من يـرسم خريطـة مـصـر ؟

من يـرسم خريطـة مـصـر ؟2019-12-02T12:04:43+00:00

من يـرسم خريطـة مـصـر ؟

د / عبد الباقي إبراهيم

 كبير خبراء الأمم المتحدة للتخطيط العمراني سابقا

 

الأهرام الاقتصادى 1993

 

كثيراً ماترددت الدعوة إلى ضرورة رسم خريطة لمصر تحدد مستقبلها السكانى الانمائى وكثيراً ما حاول بعض المتطوعين رسم الملامح العامة لهذه الخريطة من وجهات نظر مختلفة عسى أن تلفت نظر المسئولين اليها .. ومع كل هذه الدعوات وهذه المحاولات لم تجد خريطة مصر المستقبل من يرسمها .. فالمسئولية هنا قومية لاتقوى عليها جهة واحدة . واذا كانت وزارة التخطيط قد حاولت أن تقسم مصر إلى ثمانية أقاليم تخطيطية الا أن هذه المحاولة لم ترى النور منذ بدايتها .. وعلى الجانب الآخر همت وزارة التعمير بتقسيم مصر إلى أقاليم عمرانية لا تتطابق حدودها مع حدود الأقاليم التخطيطية التى رسمتها وزارة التخطيط ، وعندما تداخلت الاختصاصات وفقدت أجهزة الدولة القدرة على التنسيق فيما بينها .. اقتطعت وزارة السياحة أقاليم خاصة بها تباشر فيها أساليب التنمية السياحية . وعندما اصطدمت مصالحها مع مصالح وزارة البترول اتفقت على فك الإرتباط معها من خلال معاهدة سلام . ومع تفاقم هذه الظاهرة جاء دور بعض المحافظات تحاول أن تمد حدود كردونات مدنها وظهر الخلاف بين بعضهم وطالبوا برسم الحدود فيما بينهم .. وهكذا تتأرجح خريطة مصر وتهتز دون  نظرة شمولية وقرارات فوقية تحكم هذه العملية ، هذا فى الوقت الذى ترسم فيه وزارة الاعلام خريطة لمحطاتها التلفزيونية ووزارة المواصلات خريطة لطرقها وأنفاقها وموانيها ووزارة الزراعة خريطة لأراضيها القديمة والحديثة . ووزارة الكهرباء خريطة لمحطاتها وكابلاتها وكل منها يؤدى مرانه ويلعب دوره فى ملعب خاص لا تجمعهم استراتيجية واحدة أو خريطة واحدة .. وبعد كل ذلك فطن المهندس الكفراوى وزير التعمير السابق إلى ضرورة رسم هذه الخريطة كإستراتيجية عمل للتنمية القومية .. وعلى بعد منه تقوم وزارة التخطيط باعداد دراسة للتنمية الاقليمية وقد تنتهى منها عام 1996 م .. بينما القيادة التنفيذية مشغولة بمعركة الاصلاح الاقتصادى واخضاعه لآليات السوق كما كان منذ أكثر من أربعين عاماً . وتأتى الوزارة الجديدة بكل أثـقالها تحاول أن تدخل بمصر فى القرن الواحد والعشرين .. واذا كان منطق التنسيق والتكامل يتطلب خفض عدد الوزارات فاذا بها تزيد من هذا العدد وتزداد بذلك التداخلات فى الاختصاصات وأقرب مثل على ذلك فصل الاسكان عن التعمير عن المجتمعات الجديدة عن المرافق .. مع أنها جميعاً تعمل فى بوتقة واحدة اسمها التنمية العمرانية يرتبط فيها الاسكان والسكان فى المدن الجديدة بالاسكان والسكان فى المدن القديمة مع ما يرتبط بذلك من طرق ومرافق وخدمات عامة تتحرك جميعها فى اطار الاستراتيجية القومية للتعمير التى تحددها خريطة مصر التى تؤهلها للدخول فى القرن الواحد والعشرين .. واذا كانت عملية الاصلاح الاقتصادى ومشكلة البطالة وقصور الخدمات قد أخذت الأولوية الأولى فى برنامج الوزارة الجديدة الا أنه كان من الأجدى أن تأخذ رسم خريطة مصر الأولوية قبل الأولى ففى اطارها تتحرك كل الأولويات المنهجية وكل المرحليات التنموية وكل التنظيمات الادارية وكل المخططات القطاعية بل هى صورة المستقبل التى يجب أن تسعى كل الهيئات والمؤسسات لتحقيقها .. إن رسم خريطة مصر لا يفهم منها أنها خريطة جغرافية أو مساحية جامدة توضح اتجاهات ومواقع التنمية المستقبلية بقدر ما هى أسلوب عمل واستراتيجية مع الزمان وفى اطار المكان وتوجهها مجموعة من القوانين واللوائح والقرارات التنفيذية . هى دعوة واعلام للخروج من الوادى الضيق إلى آفاق أوسع .. هى اعداد الدخول إلى القرن الحادى والعشرين بكل مستقبلياته السكنية والاقتصادية والاجتماعية والثـقافية .. ويعنى ذلك أن إعداد خريطة مصر المستقبل هى مشروع قومى أكثر منه دراسة علمية تقدم فى مجلدات وخرائط ولا تجد من يحركها .. هى مشاركة شعبية مع الأجهزة التخطيطية والتنفيذية للوصول إلى تحقيق أهداف الاستراتيجية القومية . من هذا المنطلق لا بد وأن تعيد القيادات السياسية والتشريعية والتنفيذية ترتيب أوراقها بحيث لا تطغى المشاكل العاجلة على المشاكل الآجلة بحيث لا تصبح إنارة قرية بيت البراج أو توفير الصرف الصحى لنجع البدارى أو مد طريق أو انشاء جسر يربط ضفتى ترعة الوادى مشكلة قومية تقوم عليها الدنيا وتقعد وتقدم عنها الأسئلة والاستجوابات فى مجلس الشعب والمحليات .

إن رسم خريطة مصر المستقبل سوف تعمل على تخصيص الأراضى للهيئات والمؤسسات والوزارات المختلفة خاصة ما لديها القوة القانونية أو الجديدة للاستيلاء على الأراضى التى ترغبها بمسببات أمنية أو استراتيجية تظهر بين الحين والحين ولا يمكن الوقوف أمامها أو حتى مناقشاتها والأمثلة على ذلك عديدة فى مواقع المجتمعات الجديدة أو المناطق السياحية خاصة على سواحل البحر الأحمر وخليج العقبة . إن إعداد خريطة مصر المستقبل لا تتعارض مع الأغراض الأمنية أو الدفاعية بل هى تخدم هذه الأغراض سواء باسلوب مباشر أو غير مباشر وذلك باعتبار المقومات الدفاعية جزء لا يتجزأ من الخريطة الاستراتيجية للدولة . والمهم فى كل ذلك أن تعرف كل هيئة مكانها وطريقها ودورها فى التنمية المستقبلية لمصر ، واذا كان للدولة دستورها الذى ينظم الحياة السياسية فيها ، فإن خريطة المستقبل تعتبر الدستور الذى ينظم خطط التنمية القومية والاقليمية والمحلية وينسق بينها ومن خلالها تتحرك كل الأجهزة التنفيذية لأداء دورها فمن خلالها يمكن رسم الخريطة الانتاجية والخريطة التعليمية والخريطة الثـقافية والخريطة الاعلامية والخريطة الصحية والخريطة السكانية .. لقد عانى الفكر التخطيطى طويلاً خاصة فى الدول النامية من الانفصال الشبكى بين برامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية وبرامج التنمية العمرانية .. ولم يقتنع بنظرية التكامل بين المجالات الثلاثة الا القليل من الدول النامية ومنها دول النمور الست فى جنوب شرق آسيا التى بدأت تشق طريقها بسرعة حتى كادت تناطح الدول المتقدمة والغنية فى العالم . واذا كان نصر أكتوبر قد تم فى إطار خريطة حربية تتحرك من خلالها النظريات العسكرية عرفت كل منها مكانها ودورها وأهدافها فى تكامل وتنسيق فائق أدى فى النهاية إلى تحقيق الأهداف الاستراتيجية المرسومة وكانت تتحرك فى مرونة وفاعلية عندما كانت تتعامل مع المتغيرات التى طرأت على الميدان فانه بهذا المفهوم وبهذه العقلية يمكن رسم خريطة مصر المستقبل .

إن رسم خريطة مصر المستقبل ليس مجرد عملية تنتهى بانتهاء اعدادها ولكنها وسيلة ونظام لتكامل وتنسيق العمل التنفيذى وتوجيه مراحله على المدى الزمنى ، الأمر الذى يحتاج إلى جهاز قائم على اعداده ومتابعته وتقويمه وتجديده فى ضوء المتغيرات المحلية والدولية بل هى بمثابة غرفة العمليات التى توجه المنظومات العسكرية فى معركة النصر . الأمر الذى يتحتم عليه قيام جهاز قادر على وضع وتحريك وتوجيه خريطة مصر المستقبل تعمل على المستوى القومى والاقليمى بخلاف النمط القائم لأجهزة التخطيط الاقتصادى الاجتماعى التى تعمل منفصلة عن أجهزة التخطيط العمرانى .. فالعملية ليست وضع خطط محددة لفترة زمنية محددة ولكنها عملية مستمرة للتنمية القومية والاقليمية والمحلية تنتج عنها برامج تنفيذية على مدى زمنى محدد وبقدر استثمارى محدد لتحقيق هدف استراتيجى مرحلى . واذا كانت الدولة تضع فى أولوياتها استكمال مسيرة الاصلاح الاقتصادى وتأمين المجتمع من الداخل والخارج كهدف قريب وعاجل فإن ذلك لا يمنع من أن تضع الدولة فى أولوياتها أيضاً رسم خريطة مصر المستقبل حتى نستطيع أن ندخل القرن الحادى والعشرين على أساس علمى قوى وبخطوات ثابتة قوية يشارك فيها المجتمع بكل فئاته ومؤسساته .. هذا هو الطريق إلى ما بعد عام 2000 ، ان الطريق إلى القرن الحادى والعشرين يتطلب نمطاً جديداً من التشكيل الوزارى يقل فيه عدد الوزارات إلى أضيق الحدود وتزداد فيه الهيئات التنفيذية لتغطى كل المجالات .. هنا يمكن احكام التنسيق والتكامل فى اطار خريطة مصر المستقبل ..

word
pdf