همـــوم السكـــان…….والإسكــــاند / عبد الباقي إبراهيمكبير خبراء الأمم المتحدة للتخطيط العمراني سابقا
مع انتهاء العمل فى الإعداد لمؤتمر السكان وما قد تمخض عنه من توصيات وقرارات تعود بنا الذاكرة إلى النتائج التى تمخض عنها مؤتمر الاقتصاد والتوصيات التى انتهى إليها مؤتمر الإسكان.. وما قد يستجد من مؤتمرات وندوات فإنها جميعا تدور حول محور رئيسي واحد قوامه الضغط السكانى الرهيب على الموارد المتاحة فى الوادى الضيق الأمر الذى لابد معه من توجيه الانفجار السكانى خارج هذا الوادى وهذا الانفجار لا يمكن توجيهه بإشارات الأسهم ولكن بحركة قومية واستراتيجية عمرانية تلتزم بها كل القطاعات وكل المؤسسات ويفكر جديد تلتزم به كل الدراسات وكل المشروعات.. وعملية الانفجار السكانى فى جسم مصر كالدمل فى جسم الإنسان إذا ظهر على السطح سهل تفجيره وعلاجه بمسكن موضعي أما إذا مد إلى الداخل كما هو حادث فى مصر فيحتاج الأمر إلى عملية جراحية عميقة تحتاج إلى مسكن كلى.. وهموم السكان تنحصر فى معالجة الزيادة المستمرة فى معدلات الزيادة السكانية المضطردة ومحاولة تفادى تفاقمها وانحصر الفكر فى هذا الاتجاه على مدى الربع قرن الماضى على ضبط حركة السكان بين الريف والحضر.. وانتهى هذا الفكر إلى تفاقم المشاكل فى كل من الريف والحضر معا.. بالرغم من الدعوات المستمرة على مدى الربع قرن إلى ضرورة الخروج من الوادى الضيق.. ولا تزال هذه الدعوات والنداءات تظهر فى الندوات والمؤتمرات وتنتهى بتكرار نفس القرارات والتوصيات.. والتساؤل الآن إلى متى تستمر هذه الصورة المتكررة. تشير بعض المؤشرات إلى تراجع معدلات الهجرة من الريف إلى الحضر فى بعض المحافظات وذلك بسبب مجهودات التنمية الريفية فى القرية. بعد أن توفر فيها ماء الشرب والكهرباء وأقيمت فيها الخدمات الصحية والتعليمية والثقافية ويعنى ذلك أن تراجع الهجرة إلى الحضر يقابله فى نفس الوقت زيادة فى معدل سكان الريف.. والريف فى حد ذاته يعانى من ضغط سكاني كبير تماما كما يعانى منه الحضر.. هذا فى الوقت الذى زادت فيه تطلعات المجتمع الريفي إلى مزيد من المتطلبات فدخلت الثلاجة ثم الغسالة المسكن الريفي وزاد بالتبعية استهلاك الكهرباء.. ثم جاء الفيديو مضيفا نوعا آخر من الاستهلاك هو استهلاك الطاقة البشرية التى تسهر أمام الفيديو ساعات طويلة من الليل.. كما انتشر التعليم فى الريف وحمل أبناء الفلاحين الشهادات التى تؤهلهم للعمل الوظيفي فى مزيد من مرافق الخدمات وتراجعت معدلات الإنتاج الزراعي والحرفي.. وزادت المتطلبات المعيشية للفلاح فسافر إلى الدول العربية سعيا وراء الرزق وجلب العملات الحرة التى تفيد اقتصاديات مصر ويعود ليبنى له مسكنا جديدا على النمط الحضري إشباعا لرغباته وتطلعاته ويتحول المسكن الريفى إلى عمارة سكنية ويختفى الفارق العمرانى بين الريف والحضر .. ويمتد سرطان العمران على الأرض الزراعية قادما من المدينة من جهة والقرية من جهة أخرى حتى يلتحما معا فى كيان عمرانى أكبر .. وتزداد الحاجة إلى المرافق والخدمات وتتدخل الدولة بكل ما لديها من إمكانيات لتوفير هذه الخدمات إشباعا لرغبات الجماهير .. فيستقر العمران ويثبت أقدامه فى وسط الرقعة الزراعية المحدودة ويستمر فى الامتداد مستقطعا المزيد منها .. وتستمر الحكومات المتتالية تواجهها التحديات بصفة دائمة لا تنتهى .. وتدخل الجامعات المناطق الريفية مستقطعة أراضى أخرى لتحتاج الى مرافق و خدمات أخرى .. ثم تجذب إليها قطاعات أخرى من السكان لهم احتياجاتهم السكنية والخدمية .. وتستمر الحركة .. وتتفاقم المشاكل وتزداد هموم السكان .. وترتبط هموم السكان بهموم الإسكان الذى عقدت له المؤتمرات والندوات ووضعت له الخطط والمشروعات كلها تتجه إلى حل مشاكل الإسكان الحضرى فى الحضر …ويبقى الإسكان الريفى فى كل هذه الخطط وهذه المشروعات بعيدا عن التقديرات والريف يتحول إلى حضر فالقرى تتحول إلى مدن والمدن تتحول أحياؤها إلى قرى وجميعها تأكل ما تبقى لمصر من رقعة خضراء . وإذا كان المجتمع الريفى الذى يمثل 60? من السكان لا يخضع إسكانه للخطط القومية فالمجتمع الحضرى الذى يمثل 40? من السكان تهتم الدولة بإسكان حوالى 30? منه والذى يتمثل فى إسكان ذوى الدخل المحدود أى أن خطط الدولة تهتم بإسكان 12? من السكان . وهنا تقوم الهيئات والمؤسسات بوضع النماذج والتصميمات لهذا النوع من الإسكان للوصول به إلى أقل تكلفة ممكنة وتقدم للمواطنين أكبر عدد من الوحدات السكنية فى أقل مدد ممكنة وتظهر المشروعات العاجل قبل مشروع المائة يوم فى العاصمة وفى غيرها من المحافظات فتبنى الوحدات السكنية بنفس الاسلوب بنفس المسطحات ثم ما تلبث أن تتحول هذه التجمعات السكنية بعد سنوات قليلة إلى مناطق متخلفة صحيا واجتماعيا وتضيع بذلك الاستثمارات التى أنفقت عليها وعلى المرافق والخدمات التابعة لها وتضاف إلى المدن التى تقع فيها أعباء عمرانية جديدة عليها . ويستمر العمل بنفس النماذج من الإسكان الشعبى .. ويستمر البحث عن أنماط جديدة وتعمل أجهزة البحوث فى جانب والجهات التنفيذية لا تستطيع انتظار النتائج وتستمر فى بناء مالديها من نماذج وقد تعهد إلى المقاولين بالتصميم والتنفيذ وتتكرر الصورة عاما بعد عام .. ويعلن عن إنشاء الآلاف المؤلفة من الوحدات السكنية ولا تلبث هذه الأرقام أن تدخل بعد فترة لتمثل حجما لمناطق سكنية متخلفة تضيف أعباء أخرى على الدولة . وتستمر الحلقة المفرغة .. وتعقد الندوات والمؤتمرات وتصدر التوصيات ولكن عجلة الزمن أسرع من أن تتوقف لنقل التوصيات إلى برامج ومشروعات . وتتكرر الندوات وتتكرر التوصيات وتتدخل الأراء لإنقاذ الموقف بالسماح لزيادة إرتفاعات المبانى بحجة وجود الأرض والأساسات والمرافق .. فترتفع العمارات ويزيد الضغط على المرافق والمرور وتتحول القوانين إلى استثناءات فتظهر الأبراج العالية وتتعدى الإرتفاعات ما هو مرخص به ولا تتحرك الأجهزة الرقابية والتنفيذية بحجة ضروريات الحياة ولشدة أزمة الإسكان .. وبعد فترة تنهار بعض العمارات فتقوم الدنيا وتبدأ المحاكمات . ومن ناحية أخرى يزداد الضغط على المرافق والخدمات فتتفاقم مشاكل المرور فتدخل الدولة بمشروعات كبيرة لبناء مواقف متعددة الأدوار لحل جزء من المشكلة فى الحال .. وهى فى واقع الأمر تزيد من حدتها بعد فترة قصيرة من الزمان . وفى جانب آخر تتفاقم مشاكل النظافة وتظهر أمراض الصيف فتتدخل الدولة بمشروعات كبيرة للصرف الصحى والمياه فى المدن الكبرى لتفى باحتياجات الملايين فيها واحتياجات مئات الآلاف من البشر الذين يفدون إليها سنويا ليقيموا فيها ويزيدوا من المشكلة مرة أخرى بعد فترة زمنية أخرى وتستمر التحديات ويستمر البحث عن حلول جديدة لمشاكل جديدة والحلقة لا تنتهى – وقوانين الإسكان لا تكاد توضع لعلاج هذه المشاكل حتى تلبث أن تتغير لمواجهة مشاكل جديدة فقدت أهميتها وصلاحيتها . وتوضع الخطط القومية للإسكان ولا تلبث أن تتحول بعد فترة وجيزة إلى خلفية علمية تبدأ منها دراسة أخرى لخطط أخرى فالفترة الزمنية بين التخطيط والتنفيذ قصيرة جدا لا تستطيع أن تتهيأ فيها الأجهزة المختصة أو تنتظم . يقول احد المخططين ممن زاروا القاهرة اخيرا ان حل المشاكل القائمة فيها لا يتاتي الا عن عرقلة المرور واجبار الناس علي البحث عن مخارج لهم خارج الرقعة البنائية. وليس عن طريق بناء الكبارى او انشاء مواقف متعددة الطوابق أو شق لانفاق علي الأقل في المراحل الأولي للتنمية العمرانية. وحل مشكلة الاسكان والمرافق في المدن الكبرى هو اهمالها وتوفير المساكن والمرافق في اماكن اخرى خارج هذه المدن واجبار الناس علي التحرك اليها.وكلما انشأت مشروعات في المجتمعات القديمة ساعدت علي استقرار الناس فيها علي الرقعة الضيقة من الوادى الأخضر… والمخطط هنا لا يدرك ان القرار يصدر عن المجالس المحلية والتشريعية التي تتحرك في ضوء المتطلبات اليومية للناس أكثر منها فى ضوء التصورات المستقبلية التي قد تتعارض مع بعض الحلول العاجلة. ودائما ما تصدر القرارات التنفيذية للمشروعات العاجلة مغلفة بالفكر العلمي للتخطيط الطويل الاجل دون ان تتواجد الاجهزة التي تحوله من دائرة الفكر الي دائرة البرامج والمشروعات والاستثمارات ثم اللوائح والتشريعات التي تضمن ربط العاجل بالاجل.. وهذه عملية تنظيمية ادارية تتميز بها الدول المتقدمة عن الدول المختلفة. وتستمر هموم السكان بينما تعمل اجهزة التخطيط المتعددة لمواجهتها دون تنظيم او رابط فهي تعالج من الناحية الاقتصادية والاجتماعية علي المستوي المركزى في وزارة التخطيط ومن الناحية العمرانية في جهاز التخطيط العمراني بوزارة التعمير او في جهاز تنمية القرية في وزارة الحكم المحلي وبالتالي في المحليات وجميعها تسعي الي حل المشاكل اليومية للمواطنين دون الالتزام بالاستراتيجية القومية التي تستدعي توجيه التنمية الاقتصادية والاجتماعية والعمرانية خارج الرقعة المأهولة بالسكان وذلك بتوفير عوامل الجذب في الخارج اولا ثم توفير عوامل الطرد من الداخل والربط بينها في عملية تنظيمية مستمرة لإعادة توزيع السكان والاسكان. ومن هذا المنطلق فان نجاح أي مشروع استثمارى منفذ في اطار الخطة القومية يقاس بمدى تحقيقه للاستراتيجية العمرانية للدولة تحقيقا جزئيا او كاملا. فقد يكون المشروع من الناحية الشكلية ناجحا في مواجهة المشاكل العاجلة ولكنه من ناحية تحقيقه للاستراتيجية العمرانية فاشلا وذلك لتضارب نتائجه النهائية باهداف هذه الاستراتيجية. الامر يتطلب اعادة النظر في اهداف الخطط القومية التي تسعي الي زيادة الدخل القومي بنسب معينة.. والخطط القومية هنا تقاس بالارقام وما يمكن تحقيقها منها سنويا.. ولا تقاس بمدى تحقيق هذه الارقام لأهداف الاستراتيجية العمرانية لامتداد الرقعة السكانية خارج الوادى الضيق. وإذا كان بناء المدن الجديدة يحقق جزئيا من أهداف الاستراتيجية العمرانية إلا أن الاستراتيجية في حد ذاتها هي حركة قومية تتعامل مع المجتمعات القائمة كما تتعامل مع المجتمعات الجديدة بكل أحجامها وبكل أغراضها وهي حركة قومية تحرك التنمية القطاعية بجوانبها الاقتصادية والاجتماعية كما تحرك التنمية العمرانية بأبعادها المكانية. ومفتاح الحل ليس في رسم السياسات أو وضع المخططات أو عقد المؤتمرات والندوات بقدر ما هو في تنظيم العملية التخطيطية علي كافة المستويات وبالتالي تنظيم الاجهزة التى تقوم بها هذا هو الفرق بين التحضر والتخلف . |
همـــوم السكـان…….والإسكــانcpas2019-12-11T12:44:29+00:00