وقفة لمراجعة التصميم المعماري لمكتبة الإسكندرية

وقفة لمراجعة التصميم المعماري لمكتبة الإسكندرية2019-11-21T14:09:53+00:00

وقفة لمراجعة التصميم المعماري لمكتبة الإسكندرية

للدكتور /عبد الباقي إبراهيم

 

بعد إعلان أسوان الخاص بإنشاء مكتبة الإسكندرية ومع تدفق التبرعات المالية لهذا المشروع الحضاري الكبير وقبل اتخاذ الإجراءات الخاصة بتنفيذ المشروع الفائز في المسابقة الدولية التي شارك فيها آلاف المعماريين من كل أنحاء العالم لابد من وقفة متأنية لمراجعة الملاحظات الفنية التي أثيرت حول تصميم هذا المشروع. وذلك من خلال المنطلقات التالية:
أولا: إن إحياء مكتبة الإسكندرية يعتبر حدثا حضاريا ضخما في تاريخ مصر ويعيد إليها أمجادها العلمية والثقافية التي أثارت العالم.

ثانيا: إن المسابقة المعمارية تعتبر من أنسب الوسائل للحصول على أحسن الأفكار المعمارية بناءا على المعايير التي تحددها لجنة التحكيم وليس بالضرورة هي أنسب المشروعات. كما أنها وسيلة قوية للإعلام لمثل هذا المشروع الكبير وقرار لجنة التحكيم باختيار المشروع الفائز والتوصية بتنفيذه قرار جدير بالاحترام والتقدير وليس بالضرورة ملزم بالتنفيذ كما تنص لوائح المسابقات التي وضعها الاتحاد الدولي للمعماريين الذي أشرف على المسابقة.

ثالثا: إن أي مشروع معماري كلما زادت أهميته كلما زادت أهمية طرحه للمناقشة والمراجعة سواء من قبل الرأي العام أو من قبل الرأي المتخصص الذي يمثله المعماريون والمهندسون.

فقد تشعبت الآراء حول تقويم التصميمات الفائزة بالثلاث مراكز الأولى فيما بين مؤيد ومعارض وهذه سمة من سمات حرية الفكر وإثراء العمل المعماري.. وإذا كانت لجنة التحكيم كما ظهر من تعليق رئيسها كانت تسعى إلى البحث عن الرمزية التي يمكن أن تعبر عنها مكتبة الإسكندرية خاصة بعد اندثار كل آثارها.. فلم يبق أمام هيئة التحكيم إلا أن تبحث عن الرمزية من خلال الأشكال الطبيعية مثل قرص الشمس أو شكل الخليج الدائري الموجود أمام موقع المكتبة.. وقررت اللجنة اتخاذ الدائرة كعنصر ومعيار أساسي للرمزية المعمارية عند تقويمها للمشروعات المقدمة, وقد وجدت ضالتها في المشروع الأول الذي استعمل في تصميمه شكل المخروط الدائري الناقص بشكل واضح وصريح ومباشر قطره أكثر من 100 متر يغطيه سقف زجاجي دائري ناقص ومائل نحو الجنوب الشرقي ليجمع كل أشعة الشمس وهو مركب في مجموعة من الأشكال الهندسية التي تسعى إلى إضفاء الضوء على مكونات المشروع التي صممت على شكل مصاطب متدرجة تغطيها هذه السماء المضيئة.
وقد أفاض المتسابق في شرح الرمزية الحضارية لهذا الشكل المبتكر والذي يختلف اختلافا جذريا عن جميع المشروعات التي قدمت للمسابقة حيث اعتبر المتسابق الحوائط الخارجية للمخروط الناقص بمثابة لوحة فنية تملؤها الحروف اللاتينية والرومانية والهيروغليفية والعربية التي تعبر عن الفكر والثقافة الذي تنشره مكتبة الإسكندرية .. ويلاحظ أن ثلثي المبنى المخروطي الناقص قد دفن في باطن الأرض ولم يظهر من المبنى غير هذا الحائط الهلالي الشكل وهو كل المعالم الظاهرة للمكتبة.

لقد صرح رئيس لجنة التحكيم وهو أمريكي الجنسية أن اللجنة كانت تسعى إلى البحث عن شكل تتميز به مكتبة الاسكندرية كما سبق في مسابقات معمارية أخرى مثل أوبرا سيدني أو مبنى الاستعلامات (قوس النصر) في منطقة الديفانس في باريس وهذا هو المدخل المعماري لتقويم المسابقات المعمارية في الغرب المتقدم تكنولوجيا والقادر ماليا. هكذا دون اعتبار لأي عوامل أخرى طبيعية أو اقتصادية أو إدارية أو وظيفية أو أمنية وهي عوامل جاءت في نص برنامج المسابقة.

لقد تضاءلت أمام لجنة التحكيم ضريبة هذا الاتجاه الذي سوف يزيد من تكاليف الإنشاء لمقاومة المياه الجوفية تحت الأرض بحوالي سبعة عشرة مترا أو في تصنيع قرص الشمس الزجاجي الذي يغطي المكتبة بقطر حوالي مائة متر مع ما يسببه من زيادة في طاقة التكييف وعناية بتصريف مياه الأمطار.. ونذكر هنا الضريبة التي دفعتها استراليا في إنشاء أوبرا سيدني التي قدرت تكاليفها بثمانية ملايين جنيه إسترليني ارتفعت في النهاية إلى اثنين وأربعين مليونا. فقد بسببها مصمم المشروع أتعابه بل طاردته نقابة المعماريين في استراليا حتى خرج منها.. ومع ذلك فقد تحملت استراليا هذا العبء الكبير لتبني لها صرحا معماريا متميزا أصبح رمزا لاستراليا الحديثة التاريخ مثل الأهرامات بالنسبة لمصر… وهنا يتساءل البعض عن مدى قدرة المشروع الفائز على تحقيق مثل هذه الرمزية القومية التي مثلتها أوبرا سيدني أو “قوس النصر” الجديد في باريس. وقد شيدا على قاعدتين أعلى من سطح الأرض… بينما المشروع الفائز يختفي ثلثاه تحت الأرض!!
ويقول البعض هل تتحمل الدول الفقيرة أعباء هذا الإبداع الفني العظيم .. أم هي مسئولية العالم في إنشاء هذا الصرح الكبير.. بحوالي 160 مليون دولار.. هذا في الوقت الذي حاول فيه بعض المتسابقين تقديم أفكار تتسم بالوظيفية البحتة ويقول أحدهم أن مشروعه لا يتكلف أكثر من 25 مليون دولار ناهيك عن أعباء الصيانة والتشغيل… ولكن البعض الآخر يقول إذا ظهرت الإبداعات اختفت الاقتصاديات في المسابقات المعمارية الدولية… فالوظيفية هنا تتحقق بالملايين وقد تتحقق لنفس العنصر بالملاليم نسبيا.. ويبقى موضوع في غاية الأهمية وهو أن التصميم الفائز قد فقد كل عوامل الأمن والأمان سواء من الجو أو البحر وهو سوف يكون خزانة للتراث العالمي.

والمعماري المصري يقف من هذه المعركة الفكرية حائرا بين مقتضيات الحال في بلد فقير وبين الانطلاقات اللا محدودة للمتسابقين من أنحاء العالم المتقدم, وهم يعيشون ويتعايشون مع هذه الانطلاقات الفكرية التي لا يعوقها عائق تراثي أو إقتصادي أو وظيفي… وتكنولوجيا العصر قادرة على حل جميع المشاكل.. وبعد ذلك تتساءل أصوات أخرى عن الموقف الحضاري لمصر في هذه الفترة من الزمان الذي تقام فيه الصروح العمرانية في مصر بتصميم أجنبي وتكنولوجيا أجنبية ومواد أجنبية وعمالة أجنبية… حتى لو كانت بأموال أجنبية… هذا موقف حضاري آخر قد يتعارض مع الانطلاقات الفكرية والرمزية المعمارية… ويحتار المتسابق المصري مرة أخرى, ويحتار معه شباب المعماريين الذين يشاهدون هذه المسرحية الأوبرالية التي لم يعودوا يفهمون موسيقاها أو كلماتها..
وفي هذه الحيرة.. وعند كل حيرة يلجأ الانسان إلى العقيدة الاسلامية ليحتكم إليها.. هل في ذلك إسراف أو تقتير أو في ذلك وسطية في التقدير أو أن في ذلك مظهرية وتظاهر, إذ يقول سبحانه وتعالى: ” أتبنون بكل ريح آية تبعثون* وتتخذون مصانع لكم تخلدون* وإذا بطشتم بطشتم جبارين* فاتقوا الله وأطيعون*” صدق الله العظيم

وقبل أن يفوت الأوان لابد من وقفة….

word
pdf