T12:53:21+00:00

معالجة المناطق العشوائية

فى إطار الاستراتيجية القومية للتنمية والتعمير

جريدة الوفد  4/7/1993

 

 

رصدت الدولة 3.8 مليار جنيه – كما تقول الصحف –  لتطوير المناطق العشوائية فى عشر محافظات وقد تم إعتماد 133 مليون جنيه فى موازنة هذا العام و 251 مليون جنيه فى خطة 93/1994 م ، وقد جاء ذلك فى إجتماع مجلس المحافظين برئاسة رئيس الوزراء ، وعلى الجانب الاّخر يؤكد السيد الوزير حسب الله الكفراوى وزير التعمير – كما تقول الصحف – على أن الوزارة بصدد خطط تنمية بعيدة المدى لأقليم القاهرة الكبرى بهدف تنظيم التجمعات السكانية بالإقليم وتخفيف الضغط السكانى وتطوير المناطق المحرومة ومدها بالخدمات والمرافق – وذكرت نفس المصادر أن نسبة الوحدات السكنية التى أنشئت بطريقة غير رسمية أو عشوائية وبالمخالفة لقوانين البناء والحفاظ على الأراضى الزراعية قد بلغت 84% من جملة ماتم إنشاؤه فى العاصمة وحدها ، هذا فى الوقت الذى تشير فيه الصحف إلى مناقشة لجنة الإقتراحات والشكاوى بمجلس الشعب للإقتراح المقدم إليها بشأن تنظيم العلاقة بين المالك والمستأجر وذلك بزيادة إيجار المبانى التى أقيمت منذ أكثر من 50 عاماً بنسبة 25% ومنذ أكثر من 40 عاماً بنسبة 20% وأكثر من 30 عاماً بنسبة 15% وأكثر من 20 عاماً بنسبة 10% وأكثر من 10 سنوات بنسبة 5% وأقل من 10 سنوات بنسبة 2.5 % وما إلى ذلك من إستكمالات لهذا الإقتراح ، ويظهر أن هذه التوجهات قد تجمعت وظهرت فجأة على السطح فى أعقاب ظاهرة الإرهاب مع أن الطبول قد دقت بخصوصها للتحذير من ظاهرة  تزايد المناطق العشوائية على مدى الثلاثين عاما الماضية دون سميع أو بصير. الأمر الذى يؤكد عدم القدرة على التبصر بالعواقب وأن القرار يتخذ عادة كرد فعل مباشر للأحداث فور حدوثها كما حدث فى أعقاب زلزال 1992 حيث تحركت جميع الأجهزة تحاول تفادى أخطاء الماضى فى الممارسة فى الاشراف والتنفيذ الى أن هدأت العاصفة وتوقفت التوابع وتوقفت معها ردود الأفعال … وعادت الأمور الى ما قبل الزلزال . ويظهر أن الأمور تتحرك تبعا لمتطلبات الحاضر دون اعتبار لتقلبات المستقبل ومتطلباته كما يظهر أننا لم نتعلم من تجارب الماضى لنحدد خطواتنا للمستقبل ولكننا نكرر نفس التجارب لمواجهة نفس المشاكل ونعالجها بنفس الأسلوب كرد فعل مباشر للأحداث فور حدوثها .

وعودة الى الماضى لنرى الحقيقة .. فى بداية الستينات انطلقت الدعوة الى ضرورة مد الريف بالخدمات والمرافق لصد الهجرة عن القاهرة فتسابقت المحليات الى بناء الجامعات فى قلب الأراضى الزراعية تستقطع الخير من الأرض لتقيم عليها مراكز قوية تجذب اليها العديد من الأنشطة الاسكانية والخدمية التى تستقطع بالتالى مزيدا من الخير من الأرض الزراعية حتى كادت المدن تتصل بالقرى مكونة بذلك شبكات عمرانية متلاحمة تضم مزيدا من البشر الذين يسعون للمزيد من المرافق ، وهكذا تتفاقم المشاكل فى حلقات متتالية تفجر معها بوادر الخطر الاجتماعى والصحى والأمنى وكان نهايتها العنف والتطرف فى كل الاتجاهات. وعندما عرضت البدائل التخطيطية أمام المسئولين فى ذلك الوقت لبناء هذه الجامعات فى التجمعات السكنية الصغيرة على الأراضى الصحراوية عند أطراف الرقعة الزراعية اعتبرت هذه البدائل تخلفا فكريا وسياسيا وحضاريا . والآن وبعد أكثر من ثلاثين عاما تتكرر نفس الأساليب ونفس التوجهات دون فائدة من دروس الماضى. وتزدحم المدن والقرى وتستمر فى نموها العشوائى تحت نظر وسمع كل المسئولين الى أن جاء الزلزال تحذيرا ونذيرا وهدأت التوابع وعادت الأمور الى الاسترخاء حتى تفجرت ظاهرة الارهاب لتحرك النفوس لمواجهة هذا الخطر بمد المناطق العشوائية بالخدمات والمرافق العامة تسليما بها كأمر واقع واعترافا رسميا بوجودها … كما كان فى الستينات  ثم فى السبعينات … وهكذا … وعندما تعجز الدولة عن توفير كل الخدمات والمرافق تستمر المناطق العشوائية فى الامتداد والتوسع ثم تتفاقم الأمور مرة أخرى دون البحث عن الأسلوب الأنسب لايقاف هذه الظاهرة الخطيرة وتوجيه الفائض السكانى والعمرانى بعيدا عن الوادى الضيق .. واذا كانت الدولة تحاول تحقيق ذلك من خلال بناء المزيد من التجمعات السكنية الجديدة … الا أن الوضع الراهن لعلاقة المالك بالمستأجر يعمل ضد هذا التيار باعتباره من عوامل تثبيت السكان فى أماكنهم الحالية يتزايدون ويتوالدون ويولدون معهم المشاكل والمخاطر.

واذا كان المجتمع قد أثبت قدرته على البناء لنفسه وبنفسه بهذه المناطق العشوائية فلماذا لا توظف هذه القدرة وتنظم آلياتها فى بناء المجتمعات العمرانية الجديدة  وبعيدا عن الأرض الزراعية على محاور التنمية الجديدة… ليس فقط فى المدن الجديدة ولكن أيضا فى توابعها العمرانية من القرى الانتاجية بعيدا عن المناطق العشوائية الحالية بعد بتر الأجزاء المريضة منها وذلك فى اطار استراتيجية قومية للتنمية والتعمير تعمل على توجيه هذه الاستثمارات وهذه المليارات الى حيث ما يجب أن يتواجد الناس وليس الى حيث يتواجدون كما يرى البعض . وهكذا يظهر التضارب بين الفكر المستقبلى الذى يدعو الى الانتشار والفكر السياسى الذى يسعى الى تكريس الوضع القائم ومد كل المدن والقرى القائمة بالاسكان والمرافق والخدمات دون النظر فى المستقبليات . واذا كان مد القرى بالكهرباء قد عاد على مجتمعاتها بالعديد من العواقب الاجتماعية والانتاجية بالرغم من مظهرها الحضارى … فإن مد القرى بالمياه العذبة قد عاد أيضا على نفس القرى بعواقب وخيمة فى غياب الصرف الصحى ، والذى أصبح متطلبا طبيعيا للوضع الحالى … والصرف الصحى بالتالى سوف يزيل معه ما تبقى من الأرض الخضراء ويزيد من تكدس السكان فى هذه القرى كما زاد من تكدسهم فى المدن القائمة … واذا كان مد شبكات الطرق بين المدن والقرى القائمة فى المناطق الزراعية قد ربط بينها كظاهرة حضارية الا أنها أفرزت العديد من العواقب فأصبحت الطرق الزراعية طرقا صناعية وجذبت اليها مزيدا من العمران والتعمير على حساب الأرض الزراعية . وهكذا يستمر التناقض بين الفكر التخطيطى الذى يرى المستقبل القريب والمستقبل البعيد معا والفكر السياسى الذى يسعى الى إرضاء المجتمع فى القريب العاجل دون النظر الى العواقب الآجلة التى قد تصل بالمجتمع فى المستقبل الى ضائقة اقتصادية واجتماعية وأمنية لا يمكن تحملها.

انه لا يكفى أن تتحدد أهداف الاستراتيجية القومية للتنمية والتعمير فى صورة توجيهات عامة ولكن لابد وأن تنقل الى برامج تنفيذية تلتزم بها كافة القطاعات فى صورة متكاملة وليس فى كيانات منفصلة بأمل التنسيق بينها . وهنا يفضل الاسلوب التكاملى عن الأسلوب التنسيقى فى إدارة عمليات التنمية القومية إقتصاديا وإجتماعيا وعمرانيا دون فاصل بينها وحتى لا تصبح الوزارات أو الهيئات جزرا منعزلة تعمل كل منها بعيدة عن الآخرى وحتى لا تتضارب الاختصاصات والقرارات .

واذا كانت المحليات تسعى الى بناء الوحدات السكنية الجديدة لاستيعاب العائلات الذين سوف تزال مساكنهم فى المناطق العشوائية ، فان هذا التوجه لا بد وأن يجد مكانه فى التجمعات السكنية الجديدة حول القاهرة وهو الهدف الذى أقيمت من أجله هذه التجمعات . ويعنى ذلك أن تفريغ القاهرة من الفائض السكانى فى المناطق المتخلفة  لابد وأن يتم فى اطار منهجى يحقق أهداف الاستراتيجية القومية وذلك فى حركة مستمرة تعمل على دفع السكان من الداخل وتوطينهم فى الخارج بعيدا عن الأرض الزراعية ، بحيث يتم ذلك بواسطة أجهزة إرسال فى الداخل تعمل متناغمة مع أجهزة الاستقبال فى الخارج ، مع وقف أى مشروعات جديدة تقام فى القاهرة تساعد على جذب مزيد من السكان اليها مستقبلا وإن كانت تحل بعض مشاكلها الداخلية على المدى القصير . وهنا تقاس مثل هذه المشروعات على أساس جدواها الاستيطانية التى تحقق الاستراتيجية القومية أكثر منها على أساس جدواها الاقتصادية المباشرة. واذا كان للقاهرة امتداداتها على الأراضى الصحراوية كما لغيرها من بعض المدن الا أن المدن والقرى فى المناطق الزراعية  سوف تبقى لب المشكلة الاستيطانية حيث لا مفر من استقطاع المزيد من الأراضى الخصبة يوميا الى أن يغطى العمران أرض الدلتا بأكملها ، الأمر الذى ربما يعرض الأجيال القادمة الى شبح مجاعة لا يستطيع الصمود أمامها ، ومع ذلك لا تزال المحليات فى المناطق الزراعية تطالب بمزيد من الاسكان والكليات والخدمات والطرق والصرف الصحى والكهرباء لتستقطب مزيدا من السكان وتستقطع مزيدا من الأرض الزراعية. إن الحديث عن تعمير المناطق الصحراوية خارج الوادى الضيق لا يزال يتم بأسلوب الدعوات والمشجعات دون اجراءات أو تشريعات أو توجيه للاستثمارات . فالقاهرة التى تستوعب 20% من سكان الدولة تستأثر بحوالى 40% من استثماراتها … فليس من العدل أن يدفع المواطن فى مدن وقرى الريف نفس القدر الذى يدفعه مواطن القاهرة من مليارات ليتمتع الأخير بمشروعات الصرف الصحى ومترو الأنفاق وغير ذلك من الخدمات وفرص العمل . كما انه ليس من العدل أن يتمتع مواطن التجمعات  القديمة بالايجار الشديد الانخفاض بينما يضطر مواطن المجتمعات الجديدة الى دفع أضعاف أضعاف زميله فى التجمعات القديمة ولا يتمتع بما يتمتع به من خدمات وفرص للعمل الاضافى. كما يتساوى مواطن التجمعات الجديدة ومواطن المجتمعات القديمة بكل الحقوق والواجبات بالنسبة للمرتبات أو الضرائب وأسعار الخدمات وان كانت تكاليف المعيشة فى المدن الجديدة تزيد عنها فى المدن القائمة ، ويعنى ذلك أن أية عوامل جذب تتوفر فى التجمعات الجديدة يزول أثرها أمام قوة الجذب الشديدة للمدن القديمة، الأمر الذى لا يساعد على تحقيق الاستراتيجية القومية للتنمية والتعمير ، وبالتالى تستمر المدن القائمة فى التضخم العشوائى غير عابئة باللوائح والقوانين التى تحاول أن تمنعها من استقطاع الأراضى الزراعية والصورة واضحة جلية لما وصلت اليه عواصم ومدن وقرى المحافظات فى الدلتا والصعيد.

ان ظهور المناطق العشوائية ونموها على مدى الثلاثين عاما الماضية تم تحت سمع وبصر كل المسئولين وفى غياب اللوائح والقوانين والآليات التى تعمل على تحقيق الاستراتيجية القومية للتنمية العمرانية الى أن جاء الزلزال ليهز النفوس لفترة قصيرة من الزمان استرخت بعدها العقول والأبدان الى أن أيقظها العنف والارهاب وكان رد الفعل المباشر لهذه الظاهرة إعادة الأساليب السابقة مرة أخرى دون الاستفادة من تجارب الماضى القريب. هنا لا بد من وقفة صادقة للمراجعة والتقييم حتى تستقيم الأمور.

ويدفعنا هذا الى البحث عن الآليات التى يمكنها تنفيذ الاستراتيجية القومية للتنمية والتعمير ، هى فى وزارة التخطيط كما يتبادر الى الذهن ، وان كان ينقصها البعد المكانى الذى تتعامل معه وزارة التعمير المعنية بالمرافق والاسكان . وهل هو وزارة الحكم المحلى التى تتولى التخطيط لمشروعات التنمية المحلية ومنها تطوير المناطق العشوائية فى المدن والقرى … ولكل من هذه الجهات قوانينها ولوائحها التنفيذية فللاسكان قوانينه ، وللتخطيط العمرانى قانونه ، وللزراعة قوانينها ، وللمحليات اختصاصاتها ، وللآثار تشريعاتها ، وللقوات المسلحة متطلباتها واستراتيجياتها وأهدافها … وفى خلال هذه القوانين  المتشابكة تجد المناطق العشوائية طريقها سهلا يمتد نهارا جهارا أمام عجز الأجهزة بكل قوانينها ولوائحها عن مواجهة هذا الخطر الفادح الذى يلتف كأحزمة متعرجة حول المدن والقرى. وهكذا يتحتم البحث عن الأسلوب الأمثل لتنظيم وادارة الاستراتيجية القومية للتنمية والتعمير بتوفير الكوادر القادرة الفاهمة المدربة ، فأى استثمار فى تهيئة هذه الكوادر هو استثمار له مردوده الاقتصادى فى تنمية المناطق الجديدة حتى تتقلص ظاهرة المناطق العشوائية التى سوف تتحول فراغاتها بعد عمليات الازالة لمناطق خضراء تتنفس فيها الجماهير المكدسة فى المدن.

واذا كانت الدولة تحرص كل الحرص على ازدهار صناعة السياحة بكل الوسائل فإن أخشى ما نخشاه فى هذا المجال أن تمتد المناطق لتحيط بالقرى والمناطق السياحية كما بدأت بدايتها تظهر فى الغردقة وشرم الشيخ ومدن القناة وعلى طريق الساحل الشمالى وغيرها من المناطق الأمرالذى يستدعى المبادرة بوضع الأسس والمعايير والقواعد واللوائح والأجهزة التى يمكن من خلالها التصدى لأى بوادر عشوائية ، فالوقاية خير من العلاج ، وبهذا المفهوم يمكن الوقاية من العشوائية العمرانية مستقبلا بالتواكب والتكامل مع علاج الظاهرة القائمة فى عملية واحدة وفى اطار الاستراتيجية القومية للتنمية والتعمير . وبهذا المفهوم يمكن اعادة النظر فى أولويات التنمية القومية بالاسلوب العلمى والفكر المستقبلى بعيدا عن ردود الأفعال السريعة المتولدة عن ظواهر وقتية وكوارث طبيعية مع اعطائها كل الاعتبار والاستعداد لها بمفهوم توقع ما لا يمكن توقعه. واذا كانت هناك وقفة لم تطل طويلا فى أعقاب زلزال 1992 ، فلا بد من وقفة أطول مع توظيف كل الامكانيات التى تستطيع أن تحول الهدف الى حقيقة واقعة.

واذا كانت مصر تكاد تعبر عنق الزجاجة فى طريق الاصلاح الاقتصادى فإن أمامها عنق زجاجة آخر فى طريق تنفيذ الاستراتيجية القومية للتنمية والتعمير حفاظا على الانجازات التى تمت فى طريق الاصلاح الاقتصادى وحتى لا تضيع فى المستقبل القريب نتيجة للضغط السكانى والعمرانى المتزايد مع توابعه المتلاحقة والمتمثلة فى المناطق العشوائية. وهكذا تعالج مشاكل المناطق العشوائية فى اطار الاستراتيجية القومية للتنمية والتعمير.

word
pdf