هل تعلمنا من دروس العشوائيات وخسائرها

هل تعلمنا من دروس العشوائيات وخسائرها2019-12-02T09:33:14+00:00

الأهرام الأقتصادى 1993

هل تعلمنا من دروس العشوائيات وخسائرها

    د / عبد الباقي إبراهيم

كبير خبراء الأمم المتحدة للتخطيط العمراني سابقا      

 

لم تظهر المناطق العشوائيه فجأة ، ولكنها بدأت منذ سنوات طويلة ، وظلت تزداد وتتسع أمام عيوننا ، ونحن نتجاهل  ونتغافل ، إلى أن أصبحت مصدر خطر على المجتمع كله .

وهكذا كل خطر !يبدأ نقطة صغيرة ، وبالاهمال ، والتراخي ، والتأجيل ، والتهوين ، يتحول مع الزمن إلى مشكلة ، ثم إلى كارثة .

منذ عشر سنوات كانت تكفي عشرة ملايين جنيه لمواجهة العشوائيات الان هل تكفى ثلاث مليارات جنيه ؟

فهل نتعلم من دروس العشوائيات وخسائرها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية ؟

بعد الخروج من عنق الزجاجة الاقتصادي فلنحذر عنق الزجاجة العمراني

والخبير والأستاذ عبدالباقي ابراهيم ينبه إلى أن مصر تكاد تخرج من عنق الزجاجة اقتصادياً ولا بد من التنبه والحذر كيلا نجد أنفسنا فى عنق زجاجة آخر عمرانيا .

رصدت الدولة 3.8 مليار جنيه ـ كما تقول الصحف ـ لتطوير المناطق العشوائية فى عشر محافظات وقد تم اعتماد 133 مليون جنيه فى موازنة هذا العام و 251 مليون جنيه فى خطة 93 / 1994 م . وقد جاء ذلك فى اجتماع مجلس المحافظين برئاسة رئيس الوزراء . وعلى الجانب الأخر يؤكد السيد الوزير حسب الله الكفراوي وزير التعمير ـ كما تقول الصحف ـ على أن الوزارة بصدد وضع خطط تنمية بعيدة المدى لأقليم القاهرة الكبرى بهدف تنظيم التجمعات السكانيه بالاقاليم وتخفيف الضغط السكاني وتطوير المناطق المحرومه وامدادها بالخدمات والمرافق ـ وذكرت نفس المصادر أن نسبة الوحدات السكنيه التي أنشئت بطريقه غير رسمية أو عشوائية وبالمخالفة لقوانين البناء والحفاظ على الأراضي الزراعية قد بلغت 84 % من جملة ما تم انشاؤه فى العاصمة وحدها ، هذا فى الوقت الذي تشير فيه الصحف إلى مناقشة لجنة الاقتراحات والشكاوي بمجلس الشعب للإقتراح المقدم اليها بشأن تنظيم العلاقه بين المالك والمستأجر وذلك بزيادة ايجار المباني التي أقيمت منذ أكثر من 50 عاماً بنسبة 25 % ومنذ أكثر من 40 عاماً بنسبة 20 % وأكثر من 30 عاما ً بنسبة 15 % وأكثر من 20 عاماً بنسبة 10 % وأكثر من 10 سنوات بنسبة 5 % وأقل من 10 سنوات بنسبة 2.5% وما إلى ذلك من استكمالات لهذا الاقتراح . ويظهر أن هذه التوجهات قد تجمعت وظهرت فجأة على السطح على أعقاب ظاهرة الارهاب . مع أن الطبول قد دقت بخصوصها على مدى الثلاثين عاماً الماضية دون سميع أو بصير . الأمر الذي يؤكد عدم القدرة على التبصر بالعواقب وأن القرار يتخذ عادة كرد فعل مباشر للأحداث فور حدوثها كما حدث فى أعقاب زلزال 1992 م حيث تحركت جميع الأجهزه تحاول تفادي أخطاء الماضي وعادت الامور إلى ما قبل الزلزال فى الاشراف والتنفيذ إلى أن هدأت العاصفة وتوقفت التوابع وتوقفت معها ردود الأفعال ..

ويظهر ان الأمور تتحرك تبعاً لمتطلبات الحاضر دون اعتبار لتقلبات المستقبل ومتطلباته كما يظهر أننا لم نتعلم من تجارب الماضي لنحدد خطواتنا للمستقبل ولكننا نكرر نفس التجارب لمواجهة نفس المشاكل ونعالجها بنفس الاسلوب كرد فعل مباشر للأحداث فور حدوثها .

وعودة إلى الماضي لنرى الحقيقة .. فى بداية الستينيات انطلقت الدعوة إلى ضرورة امداد الريف بالخدمات والمرافق لصد الهجرة عن القاهرة فتسابقت المحليات إلى بناء الجامعات فى قلب الأراضي الزراعية تستقطع الخير من الأرض لتقيم عليها مراكز قوية تجذب اليها العديد من الأنشطة الاسكانية والخدمية التي تستقطع بالتالي مزيداً من الخير من الأرض الزراعية حتى كادت المدن تتصل بالقرى مكونة بذلك شبكات عمرانية متلاحمه تضم مزيدا من البشر الذين يسعون للمزيد من المرافق ، وهكذا تتفاقم المشاكل فى حلقات متتالية تفجر معها بوادر الخطر الاجتماعي والصحي والأمني وكان نهايتها العنف والتطرف فى كل الاتجاهات . وعندما عرضت البدائل التخطيطية أمام المسؤلين فى ذلك الوقت لبناء هذه الجامعات فى التجمعات السكنية الصغيرة على الأراضي الصحراوية عند أطراف الرقعة الزراعية اعتبرت هذه البدائل تخلفا فكريا وسياسياً وحضريا ً . والأن وبعد أكثر من ثلاثين عاماً تتكرر نفس الأساليب ونفس التوجهات دون فائدة من دروس الماضي .

وتزدحم المدن والقرى وتستمر فى نموها العشوائي تحت نظر وسمع كل المسئولين إلى أن جاء الزلزال تحذيراً ونذيراً وهدأت التوابع وعادت الأمور إلى الاسترخاء حتى تفجرت ظاهرة الارهاب لتحرك النفوس لمواجهة هذا الخطر بامدد المناطق العشوائية بالخدمات والمرافق العامه تسليماً بها كأمر واقع واعترافاً رسمياً بوجودها .. كما كان فى الستينيات ثم فى السبعينيات .. وهكذا .. وعندما تعجز الدولة عن توفير كل الخدمات والمرافق تستمر المناطق العشوائية فى الامتداد والتوسع ثم تتفاقم الأمور مرة أخرى دون البحث عن الأسلوب الأنسب لايقاف هذه الظاهرة الخطيرة وتوجيه الفائض السكاني العمراني بعيداً عن الوادي الضيق .. واذا كانت الدولة تحاول تحقيق ذلك من خلال بناء المزيد من التجمعات السكنية الجديدة .. الا أن الوضع الراهن لعلاقة المالك بالمستأجر يعمل ضد هذا التيار باعتباره من عوامل تثبيت السكان فى أماكنهم الحالية يتزايدون ويتوالدون ويولدون معهم المشاكل والمخاطر .

واذا كان المجتمع قد أثبت قدرته على البناء لنفسه وبنفسه بهذه المناطق العشوائية فلماذا لا توظف هذه القدرة وتنظم آلياتها فى بناء المجتمعات العمرانية الجديدة بعيداً عن الأرض الزراعية على محاور التنمية الجديدة ..

ليس فقط فى المدن الجديدة ولكن أيضاً فى توابعها العمرانية من القرى الانتاجية بعيداً عن المناطق العشوائية الحالية بعد بتر الأجزاء المريضة منها وذلك فى اطار استراتيجية قومية للتنمية والتعمير تعمل على توجيه هذه الاستثمارات وهذه المليارات إلى حيث ما يجب أن يتواجد الناس وليس إلى حيث يتواجدون كما يرى البعض . . وهكذا يظهر التضارب بين الفكر المستقبلي الذي يدعو إلى الانتشار والفكر السياسي الذي يسعى إلى تكريس الوضع القائم وامداد كل المدن والقرى القائمة بالاسكان والمرافق والخدمات دون النظر فى المستقبليات . واذا كان امداد القرى بالكهرباء قد عاد على مجتمعاتها بالعديد من العواقب الاجتماعية والانتاجية بالرغم من مظهرها الحضاري .. فان امداد القرى بالمياه العذبة قد عاد أيضاً على نفس القرى بعواقب وخيمه فى غياب الصرف الصحي ، الذي أصبح متطلباً طبيعياً للوضع الحالي .. والصرف الصحي بالتالي سوف يزيل معه ما تبقى من الأرض الخضراء ويزيد من تكديس السكان فى هذه القرى كما زاد من تكدسهم فى المدن القائمة واذا كان مد شبكات الطرق بين المدن والقرى القائمة فى المناطق الزراعية قد ربط بينها كظاهرة حضارية الا أنها قد أفرزت العديد من العواقب فأصبحت الطرق الزراعية طرفاً صناعياً وجذبت اليها مزيداً من العمران والتعمير على حساب الأرض الزراعية . وهكذا يتم التناقض بين الفكر التخطيطي الذي يرى المستقبل القريب والمستقبل البعيد معاً والفكر السياسي الذي يسعى إلى ارضاء المجتمع فى القريب العاجل دون النظر إلى العواقب الآجلة التي قد تصل بالمجتمع في المستقبل إلى ضائقة اقتصادية واجتماعيه وأمنية لا يمكن تحملها .

انه لا يكفى أن تتحدد أهداف الاستراتيجيه القوميه للتنمية والتعمير فى صورة توجيهات عامة ولكن لا بد وأن تنقل إلى برامج تنفيذيه تلتزم بها كافة القطاعات فى صورة متكاملة وليس فى كيانات منفصلة بأمل التنسيق بينها .

وهنا يفضل الاسلوب التكاملي عن الأسلوب التنسيقي فى ادارة عمليات التنمية القومية اقتصادياً وعمرانياً واجتماعياً دون فاصل بينها . وحتى لا تصبح الوزارات أو الهيئات جزراً منعزلة تعمل كل منها بعيدة عن الأخرى . وحتى لا تتضارب الاختصاصات والقرارات .

واذا كانت المحليات تسعى إلى بناء الوحدات السكنية الجديدة لاستيعاب العائلات الذين سوف تزال مساكنهم فى المناطق العشوائية ، فان هذا التوجه لا بد وأن يجد مكانه فى التجمعات السكنية الجديدة حول القاهرة وهو الهدف الذي أقيمت من أجله هذه التجمعات . ويعني ذلك أن تفريغ القاهرة من الفائض السكاني فى المناطق المختلفة لا بد وأن يتم فى اطار منهجي يحقق أهداف الاستراتيجية القومية وذلك فى حركة مستمرة تعمل على دفع السكان من الداخل وتوطينهم فى الخارج بعيداً عن الأرض الزراعية ، بحيث يتم ذلك بواسطة أجهزة ارسال فى الداخل تعمل متناغمه مع أجهزة الاستقبال فى الخارج ، مع وقف أي مشروعات جديدة تقام فى القاهرة تساعد على جذب مزيد من السكان اليها مستقبلاً وان كانت تحل بعض مشاكلها الداخليه على المدى القصير . وهنا تقاس مثل هذه المشروعات على أساس جدواها الاستيطانية التي تحقق الاستراتيجية القومية أكثر منها على أساس جدواها الاقتصادية المباشرة . واذا كان للقاهرة امتدادها على الأراضي الصحراوية كما لغيرها من بعض المدن الا أن المدن والقرى فى المناطق الزراعية سوف تبقى لب المشكلة الاستيطانيه حيث لا مفر من استقطاع المزيد من الاراضي الخصبة يومياً إلى أن يغطي العمران أرض الدلتا بأكملها ، الأمر الذي ربما يعرض الأجيال القادمة إلى شبح مجاعة لا يستطيع الصمود أمامها . ومع ذلك لا تزال المحليات فى المناطق الزراعيه تطالب بمزيد من الاسكان والكليات والخدمات والطرق والصرف الصحي والكهرباء لتستقطب مزيداً من السكان وتستقطع مزيداً من الأرض الزراعية .

ان الحديث عن تعمير المناطق الصحراوية خارج الوادي الضيق لا يزال يتم بأسلوب الدعوات والمشجعات دون اجـــراءات أو تشريعات أو توجيه للاستثمارات . فالقاهرة التي تستوعب 20 % من سكان الدولة تستأثر بحوالي 40 % من استثماراتها .. فليس من العدل أن يدفع المواطن فى مدن وقرى الريف نفس القدر الذي يدفعه مواطن القاهرة من  مليارات ليتمتع الأخير بمشروعات الصرف الصحي ومترو الأنفاق وغير ذلك من الخدمات وفرص العمل . كما أنه ليس من العدل أن يتمتع مواطن التجمعات القديمة بالايجار الشديد الانخفاض بينما يضطر مواطن المجتمعات الجديدة إلى دفع أضعاف أضعاف زميله فى التجمعات القديمة ولا يتمتع بما يتمتع به من خدمات وفرص للعمل الاضافي . كما يتساوى مواطن التجمعات الجديدة ومواطن المجتمعات القديمة بكل الحقوق والواجبات بالنسبة للمرتبات أو الضرائب وأسعار الخدمات وان كانت تكاليف المعيشة فى المدن الجديدة تزيد فى المدن القائمه ، ويعني ذلك أن أي عوامل جذب تتوافر فى التجمعات الجديدة يزول أثرها أمام قوة الجذب الشديدة للمدن القديمة ، الأمر الذي لا يساعد على تحقيق الاستراتيجية القومية للتنمية والتعمير ، وبالتالي تستمر المدن القائمة فى التضخم العشوائي غير عابئة باللوائح والقوانين التي تحاول أن تمنعها من استقطاع الأراضي الزراعية والصورة واضحة جلية لما وصلت اليه عواصم ومدن وقرى المحافظات فى الدلتا والصعيد .

ان ظهور المناطق العشوائية ونموها على مدى الثلاثين عاماً الماضية تم تحت سمع وبصر كل المسئولين وفى غياب اللوائح والقوانين والأليات التي تعمل على تحقيق الاستراتيجية القومية للتنمية العمرانية . إلى أن جاء الزلزال ليهز النفوس لفترة قصيرة من الزمان استرخت بعدها العقول والأبدان إلى أن أيقظها العنف والارهاب وكان رد الفعل المباشر لهذه الظاهرة اعادة الأساليب السابقة مرة أخرى دون الاستفادة من تجارب الماضي القريب . هنا لا بد من وقفة صادقة للمراجعة والتقويم حتى تستقيم الأمور .

ويدفعنا هذا إلى البحث عن الآليات التي يمكنها تنفيذ الاستراتيجية القوميه للتنميـه والتعمير ، وهل هي فى وزارة التخطيط كما يتبادر إلى الذهن ، وان كان ينقصها البعد المكاني الذي تتعامل معه وزارة التعمير المعنية بالمرافق والاسكان ، وهل هي وزارة الحكم المحلي التي تتولى التخطيط لمشروعات التنمية المحلية ومنها تطوير المناطق العشوائية فى المدن والقرى .. ولكل من هذه الجهات قوانينها ولوائحها التنفيذية ، فللاسكان قوانينه ، والتخطيط العمراني قانونه ، وللزراعة قوانينها ، وللمحليات اختصاصاتها ، وللأثار تشريعاتها ، وللقوات المسلحة متطلباتها واستراتيجياتها وأهدافها .. وفى خلال هذه القوانين المتشابكة تجد المناطق العشوائية طريقها سهلاً يمتد نهاراً جهاراً أمام عجز الأجهزة بكل قوانينها ولوائحها عن مواجهة هذا الخطر الفادح الذى يلتف كأحزمة متعرجة حول المدن والقرى . وهكذا يحتم البحث عن الأسلوب الأمثل لتنظيم وادارة الاستراتيجيه القومية للتنمية والتعمير بتوفير الكوادر القادرة الفاهمة المدربة ، فأى استثمار فى تهيئة هذه الكوادر هو استثمار له مردوده الاقتصادي فى تنمية المناطق الجديدة حتى تتقلص ظاهرة المناطق العشوائية التي سوف تتحول فراغاتها بعد عمليات الازالة الى مناطق خضراء تتنفس فيها الجماهير المكدسه فى المدن .

واذا كانت الدولة تحرص كل الحرص على ازدهار صناعة السياحة بكل الوسائل فان أخشى ما نخشاه فى هذه المجال أن تمتد المناطق لتحيط بالقرى والمناطق السياحية كما بدأت بدايتها تظهر فى الغردقة وشرم الشيخ ومدن القنال وعلى طريق الساحل الشمالي وغيرها من المناطق ، الأمر الذي يستدعي المبادرة بوضع الأسس والمعايير والقواعد واللوائح والأجهزة التي يمكن من خلالها التصدي لأي بوادر عشوائية ، فالوقاية خير من العلاج ، وبهذا المفهوم يمكن الوقاية من العشوائية العمرانية مستقبلاً بالتواكب والتكامل من علاج الظاهرة القائمة فى عملية واحدة وفى اطار الاستراتيجية القومية للتنمية والتعمير . وبهذا المفهوم يمكن اعادة النظر فى أولويات التنمية القومية بالاسلوب العملي والفكر المستقبلي بعيداً عن ردود الأفعال السريعة المتولدة عن ظواهر وقتية وكوارث طبيعية مع إعطائها كل الاعتبار والاستعداد لها بمفهوم توقع ما لا يمكن توقعه . واذا كانت هناك وقفة لم تطل طويلاً فى أعقاب زلزال 1992 م ، فلا بد من وقفة أطول مع توظيف كل الامكانيات التي تستطيع أن تحول الهدف إلى حقيقه واقعة .

واذا كانت مصر تكاد تعبر عنق الزجاجة فى طريق الاصلاح الاقتصادي فان أمامها عنق زجاجة آخر فى طريق تنفيذ الاستراتيجية القومية للتنمية والتعمير حفاظاً على الانجازات التي تمت فى طريق الاصلاح الاقتصادي وحتى لا تضيع فى المستقبل القريب نتيجة للضغط السكاني والعمراني المتزايد مع توابعه المتلاحقة والمتمثلة فى المناطق العشوائية ، وهكذا تعالج مشاكل المناطق العشوائية فى اطار الاستراتيجية القومية للتنمية والتعمير .

  د. عبد الباقى ابراهيم

 أستاذ بهندسة عين شمس

word
pdf