واحات توشكى
دكتور عبد الباقي إبراهيم
كبير خبراء الأمم المتحدة للتنمية العمرانية سابقاً
مدينة توشكى الجديدة عاصمة الإقليم الذي يحمل نفس الاسم ليست كغيرها من المدن الجديدة فلا تسري عليها نفس المعايير التخطيطية ولا تخضع لنفس الأساليب التقليدية التي تطبق في وضع المخططات العامة ، ولا تحمل نفس الملامح المعمارية والعمرانية ولا تعامل مثل غيرها من المدن الجديدة، فمدينة توشكى الجديدة هي أقرب إلى طبيعة الواحات، بل هي مجموعة من الواحات التي تضم مجموعات من المنظومات العمرانية.. تنتشر في غابة كثيفة من النخيل تغطي كل المساحة المخصصة للمدينة على شكل جيوب عمرانية من وحدات جوار لكل منها خصائصها واستعمالاتها، وتربطها شرايين من الطرق التي تغلفها أشجار النخيل التي تضم بينها مجموعات من النباتات الصحراوية، تتحرك على طرقها السيارات حيث تشاهد مباني وحدات الجوار في الواحات من خلال أشجار النخيل التي تلفها وتظلل كل أرجائها.. الواحة الأولى تضم المباني الرسمية الإدارية والخدمية والتجارية والترفيهية والثقافية، ويتوسطها المسجد الكبير بجانب مباني الاستقبال والضيافة الفندقية، ويحيطها مجموعات من مساكن الكوادر العليا والمستثمرين تتناثر في غابات النخيل بأفنيتها وملامحها الصحراوية وأشجارها الباسقة التي تتسلق حوائطها وأسطحها .. وترتبط مجموعات المساكن بشرايين من الطرق التي تخترق الغابة، وتوازيها ممرات للمشاة ومسارات للدراجات، وتتوسط كل مجموعة من مجموعات المساكن ملاعب للأطفال وحمامات للسباحة، وعلى جانب من الواحة الأولى تمتد جيوب الفنادق التي تستقبل المستثمرين والزائرين والسائحين، بحيث يستقل كل فندق في واحة صغيرة من غابات النخيل .. وتتوفر فيه كل وسائل الراحة والاستجمام يخرج منها روادها إلى خارج غابة النخيل ليمارسوا رياضات الصحراء وزيارة المواقع الأثرية ليعودوا منها إلى قلب الغابة حيث الراحة النفسية والطبيعية.
ولما كان الهيكل السكاني للمدينة الجديدة الذي قدر بحوالي مائة ألف نسمة في صورته النهائية غير واضح المعالم نظراً لعدم وضوح حجم ونوعيات ومستويات التوقعات السكانية في المشروع الجديد، الأمر الذي يرتبط بمرحليات التنمية والتعمير، وهي المرحليات التي تنبثق من البرامج التنفيذية للمشروعات الاستثمارية الزراعية والصناعية والسياحية توضح فيها نوعيات البشر المنتظر تدفقهم على المشروع الكبير، حيث تتحد نوعيات ومستويات العمالة الوافدة من القطاع الخاص، وذلك بخلاف نوعيات ومستويات العمالة اللازمة للقطاع العام والأجهزة الحكومية ومراكز البناء والاستيطان البشري، لكل ذلك فإن المعالم العمرانية للمدينة الجديدة يصعب تحديدها مسبقاً الأمر الذي يستدعي توفير المرونة الكاملة لمواجهة التدفقات السكانية المنتظرة وما تحتاجه من خدمات ومرافق، كما يستدعي الأمر تواجد الجهاز الاستيطاني الذي يستقبل ويرحب بالسكان الجدد ويوفر لهم المسكن المناسب في المكان المناسب في الوقت المناسب، ويضم هذا الجهاز بالإضافة إلى إدارة التنمية الاجتماعية والعمرانية إدارة للاستقبال والاستضافة المؤقتة بخلاف إدارة خاصة للمعلومات لديها كل البيانات عن المشروع الكبير سواء المخطط لها أو الجاري تنفيذها أو المنتظر تنفيذها من خلال الجداول الزمنية التي تعد وتجدد لهذا الغرض وتجهز إدارة المعلومات بكل وسائل الإعلام المرئي والمجسم والمكتوب إذ تمثل هذه الإدارة البوابة الرسمية لزوار المشروع الجديد من الشباب والطلبة والمواطنين والسائحين..
والمرونة التي يجب أن تتوفر لعملية التنمية العمرانية تتطلب البحث عن إشغالات مؤقتة لأنشطة مؤقتة تمارس في المواقع المخصصة للجيوب العمرانية التي تتناثر في أرجاء غابة النخيل، وفي مكان خارج حدود هذه الغابة يتم اختيار الموقع المناسب لمركز البناء الذي تتوفر فيه تجهيزات ومواد البناء التي تتطلبها المراحل التالية للتنمية العمرانية، كما تتوفر فيه نظم البناء المتوافقة مع البيئة التراثية والجغرافية والحضارية للمكان مدعمة بنماذج حية للأنماط المختلفة للمباني التي يتم إجراء البحوث العلمية والعملية عليها ، ويوفر مركز البناء أيضاً التصميمات المختلفة للمباني المختلفة حسب الحاجة وكذلك التصميمات المختلفة للمساكن المختلفة حسب المتطلبات الشخصية للأسر الجديدة المختلفة ، وحيث تتم عمليات البناء معبرة عن متطلبات الأسر كل على حدة في إطار من وحدة الطابع بعيداً عن النماذج النمطية، وهكذا تنمو المدينة بمختلف جيوبها المختلفة وبأصناف البشر المختلفة وبالاحتياجات المعيشية والحياتية المختلفة نمواً اجتماعياً مترابطاً ومتكاملاً كما تنمو مجموعات البشر الجديدة نمواً عضوياً مترابطاً متكافلاً متعاوناً، فإن بناء الإنسان هنا يتواكب ويترابط ويندمج مع بناء العمران.
إن علماء مصر وخبراءها الدوليين قادرون على إرساء دعائم الاستيطان البشري في واحات توشكى الجديدة وفي توابعها من المستوطنات البشرية الصغيرة التي تنشأ في ظل أنواع وطبيعة المشروعات الاستثمارية المختلفة، كما أن ثقافة الإنسان الجديد في الأرض الجديدة سوف تتطور وتنمو مع البيئة الجديدة وتنعكس بالتالي على طابع العمارة الجديدة بل وتنعكس كذلك على حياته اليومية في عاداته وسلوكياته ثم في إبداعاته الأدبية والفنية، حتى تتكون على مر الأيام ثقافته المحلية المتميزة، كما حدث لأهل النوبة من قبل مع الفارق المادي والمعنوي والمتطلبات المعاصرة، ومعنى كل ذلك أن البناء المستمر للعمران الجديد لا بد وأن يتكامل مع البناء المستمر للإنسان الجديد في الواحات الجديدة، الأمر الذي يتطلب الآليات المؤهلة لقيادة ودفع عمليات التنمية البشرية معاً مع التنمية العمرانية.
وإذا كان البعض من المخططين المبتدئين يرى أن مدينة توشكى الجديدة سوف يبلغ تعدادها حوالي مائة ألف نسمة في صورتها النهائية بعد عشرين عاماً وبالتالي يضعون لها صورتها المحددة باستعمالات الأراضي والشوارع والطرقات والخدمات فهم بذلك يعيدون تجربة المدن الجديدة القائمة والتي لم تحقق أهدافها التخطيطية التي وضعت لها من قبل على خرائط وفي مجلدات انتهت الفائدة منها في ظل المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي طرأت عليها.. كما أن المخططين المبتدئين قد أغفلوا في مخططاتهم الآليات اللازمة لإدارة العمران خلال النمو المتواصل لواحات توشكى الجديدة، وهو ما لا ينفع معه نظام المسابقات والمناقصات. هذه مسئولية الهيئة القومية لمشروع توشكى التي تتولى أعمال التنمية الاقتصادية والاجتماعية والعمرانية وتوالي وتتابع برامجها التنفيذية التي تهدف في المقام الأول إلى جذب أكبر قدر من البشر في الوادي القديم وتوطينهم في المشروع الجديد في إطار الاستراتيجية القومية للاستيطان.
