مفردات التشكيل المعمارى الإسلامى

مفردات التشكيل المعمارى الإسلامى2019-11-20T12:39:46+00:00

مفردات التشكيل المعمارى الإسلامى

د / عبد الباقي إبراهيم

كبير خبراء الأمم المتحدة للتخطيط العمراني سابقا

 

تختلف مفردات التشكيل المعمارى الإسلامى وأسسه بإختلاف المكان والزمان . وتظهر الملامح التقليدية للعمارة الإسلامية فيما أفرزته فترات الحكم الإسلامى من تشكيلات وعناصر معمارية مثل العقود والأبنية والقباب والمشربيات وملاقف الهواء وزخارف هندسية ونباتية وما عبرت عنه مواد البناء المحلية من تشكيلات فنية خارجية وداخلية . ومع إختلاف حرفية البناء على مر العصور ومع التأثير المتبادل بين حضارات العالم الإسلامى ومع العصور الحضارية لكل مكان . فقد نتج عن كل ذلك حصيلة إبداعية زاخرة من العمارة الاسلامية المعبرة عن المكان والزمان .

وإذا كان المضمون الإسلامى هو الموحد لهذه العمارة فى مواطنها المختلفة فإن إختلافها التشكيلى يرتبط بمنبع هذه العمارة بيئيا وحضاريا … ومع التحولات الإقتصادية والإجتماعية والسياسية التى شهدتها أقطار العالم الإسلامى إنحرفت بعض المضامين عن مساراتها الإسلامية حتى أصبحت العمارة فى بعض العصور تنبع عن رغبة خاصة فى التظاهر بعظمة الحكم الأمر الذى أخرج بعض المضامين الإسلامية فى التصميم عن مسارها الإسلامى الصحيح . وخرج المسجد من النسيج العمرانى للمدينة الإسلامية ليحتل مكانا بارزا بصريا على قمم التلال أو على الميادين العامة أو عند تقاطع الطرق . وكما خرج المسجد عن النسيج العمرانى خرج عن النسيج الاجتماعى للمدينة وإنحسرت وظيفته فى أداء الصلاة وفقد وظيفته الاجتماعية والثقافية والحضارية . وبالمثل إنحرفت العمارة السكنية عن خصوصيتها الإجتماعية . وإمتد التفاخر والتظاهر والخيلاء إلى العمارة الرسمية وهكذا إختل التوازن الإقتصادى والإجتماعى فى العمارة بعيدا عن منهج الوسطية الذى كان يحكم العمارة والعمران فى العصور الإسلامية الأخرى . وهكذا ترتبط مفردات التشكيل المعمارى الإسلامى بالمنهج الإسلامى أكثر ما ترتبط بالشكل الظاهرى . وإن كانت القيم التشكيلية فى العمارة الإسلامية هى تعبير عن التقدم العلمى والفنى والثقافى للمجتمع ولكن بالقدر الذى تحدده القيم الإسلامية فى الوسطية دون إسراف أو تقتير . وللفرد ماشاء فى الداخل أما فى الخارج فهناك محددات إجتماعية لابد وأن ترضى عليها جماعة من المسلمين الأمر الذى يؤكد التوازن بين الظاهر والباطن والداخل والخارج .
جاءت مفردات العمارة الاسلامية التقليدية تعبيرا طبيعيا عن اسلوب التعامل مع الخصائص المناخية للمكان كما أنها جاءت أيضا معبرة عن اسلوب البناء المتوافق مع الامكانيات الحرفية ومواد البناء المتاحة فى نفس المكان مع الارتباط بالقيم الثقافية والقيم الاجتماعية الاسلامية السائدة فى ذلك الوقت. وإذا كانت المفردات المعمارية الاسلامية المتعارف عليها قد ظهرت فى فترة محددة من التاريخ الاسلامى الممتد الى ماشاء الله وفى منطقة محددة من العالم الاسلامى الممتد الى اطراف الارض , فإن المتغيرات فى أساليب البناء المتوافق مع الامكانيات المعاصرة ومواد البناء الجديدة والمتاحة فى نفس المكان مع الارتباط بالثوابت الثقافية والاجتماعية للدين الاسلامى سوف تفرز للعمارة المعاصرة مفردات جديدة تعبر عن المعاصرة المتمثلة فى مواد وأساليب البناء الجديدة والأصالة المتمثلة فى القيم التراثية المتوارثة والقيم الاجتماعية للمجتمع الاسلامى . وإذا كنا نعرض هنا لمفردات التشكيل المعمارى للعمارة الاسلامية التراثية فان ذلك لا يعنى بالضرورة اعتبارها من مكملات العمارة الاسلامية المعاصرة بقدر ما هى تعبير عن المعطيات الحضارية فى مكان محدد ولفترة زمنية محددة التزم فيها المجتمع بقيمه الاسلامية الصحيحة . من هنا فان تناولنا لموضوع العمارة هنا لا يأتى من مفهوم العمارة الاسلامية بتعريفها التقليدى الذى قدمه المستشرقون وأتباعهم من الباحثين والدارسين ولكن من منطلق مفهوم العمارة فى الإسلام . وهناك فرق شاسع للتناول فى الحالتين . وإذا كان المجتمع الاسلامى المعاصر قد فقد كثيرا من خصائصه الثقافية والاجتماعية بسبب الهجمة الشرسة للحضارة الغربية , فلا ننسى أن العمارة الاسلامية الذاتية قد تأثرت بحضارات مختلفة فى زمنها وهى لم تنبع خالصة من المكان المحدد والفترة الزمنية المحددة بل جاءت نتيجة للتفاعلات الثقافية بين الحضارات فى هذه الأزمان البعيدة . فمفردات العمارة الاسلامية التركية انتشرت فى بلدان العالم العربى مع الفتح العثمانى لها . وها هى عمارة مسجد محمد على بالقلعة ومآذن مسجد سيدنا الحسين بالأزهر تعبر عن هذا التأثير الثقافى للحضارة التركية فى تلك الأزمنة . وها هى مفردات مسجد أحمد بن طولون بالقاهرة تعبر عن التأثير الثقافى والحرفى لعمارة العراق شرقا .. كما أن العمارة فى العراق قد تأثرت بالتالى بالعمارة الفارسية والهندية شرقا .. وعلى الجانب الغربى للعالم الإسلامى نرى مدى التأثير المتبادل بين الحضارات فى شمال أفريقيا والأندلس بأسبانيا . وهكذا الأمر الذى يؤكد الاستمرارية الحضارية للاسلام وانعكاسها على المفردات المعمارية على مدى العصور والأزمان مع اختلاف المكان بخصائصه الثقافية والطبيعية وثبات مضامينه الاسلامية بنسب متفاوته بين دولة وأخرى .

ان دراسة المفردات التشكيلية للعمارة الاسلامية يأتى من منطلق التعرف على التراث وتحليله واقتباس الثوابت منه والتحرك به مع الزمن والمتغيرات . لقد أفرزت العمارة الإسلامية فى القاهرة مفردات معمارية ارتبطت بالتراث الحضارى للمكان وبحرفة البناء بالحجر والخرط فى الخشب وهو ما ظهر فى تشكيلات الحوائط الخارجية الداخلية وفى المآذن والعقود والقباب فى عمارة العصور الاسلامية التى مرت بالقاهرة , كما ظهر فى اعمال النجارة فى المشربيات والابواب الداخلية والخارجية , فقد جاءت هذه المفردات معبرة عن الخصائص الحضارية للمكان الذى نبعت منه . وإذا انتقلت بنصوصها الى أماكن أخرى مثل جدة فى الحجاز أو دبى فى الامارات أو دمشق فى سوريا أو الرباط فى المغرب فى الماضى أو الحاضر فقدت ذاتها وظهرت غربية عن المكان وعن الزمان أيضا .. وهكذا مفردات العمارة المغربية تظهر غربية عن المكان والزمان إذا ماانتقلت بنصوصها خارج المنطقة التى نبعت منها اللهم الا بهدف التجميل لبعض الفراغات الداخلية .. كما أن القباب والأقبية التى أفرزتها العمارة المحلية فى جنوب الوادى فى صعيد مصر تبدو غربية عن المكان والزمان اذا ما زرعت فى الكويت التى لها مفرداتها المعمارية التراثية النابعة من حضارة المكان والزمان .

ولما كانت العمارة هى افراز حضارى للمجتمع فى مكان ما وزمان ما .. بالتالى فان مفردات التشكيل المعمارى تخضع لهذا المبدأ . فقد امتزجت حرفة البناء بالصانع والبناء وصاحب المبنى وتفاعلت هذه العناصر الثلاثة معا لتفرز هذه الابداعات الفنية من المفردات المعمارية , الأمر الذى لم يعد قائما بعد أن انفرط عقد الثقافة الاسلامية العربية أمام الهجمة الثقافية والاقتصادية الواردة من الغرب فقد أصبح من المتعذر جمع العناصر الثلاثة المتمثلة فى المعمارى المصمم والمقاول المنفذ وصاحب المبنى على وحدة فكرية مشتركة حتى أصبحت كتب العمارة الغربية المصورة مثل كتالوجات موضة الأزياء الباريسية تتناولها الأيدى العربية للإختيار والانتقاء بعيدا عن الابداعات الفنية التى تركتها الحضارة الاسلامية على مر العصور السابقة فى الأزياء أو فى النسيج كما العمارة ومفرداتها التشكيلية …. وأصبحت الدعوة الى الاقتباس من المفردات التشكيلية التراثية مجردة عن المضمون بقدر ماهى محاولة للتمسح بالماضى أو التظاهر بالاصالة مع ان بعض أصحاب هذه الدعوة لا يزالوا يلبسون أربطة العنق التى لفها الغربيون حول أعناقهم دون منطق أو مبرر .. ودخلت البدلة المجتمع العربى فى عهد اسماعيل باشا فى مصر تقليدا للغرب وتمسحا به مع أنها لا تناسب حركة الانسان العربى فى مجلسه وفى حركته .. فى الوضوء .. وفى الصلاة . وفى المناخ الذى يعيش فيه .. والعمارة كغيرها من المكونات الحضارية لا تنفصل عن غيرها من المكونات المتمثلة فى الملبس واللغة ومختلف الفنون .. وعندما يستسلم الانسان العربى لهذه الأوضاع لا يرى أمامه الا الدعوة العالمية مخرجا له دون الجهاد فى سبيل اثراء خصائص الحضارة الاسلامية العربية.. هذا مع العلم بأن النظرية المعمارية الاسلامية هى نظرية عالمية لكل زمان ومكان أكثر منها نظرية محلية نبعت فى مكان معين وزمان محدد . هى نظرية تعمل على التعامل مع المتغيرات لكل زمان ومكان كما تعمل على التعامل فى نفس الوقت مع الثوابت الفكرية والاجتماعية والاقتصادية للمجتمع الاسلامى الذى لا يتغير بتغير المكان والزمان , هى نظرية تعمل على احترام القيم الاجتماعية فى التشكيلات المعمارية الخارجية واحترام القيم الفردية فى التشكيلات المعمارية الداخلية , هى نظرية توازن بين القيم الاجتماعية الثابتة والمتطلبات الفردية التى تختلف بإختلاف القدرات المادية والثقافية .. هى تعبير صحيح لمنهج الوسطية .. من هذا المنطلق فان ثبات المفردات التشكيلية للعمارة من الخارج ترتضيه جماعة المسلمين .. ليس بالضرورة أن تثبت فى العمارة الداخلية وهى هنا تماثل الأزياء الموحدة للمجتمعات فى شبه الجزيرة العربية أو فى باكستان أو فى نيجيريا أو فى المغرب العربى باعتبار الملبس بمثابة العمارة المباشرة للانسان وان اختلفت فى الملمس أو الخامة فهى واحدة فى الشكل والمضمون .

وتختلف المفردات التشكيلية فى العمارة الاسلامية من مفردات تشكيلية تؤدى وظيفة عملية مثل المشربية أو العقد أو القبو أو القبة .. أو الأثاث الداخلى أو الأبواب والنوافذ أو السبيل والنافورة أو المقاعد الثابته أو الأسقف المائلة فى المناطق الممطرة أو فى الملاقف العلوية المربعة فى المناطق الجافة أو الملاقف العلوية المربعة فى المناطق الرطبة … ومفردات تشكيلية تؤدى وظيفة تجميلية مثل التشكيلات الهندسية أو الزخرفية أو المقرنصات أو أنواع التكسيات الخارجية والداخلية من فسيفساء أو قيشانى ومواد فخارية ملونة أو أخشاب , وهى فى وظيفتها التجميلية تثرى الوظيفة العملية وتزيد من قيمتها الابداعية والفنية , وهكذا تجمع المفردات التشكيلية بين الوظيفة والفن فى صيغة متكاملة كما تجمع النهج الاسلامى بين الماديات والمعنويات فى صيغة متوازنة وبهذا المفهوم تصبح المفردات التشكيلية فى عمارة المسلمين على مدى الزمان وبعد المكان صيغة متكاملة تجمع الوظيفة والفن معا كتعبير للاصالة التى تمتد للمعاصرة .
وهكذا يعالج موضوع المفردات التشكيلية فى العمارة الاسلامية بالمنهج البحثى الذى يجمع الأصالة بالمعاصرة المرتبط بالقيم الاسلامية أكثر منها عرضا أثريا لتطوير هذه المفردات على مر العصور وفى مختلف

الامصار الاسلامية . وهكذا يعالج موضوع المفردات التشكيلية فى العمارة الاسلامية فى اطار المنظور الاسلامى للنظرية المعمارية .

word
pdf